الكتابة الساخرة.. فن يتلاشى في الصحافة السعودية

لم تبق سوى أسماء قليلة وسط الكتابات الصارمة

من مقامات بديع الزمان الهمذاني
TT

على الرغم من التجربة الإعلامية للصحافة السعودية وامتدادها الزمني، فإنها لم تحظ بأقلام كثيرة امتهنت ما بات يعرف بالأدب الساخر، أو الكتابة الساخرة، إلا فيما ندر عبر بعض الأعمدة الصحافية اليومية أو الأسبوعية، كما كان الحال مع شخصيات أدبية وصحافية كأحمد السباعي ومحمد حسن عواد والشاعر أحمد قنديل والأديب فهد العريفي الذي عرف بزاويته في «اليمامة» «في حدود المحبة».

والسخرية كأسلوب أدبي يذهب إلى إظهار الأشياء بطريقة تثير التفكير بشكل مغاير عما تبدو عليه منذ الوهلة الأولى، وتعد السخرية فنا لاذعا يثير الدهشة قبل أن يثير الضحك، وإن كانت الكتابة الساخرة تعني التمرد على الواقع، وثورة فكرية ضد البديهيات التقليدية، فهي تبقى «كوميديا سوداء»، كما يسميها أهل الدراما، تحاول الضحك على الأحزان وتواكب القول العربي الشهير «شر البلية ما يضحك».

اليوم، يبدو أن هذا الفن سواء عبر المقالات أو الكتب، أصبح محدودا وسط هالة من الصرامة والجدية، فغياب الأقلام الصحافية الساخرة والقادرة على تشريح الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أو حتى الرياضي، يطرح التساؤل عن الأسباب الحقيقة وراء ذلك الغياب.

«الشرق الأوسط» تطرح قضية الكتابة الساخرة في الصحافة والأدب في السعودية لتحاول تلمس تلك الأسباب.

* ضحك لإنتاج البكاء!

* يرى خلف الحربي، الكاتب الصحافي الساخر في جريدة «عكاظ»، أن «صعوبات الكتابة الساخرة تتضاعف حين يجد الكاتب أن المسؤولية تحتم عليه أن لا يضحك قراءه دون هدف أو معنى. وليست ثمة مبالغة بالقول إن الكتابة الساخرة في بعض الأحيان ليست محاولة لإنتاج الضحك بقدر ما هي وسيلة لإنتاج البكاء من الاتجاه المعاكس. وفي كل الأحوال، تظل الكتابة الساخرة تعتمد إلى حد كبير على الموهبة وليس على شيء آخر».

ويضيف: «لا بد أن تتوفر لدى الكاتب قدرة ما على فهم المزاج العام للقراء، فما هو مضحك هنا ليس بالضرورة أن يكون مضحكا هناك». ويحاول الحربي أن يقدم مثلا للتدليل على كلامه هنا بالقول: «لو أحضرنا أربعة أعمال تلفزيونية كوميدية من السعودية ومصر وسورية والولايات المتحدة لوجدنا أن قواعد السخرية وأدواتها تختلف من بلد إلى آخر». وهو يرى أن «الكاتب الذي لا يفهم المزاج العام للمجتمع ولا يملك القدرة على قراءة التحولات الاجتماعية بسرعة تصبح كلماته ثقيلة الدم مهما امتلك من روح ساخرة»، ويشير إلى كون «أجواء الحرية والكبت لها تأثيرها على الكتابة الساخرة ليس من ناحية الكم بل من ناحية الكيف، فمساحة الحرية لها تأثيرها على شكل الكتابة الساخرة وطبيعتها». ويضيف: «فالكاتب الساخر في الدول التي لا تتمتع بقدر كاف من الحرية الصحافية يحتاج إلى الكثير من الحيل الكتابية لتمرير فكرته الساخرة بينما يعاني الكاتب في الدول التي تتمتع بحريات صحافية جيدة من البحث عن حيل كتابية مبتكرة لتحقيق المفاجأة أو الصدمة التي يحتاجها كي يكون المقال ساخرا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وفي الحالتين (الكبت أو الحرية) لا يصل الكاتب إلى هذه الحيل الكتابية الخاصة بفضل تخطيط مسبق، وإلا فأنه سيكون محتالا، بل هي تحدث هكذا بالسليقة وتصنعها الظروف المحيطة وتعتمد دائما على ما يملكه من ثقافة».

