الديمقراطية.. نظام سياسي أم قيمة ثقافية؟

الثقافة التقليدية والنسيج الاجتماعي.. الكويت والبحرين نموذجا

الجذور الثقافية للديمقراطية في الخليج الدكتور: حسين غباش دار الفارابي - بيروت 2010
TT

يحاول الكاتب الإماراتي د. حسين غباش في هذه الدراسة، البحث عن الجذور الثقافية للديمقراطية في الخليج، متخذا الكويت والبحرين نموذجا، بتقديم قراءة أنثربولوجية سياسية للتاريخ السياسي، وقراءة معمقة للثقافة الوطنية التقليدية ودورها في صوغ الرؤية وتشريع المطالب ليخلص إلى أي مدى أسست تقاليد وأعرافا للفكر الديمقراطي.

من أجل تحقيق أهداف الدراسة، ألقى المؤلف الضوء على نحو خاص على الثقافة الوطنية التقليدية، وليس الثقافة الرسمية وليدة الحقبة الكولونيالية، التي أجهضت في المهد كل محاولات نهوض الثقافة الوطنية، وفرغت المجتمعات الخليجية من روافعها. يبني المؤلف دراسته على ثلاث فرضيات: أولا، إن مبدأ المشاركة العرفي التقليدي، هو مبدأ مؤسس للثقافة السياسية الوطنية. ثانيا، إن كل الثقافات الإنسانية تحمل قيم مشاركة ومساواة، وهي جوهريا قيم ديمقراطية، هذا يعني أن كل المجتمعات مسوقة، بالضرورة، إلى إنتاج ديمقراطيتها الخاصة بها. ولنا في التجربة الكويتية، والمحاولات الجادة البحرينية ما يكفي من الدليل، فلولا تمكن الكولونيالي من تفكيك النسيج الاجتماعي، وبالتالي ضرب ثوابت الثقافة الوطنية، لتمكنت هذه المجتمعات الصغيرة من أن تبني ديمقراطيتها الخاصة الأصلية. ثالثا، إن طبيعة الثقافة العربية المرتكزة على مبدأي التفويض والمشاركة لا يمكن أن تنتج نظما استبدادية، ناهيك عن ثقافة استبدادية. فالإرباك الذي نلحظه في الثقافة الوطنية في منطقة الخليج العربي خلال الفترة الماضية، ناتج عن دخول العامل الكولونيالي إلى الفضاء الخليجي، مما أدى إلى انقطاع السيرورة التاريخية.

يرى المؤلف أنه قبل البدء بمناقشة طبيعة المتغيرات في الكويت والبحرين يتوجب تعريف الديمقراطية وماهيتها، لأن هذا التعريف يسمح لنا بتقصي القيم والتقاليد والممارسات الديمقراطية في الثقافة الوطنية التقليدية لشعوب المنطقة.

هنالك تعريفات عامة ومتعددة، لكنها تصف وتشرح ولا تعرف، وهذه التعريفات غير الدقيقة تزيد المسألة غموضا إضافيا. فالتعريفات المكررة مثل «حكم الشعب» أو «حكم الأغلبية» وغيرها لا تقدم تعريفا للديمقراطية بل تحيلنا إلى النظم السياسية، وهذه إحدى الإشكاليات الواجب إزاحتها ليمكننا الوصول إلى المفهوم. فالديمقراطية التي تبدو سهلة الاستدلال تظل متعالية على التبسيط السياسي. لذا علينا أن نطرح السؤال: هل الديمقراطية نظام سياسي أم قيمة ثقافية؟ منهج أم عقيدة؟ غاية أم وسيلة؟ أم نمط حياة؟، وما علاقتها بتقاليد الشعوب وأعرافها؟، وهل تبنى خارج ثقافات الشعوب أم يجب أن تنبع منها؟ وغيرها من الأسئلة التي يجب إيجاد أجوبة لها.

