التصفيق.. بلاغة الجماهير الصامتة

«لماذا يصفق المصريون».. باحث مصري يحلل الظاهرة

TT

طوال قرون التصقت ظاهرة التصفيق بحياتنا الاجتماعية والسياسية، مارس البشر فعل التصفيق بلا وعي مسبق، إلى أن وضعت الظاهرة تحت مجهر البحث العلمي كوسيلة تدخل ضمن نطاق بلاغة الجمهور، والتعرف على نوعية الاستجابة التي يبديها الجمهور أثناء تلقيه الخطابات الجماهيرية، وأي نوع من التفاعل يبديه المتلقي كاستجابة لخطيب ما، ثم كيف يشارك من خلال هذا التفاعل في عملية الاتصال، فيحقق وظائف كثيرة لنفسه وللخطيب معا.

ومن ثم، يكشف كتاب «لماذا يصفق المصريون»، لمؤلفه الدكتور عماد عبد اللطيف، الباحث المتخصص في تحليل الخطاب السياسي في جامعتي القاهرة ولاكستر البريطانية، عن أبعاد كثيرة لظاهرة التصفيق في المجتمع المصري، عارضا أهم أنواعه ووظائفه، بالإضافة إلى أهم أساليب استدعائه، وماهية فخاخ التصفيق التي يستخدمها الخطباء لاستدعائه، وذلك عبر تحليله عشرات الخطب السياسية للقادة السياسيين التي شهدت تصفيقا متداخلا مع كلماتها.

يؤصل المؤلف للظاهرة (التصفيق) بشكل مجرد، فيقول في الكتاب - الذي صدر حديثا عن دار «العين» في القاهرة - إنها موجودة في كل المجتمعات لكنها دخلت إلى الثقافة السياسية العربية متأخرة نسبيا، ويفسر سر تأخرها بعدة أمور من بينها تداخل الدين بالسياسة، وأن خطب القادة كانت في أغلب الأحيان ذات طابع ديني يتنافر مع فعل التصفيق، كما أن الطابع الذكوري للسياسة عند العرب باعتبار أن التصفيق اقترن بالنساء قلل من ظهورها، أم السبب الأخير فكان انخفاض هامش الحرية أمام الجماهير لتتواصل مع الخطباء.

قسم المؤلف التصفيق تقسيمات مختلفة وفق اعتبارات كثيرة، من بينها التصفيق العرضي، والغرضي، وقد يكون استحسانيا، أو له دلالة اعتراضية، كوسيلة للاستئذان أو التعبير عن الفرحة والغضب والسخرية، كما عدد المؤلف أوضاع التصفيق، وكذلك بدائله مثل الضرب على الفخذ أو المنضدة. واستعرض أيضا سياقات التصفيق في المجتمع المصري، فقال إنه يستخدم في السياق الترفيهي، مثل مصاحبة الجمهور لغناء المطربين مشجعين إياهم، أو طالبين منهم عبره استرجاع أغنية ما نالت إعجابهم، وفي الفترات الأخيرة تم استبدال الرقص به أحيانا، حيث أصبح المطربون يشاركون جمهورهم التصفيق وأيضا الرقص.

وفي السياق الثقافي والتعليمي يقول الكتاب إن التصفيق استخدم لتأدية وظائف كثيرة من بينها الاستحسان والمكافأة، كأن يتلقى الطفل دعما معنويا من خلاله، وأثناء مناقشة الرسائل العلمية في الجامعات تطورت العلاقة من مشرفين ومناقشين من جهة، وطلاب من جهة أخرى، إلى دخول الجمهور الحاضر كطرف ثالث يتوجه إليه المناقشون بكلامهم ثم ينالون استحسانه، وقد يتوجه الجمهور بالتصفيق أكثر لمن يثني على الطالب كي ينال دعمه، وهو هنا نوع من التواصل وإبداء الرأي للتأثير على الخطيب، أي أداة بلاغية للجمهور.

وفي الندوات يتحول التصفيق أحيانا إلى آيديولوجيا، فالمتناظرون من الكتاب والمفكرين يذهبون إلى ندواتهم وخلفهم مناصروهم، وهم أي (المناصرون) يصفقون لمؤيديهم بصرف النظر عن مهارتهم وقوة حججهم، بل فقط لإظهار انتصارهم وقوتهم.

ويخصص المؤلف الجزء الأكبر من الكتاب لدراسة التصفيق في السياق السياسي، وبخاصة المصري منه، فيقول إن الباحث الإنجليزي أتكنسون وضع مؤلفا هاما للغاية عام 1984 درس من خلاله أساليب استدعاء التصفيق التي يلجأ إليها الخطباء لنيل استحسان الجمهور، وقسمها إلى أساليب تهتم بالمعنى، وأخرى تهتم بالشكل، والأخيرة عبارة عن تكنيكات لفظية بصرف النظر عن المعنى.

ومن بين أساليب استدعاء التصفيق التي يستخدمها القادة والخطباء، تقريظ الذات، وتقريظ أطراف أخرى، وكذلك وصمهم.

أما فخاخ التصفيق فمن بينها، الاعتماد على الثنائيات المتقابلة مثل قول السادات مثلا: «أفضل احترام العالم ولو بغير عطف، على عطف العالم بغير احترام»، أي الأقوال المتعارضة والمتضادات، والاعتماد على جمل ثلاثية المقاطع، والمماحقة بتكرار الألفاظ حتى يبدأ الجمهور في التصفيق، والسخرية من طرف ثالث، والتحفيز والكشف، أي عرض الآراء بحيادية حتى يصل الخطيب إلى النهاية فينحاز بشكل مباشر إلى رأي، بالإضافة إلى أسلوب المعضلة والحل، أي إظهار الأمور معقدة أمام الجمهور ثم تقديم الحل في النهاية.

وفي تطبيقه على المجتمع المصري وخطب زعمائه اكتشف المؤلف أساليب جديدة لاستدعاء التصفيق، بالإضافة إلى فخاخ جديدة له أيضا ومن بينها الإعلان عن قرارات تخدم مصالح الجمهور، كذكر الخطيب منحة مالية مثلا في طريقها إلى جيوب المواطنين، أو التذكير بمناسبات وطنية مجيدة كحرب أكتوبر (تشرين الأول) مثلا، أو استخدام النكتة.. أما فخاخ التصفيق فكان منها الجديد في الواقع المصري مثل الصمت القصير فور الانتهاء من العبارة.

رصد الكتاب أيضا أفعالا غير خطابية مؤثرة في التصفيق، ومن بينها التفاوت في السلطة بين الخطيب والجمهور فأحيانا يخشى الجمهور الصمت كي لا يعاقب فيضطر إلى التصفيق، كما تؤثر طبيعة العلاقة الشخصية بين المتكلم والمستمع في حفزه أو امتناعه عن التصفيق.

ما كتبه عماد عبد اللطيف إضافة ثرية للبحث السياسي وعلوم الدعاية والاتصال، وإن كان يصدمنا بقوله: «إن لدينا ميراثا ثقيلا وطويلا من إساءة استخدام تلك الوسيلة الهامة، والدليل أنها ساءت سمعتها أحيانا وأنتجت أجنة مشوهة من (الهتّيفة)، و(المصفقاتية).. وهي كائنات استخدمت تلك الوسيلة البلاغية طريقة لكسب الرزق والتضليل».