ويعتبر الحربي أن «الكاتب الساخر الذي يفتقر إلى الثقافة هو مجرد ثرثار خفيف الظل. فالخيط الذي يفصل بين السخرية والتهريج هو خيط رفيع جدا، لذلك يجب أن يسعى الكاتب إلى أن تكون كتابته الساخرة ذات هدف وفائدة». وعن الكتابة الساخرة في الصحافة السعودية، يقول: «إن نسبة الكتابة الساخرة في الصحافة السعودية مماثلة لنسبتها الضئيلة في أي صحافة أخرى».

* أدب ذكوري

* وحول ارتباط الكتابة الصحافية الساخرة بفضاءات الحرية، ترى الكاتبة لولو الحبيشي أن «خفض سقف الحرية قد يجعل الساخرين يتنفسون من خلال ثقوب في جدران الأقبية، لكن الحرية تتيح لهم الفضاء».

وعن غياب الكاتبات الساخرات، تقول: «إن المجتمع ذكوري من رأسه لأخمص قدميه، ولذلك نرى أن الكتاب الرجال أكثر من الكاتبات، كما في كل مجلات الإبداع، لأنهم يتفرغون لملكاتهم على حساب النساء لأن الأولويات لديهن مختلفة».

إعلامية أخرى، هي سكينة المشيخص، ترى أن وصف الكتابة الساخرة بأنها فن ذكوري ليس موضوعيا أو منصفا لكونه يقصي المرأة من هذا المجال.

إنها ترى أن الكتابة الساخرة هي «نتاج لطبيعة وشخصية الكاتب، إذ حين تغلب عليه السخرية سيسقطها بالتأكيد فيما يكتب، غير أن الشائع لدينا هو الكتابات الأدبية والفكرية أي الجادة، وربما كانت ظروف التنشئة لدينا لا تسمح بالسخرية».

وبينما تعتبر أن الأسباب الحقيقة لغياب الكتابة الساخرة في صحافة السعودية تعود إلى طبيعة المجتمع التي تميل إلى كونها حساسة ولا تحتمل السخرية، تشير إلى أن هناك زهدا في التناول الساخر للقضايا والأحداث ما دامت المعالجة بصورة جادة تخدم أغراض الطرح دون الاشتباك مع أي محاذير جراء التناول الساخر.

وفي رأي سكينة المشيخص أنه إذا زادت جرعات الحرية في الممارسات السياسية والإدارية ارتفع إيقاع السخرية كتابة أو قولا.

* الأدب الساخر

* عرف الأدب السعودي أسماء قليلة، اشتهرت في الكتابة الأدبية الساخرة، نثرا وشعرا بينهم الشعراء: أحمد سالم باعطب، وحسن السبع، والدكتور عبد العزيز الزهراني، وناجي الحرز، وغيرهم.

ويعبر الشاعر ناجي داود الحرز عن المواقف الساخرة والطريفة، ولديه قدرة على تحويل المواقف الحادة إلى كوميديا ممتعة وعلى اصطياد المواقف الطريفة وسكبها في قصائد هزلية. وقد تأثر مبكرا بأسلوب الشاعر العباسي الحسن بن هاني الحكمي المعروف بأبي نواس (145هـ 762م - 199هـ 813م)، فقد قرأ ديوانه صغيرا. ويقول الحرز إن «الكثير من القصائد الهزلية الضاحكة صدى لمواقف باكية ومبكية، لذلك يجب أن نقرأها قراءتين، واحدة للضحك وواحدة للبكاء».

وكان الحرز قد أصدر ديوانا بعنوان «قصائد ضاحكة» قبل عشر سنوات.

أما هو حسن السبع، الذي ما زال يواصل مشواره في الكتابة الساخرة مقالات صحافية، وشعرا، فكان قد أصدر ديوان «ركلات ترجيح» الذي يحتوي على 71 من القصائد والمقطوعات الشعرية الضاحكة، ويتضمن جملة من المواقف النقدية والتعليقات اللاذعة على جوانب اجتماعية مختلفة، استحوذت المرأة فيها على نصيب الأسد، كما هيمنت نظرة الشاعر الساخرة إلى الحياة على الديوان، ونال الشعراء والأدباء والمتأدبين نصيبهم من تعليقات الشاعر الساخرة أيضا.