بعد أن يستعرض المؤلف عددا من التعريفات لأدباء وفلاسفة ومفكرين، يخلص إلى أن الديمقراطية، قبل كل شيء، هي قيم ثقافية، تشكل حالة ذهنية يعبر عنها نمط حياة، ولا يمكن بالتالي اختزالها إلى آليات ونظم سياسية فحسب، فهذا التبسيط يفقدها دلالاتها الأعمق ويعرضها للتشويه، واستنادا إلى ذلك لا يمكن القبول فكريا بصفتها الأوروبية الحصرية، فالديمقراطية الأوروبية نتاج الثقافة الأوروبية، فهي حكم الأغلبية بواسطة الانتخاب، فأي أغلبية تلك التي تحكم؟ أهي أغلبية الشعب، أم أغلبية من يجوز لهم الإدلاء بأصواتهم؟ وهم في هذه الحالة لا يشكلون سوى نصف من يحق لهم التصويت. من يحكم إذن، هم ممثلو النصف من المصوتين، إذن هم بالتأكيد أقل من ربع المجتمع. يجب وضع الديمقراطية إذن في بعدها الثقافي الأشمل، أي بعدها الإنساني، وهنا تتحول إلى مشترك عام للبشرية، لا شرقية ولا غربية. تتجاوز وتتحرر من محدودية السياسة. بناء على ما تقدم يجب الإمساك بالجذور الثقافية للديمقراطية في المجتمعات الخليجية، والرجوع إلى منبت الثقافة السياسية، البيئة الاجتماعية والثقافة التقليدية هما أرضية الثقافة الوطنية السياسية، هما الفضاء الخليجي المشترك الذي كان سائدا قبل وصول الكولونيالية البريطانية عام 1820.

جدير بالذكر أن مصطلح «الثقافة التقليدية» غالبا ما يعطي مدلولا سلبيا، في حين أن صفة التقليدية ليست إلا للدلالة على أصالة الثقافة ودورها الإيجابي، فهي البيئة التي نمت فيها وأثمرت منظومة القيم والأعراف السياسية والأخلاقية والحقوقية، بل والفكر الإصلاحي الديمقراطي ذاته.

تتمحور الثقافة السياسية في نظام الحكم التقليدي على مركزية البيعة، وما البيعة إلا عقد اجتماعي، هي جوهريا عملية منح الثقة لمن تختاره الجماعة. هذه التقاليد التي مهرها الزمن وأصلتها الممارسة، تتحول إلى أعراف تجسد الإرادة العامة، محصنة بقوة معنوية وأخلاقية ملزمة، وتتحول إلى مؤسسة ثقافية تضبط إيقاع النظام السياسي وتضمن السلام الاجتماعي، كما ترسم تاريخ البلاد. هكذا تحول عرف البيعة، العرف المؤسس، إلى قانون طبيعي، منحوت في الثقافة، لا مجال لتجاوزه من دون عواقب تشمل العباد والبلاد.

يبقى أن ثمة مبادئ وتعاليم إسلامية مرادفة، ملزمة للحكم الصالح تبقى محركا وجدانيا وأخلاقيا لشعوب المنطقة.

الاستعمار، كما يرى المؤلف، هو تنظيم الاحتلال وإدارته بعد الغزو. دشنت الحقبة الاستعمارية بعد ضرب الأسطول العماني في نهاية القرن الثامن عشر، ومن بعده أسطول رأس الخيمة عام 1819. وعلى أنقاض مدينة رأس الخيمة المدمرة، تم فرض المعاهدة العامة على زعماء القبائل المعروفة آنذاك بساحل عمان عام 1820. تبعها ما عرف بالاتفاقية المانعة، التي فرضت أولا على عمان عام 1892 وبعدها على مشيخات الخليج الأخرى، ولم يسلم من الاستعمار سوى المملكة العربية السعودية التي لم تعرف بتاريخها الاحتلال.

منذ مطلع عشرينات القرن العشرين، وبخط مواز للتاريخ الكولونيالي، بدأت ملامح وجه التاريخ الوطني في الكويت، فقد ولد من رحم الثقافة التقليدية أول مجلس عام 1921. جسد هذا الفعل المؤسس المضمون الديمقراطي التقليدي للثقافة الوطنية التقليدية. وبعد 17 عاما أي في عام 1938 أتت الموجة الثانية وكانت مرحلة مفصلية حددت مسار البلاد وأكدت الديمقراطية التي عمل الإنجليز على تقويضها، فالديمقراطيات الغربية مع كونها أحد مكاسب الصراع في الغرب، هي التي استعمرت العالم العربي والأفريقي والآسيوي، فالديمقراطيات الغربية هي أيضا غازية ومحتلة ومستعمرة، ولا تقبل المساواة بالآخر.