ويقول السبع إن الأدب الضاحك «أسهم عبر مراحله التاريخية المختلفة في تصوير الحياة الاجتماعية، وإبراز أوجه التضاد في الهيئات والأحوال والسلوك. وكان تراثنا الأدبي قديمه وحديثه زاخرا بالدعابة»، وهو يرى أن «دور الشاعر الضاحك قد يتراجع مستقبلا مع سيادة قصيدة النثر وتقلص دور قصيدة الشطرين والتفعيلة. ذلك أن بنية القصيدة العمودية وصرامة قواعدها، وما اختزنته ذاكرتها الأدبية من إجلال وتوقير لهذا الشكل الكلاسيكي الصارم، هو ما يصعد الضحك، أو يفاقم النكتة»، مفسرا ذلك بالقول: «عندما نعالج قضايا معيشية يومية مرتبطة بالهامش أو القاع الاجتماعي بكل بساطته تأسيسا على هذا الشكل المزدحم بقواعده وقوانينه وشروطه المحاطة بالهيبة والإجلال».

السبع يكرر معاناة الشعراء الذين يتكبدون شظف العيش بأسلوبه الساخر فـ«المال والشعر لم يكونا دائما على وفاق، وغالبا ما كان الشعر رأسمال الفقراء، فإذا دخل الشعر من الباب هرب المال من النافذة»، وأن «قيمة شطيرة (هامبورغر) في أحد فنادق الدرجة الأولى تفوق قيمة ديوان شعر لأبي العلاء المعري، أو رواية لأمين معلوف، أو نص مسرحي لمحمد الماغوط».

الكتابة الساخرة.. مشنقة من حرير!

حسن السبع

على وزن «ما كل ما يلمع ذهبا»، يمكن القول بأن ما كل ما يكتب تحت ما يعرف بـ«الكتابة الساخرة» له من اسمه نصيب. فلا يستوي الذكاء والتذاكي، أو الظرف والتظارف. ولا بد من الاعتراف، هنا، بأن الكتابة الساخرة فن صعب وطويل سلمه. تلك، أيضا، عبارة تقليدية تتعلق بالشعر. لعل بين الكتابة الساخرة والشعر قاسما مشتركا. من يعلم؟ ما أعرفه هو أن الأرواح تتباين خفة وثقلا.. ويمكن ملاحظة ذلك التباين والاختلاف بين أسلوب وآخر، أو كتابة وأخرى. ويبدو لي أن الكتابة الساخرة استعداد وموهبة قبل أن تكون صناعة. ذلك، على الأرجح، هو القاسم المشترك بينها وبين الشعر.

يمكن كذلك التمييز بين متلق وآخر. فاستجابتنا للنكتة، على سبيل المثال، ليست واحدة. تتعدد الاستجابات وتتباين تبعا لثقافة القارئ، وطريقة تفكيره، ومزاجه وتركيبته النفسية، وكيمياء شخصيته. لذلك فإن لكل نكتة زبائنها. فما يضحك زيد قد لا يحرك ساكنا في عمرو. ربما لأن ذائقة عمرو تميز بين الدعابة الذكية والتهريج، وبين الفكاهة والمزاح الممجوج، وبين الظرف والتظارف، والخفة والثقل. اخترت النكتة مثالا لأن من النكات ما يختزن شحنة ساخرة تجعلك تعجب من عبقرية ذلك المؤلف المجهول!

وحين نؤكد على أن الكتابة الساخرة صعبة وطويل سلمها. فإن لنا في ما نشاهده يوميا على قنوات التلفزيون العربية شواهد كثيرة تنطق ببؤس النصوص الساخرة. وما ذلك البؤس بسبب شح في المضامين، فالواقع العربي، ولا فخر، زاخر بالعجائب والمفارقات، بل ليس للعجب فيه من نهاية. المضحكات/ المبكيات كثيرة وعلى (قفا) من يلتقطها ويوظفها توظيفا ذكيا، وما على الكاتب سوى أن يتلفت حوله ليجد مادة غزيرة تضحك الثكلى، فحياتنا زاخرة بالمضحكات التي يستطيع بها الكاتب الساخر أن (يقتل) القراء أو المشاهدين ضحكا، وهي جريمة القتل الوحيدة التي لا يعاقب عليها القانون!

للكتابة الساخرة مبدعوها الكبار، ممن جبلوا على النظر إلى الأشياء بعين الفكاهة، وتعهدوا هجاء القبح «والذهاب به حتى التشوه، والانتقال من المشوه إلى المضحك» كما يعبر برغسون. يحاول الكاتب الساخر أن يغلف حدة ومرارة التعبير عن الواقع بمسحة فكاهية تجعل النص أكثر قبولا من أسلوب الخطاب الوعظي الجاف. الكتابة الساخرة هجاء ناعم. وقد وصفتها مرة بأنها «مشنقة من حرير».

هكذا تأتي الكتابة الساخرة مزيجا من المرارة والدعابة تخفف عبء التوترات وتلطف حمى الانفعالات النفسية المرهقة، أو هكذا تأتي مركَّبا اختصره المتنبي بقوله: «ولكنه ضحك كالبكاء»!

والآن، تخيل نفسك وقد ابتليت، لا قدر الله، بأن تراجع إدارة من إدارات القطاع العام، لإنهاء «معاملة» ما، ولاقيت في إنجاز تلك الخدمة البسيطة الأهوال. إن التعبير الجاد لا يقدر على تصوير حالتك البائسة تلك. لا يأخذ بثأرك، بعد تلك المحنة، إلا القلم الساخر.

تخيل أن بديع الزمان الهمذاني، ذلك الكاتب الساخر، قد حل ضيفا على هذا الزمان، فحط به بساط الريح، عند مكتب يفرخ الروتين في جنباته، وتنسج البيروقراطية بيوتا على عتباته، ألا توحي مثل هذه الحال لبديع الزمان، بمقامة تتحدث بها الركبان، ألا نستطيع أن نذهب بخيالنا بعيدا فننسب للهمذاني مثل هذا الكلام:

حدثنا عيسى بن هشام قال: طرحتني الرياح مطارحها العويصة، فوجدتني أمام زحمة وهيصة، قلت: لعل هذا التدافع على وليمة، فنفوز بالغنيمة، بعد طول تنقل وترحال، بين مدن الجنوب والشمال. قررت أن أزاحم الجموع، بالمرفق والكوع، لأصد غائلة الجوع. حتى رأيت شخصا خارجا من بين البشر، وكأن عليه وعثاء السفر، فسألته: ما الخبر؟ وبعد أن استرد أنفاسه، وتحسس رأسه وكرياسه، قال: إنني مراجع، فلا تقلب علي المواجع. وإلا فكيف تمكث طيلة شهرين، معاملة لا يستغرق إنجازها ساعتين؟ وكيف يطول بها الانتظار، فلا تجد من ينفض عنها الغبار. لقد تلطخت بالتأشيرات والأختام، وتنقلت بين الوحدات والأقسام. يدققها فلان، ويراجعها علان، هذا يمارس عليها اختصاصه، وذاك يضيف لها قصاصة. وها هي مع غيرها تنام، على طاولة ذلك الهمام، بين أضابير تصل إلى الرأس، ويختلط فيها عباس بدباس، دون أن تحركها يد الموظف المحترم، الذي فتك به السأم، فطلق الورقة والقلم. إنها همة عجيبة، وآلية بطيئة رتيبة. بيروقراطية معتقة مزمنة، لا تجدي معها الميكنة. قد تعطل فيها ترس السرعة، ولم يذرف عليه أحد دمعة. فكأن سبته خميس، وكأن أحده جمعة. قال عيسى بن هشام: ولأني لست من هذا الزمان، ولا ناقة لي فيه ولا حصان، فإنني لم أفهم فحوى تلك الرطانة، ولا كلماتها الطنانة، فتركت الرجل وشانه، وأطلقت لبساط الريح عنانه. بعد أن قررت الانسحاب، راضيا من الغنيمة بالإياب.

* مقاطع شعرية ساخرة لحسن السبع

* الأصلع

* الشعر يسقط والمراثي أدمعي

ونصائح العطار لم «تزبطْ» معي

فسألتها ماذا ترين.. فأكدت

أن البقاء، كما ترى، للأصلعِ

* بعض الأكسجين

* قالوا: تزوجْ..

فاستجبتُ لمنطق المتزوجين

وأضفت ماء للطحين وغصت في ذاك العجين

أصبحت في القفص المذهب متعة المتفرجين

يا أنتِ.. يا قيدا من الإسفنج رفقا بالسجين

قالت: تدلل!

ما الذي أهديك في ذكرى الزواج؟

فقلت: بعض الأكسجين!

* طفيلي

* وأتى لنا في مطعم فخم فأُطعمَ وارتوى

وأتى على طن من الأكل الرفيع المستوى

لم يبقَ صحن ما غزاه مفرغا للمحتوى

حتى رأى كشف الحساب فغاب عنا وانزوى

* مكشر

* مكشر لم يبتسم مرة

قد بز في التكشير أقرانه

له فم لكنه موصد

لا تنسف النكتة أركانه

يحاذر الضحك وأسبابَه

خشية أن يفقد أسنانه