فالقرارات البريطانية استهدفت أساسا فصل التشكل الوليد للإرادة العامة في البيئة الخليجية المعاصرة، التي كانت مسوقة بحكم التطور، إلى خلق أرضية صالحة لتعزيز مفاهيم الانتماء الوطني والسيادة، فأعاقت آلية التقدم في المجتمعات الخليجية، وحرفت عجلة التاريخ عن مسارها الطبيعي.

كان الخليج معروفا بالمحميات البريطانية، مغيب الهوية الوطنية، ومع سقوط فلسطين وقيام الدولة الصهيونية استيقظ أهل الخليج على هويتهم، وعلى وعيهم بذاتهم القومية، لخصت النكبة في مجملها لحظة الوعي بالذات والثقافة الوطنية، لتعزز الشعور الوطني والقومي، في جدلية متماسكة. فبقدر ما يكون الإنسان وطنيا يكون بالضرورة قوميا.

يعرض المؤلف المراحل والعوامل التي مرت بها دولة الكويت لتتبلور هويتها الوطنية والعراقيل التي كانت تضعها بريطانيا لطمس هذا الوعي. ففي عام 1930 اجتمع خمسون ناخبا، الأول لمعالجة ما يتصل بتحسين حياة المواطن المدنية بكل تفصيلها. وبعد عامين تم تشكيل مجلس للمعارف بهدف تطوير التعليم آخذا على عاتقه بناء المدارس التي لم تكن موجودة حتى ذلك العهد، ووضع أسس نظام تربوي عام في البلاد، واستقدم المدرسين من الأقطار العربية، وبدأ بإرسال بعض الطلاب إلى الخارج، كما افتتح مدرسة للفتيات. وعلى هذا النحو تم إدخال التعليم الحديث إلى بلاد الخليج، بدءا بالبحرين عام 1919، ثم الكويت في الثلاثينات.

ومع تسلم الملك غازي الأول (1933 - 1939) الحكم في بغداد، وصلت الكويت إلى حافة أزمة وطنية، وبلغت ذروتها عندما طالب الملك بضم الكويت إلى العراق، وتم إطلاق حملة إعلامية في سبيل ذلك. شككت هذه الحملة في مقومات المجتمع الكويتي، كمجتمع صغير متخلف يفتقر إلى أهلية بناء دولة. فكان الرد الكويتي عام 1938 بتأليف لجنة ضمت ثلاث شخصيات أعدت قائمة بأسماء 320 ناخبا يمثلون مختلف العائلات في الكويت، وانتخب هؤلاء 14 عضوا وانتخب الشيخ عبد الله السالم رئيسا للمجلس. وأنيط بالمجلس وضع القوانين للهيكلة الإدارية العامة للدولة.

عام 1950 تسلم الشيخ عبد الله السالم الصباح الحكم في الكويت، فلم تعترف به بريطانيا إلا وفق شروط رفضها، فقام الشيخ عبد الله باستعجال الإصلاحات لمواجهة الضغوط الإنجليزية، فكلما زادت شعبيته زادت قدرته على مواجهة مطالب الإنجليز. فقامت الأندية الثقافية، وافتتح المسرح الكويتي، وكذلك دور للسينما وظهر نحو عشرين صحيفة ومجلة. وفي عام 1961 أعلن استقلال الكويت وبدأت عهدا جديدا. أما البحرين فقد عرفت أكثر من حقبة احتلال، بدءا بالبرتغالي في القرن السادس عشر، ثم تلاه الفارسي، وانتهى أخيرا باستعمار بريطاني دام لقرن ونصف القرن.

يبدأ تاريخ البحرين السياسي الحديث مع وصول آل خليفة من شبه الجزيرة العربية عام 1783 وتسلمهم الحكم فيها.

فرضت بريطانيا على البحرين عام 1820، كما على شيوخ ساحل عمان، تعهدا بالخضوع لسلطة المفوض البريطاني المقيم في «بوشهر». وعمل بهذا التدبير حتى عام 1900 عندما تغير المنصب البريطاني في المنامة من مساعد إلى مفوض سياسي. وبدأ بذلك عهد جديد في العلاقات البحرينية البريطانية. وفي عام 1935 تأسست القاعدة البحرية البريطانية في المحرق وعام 1946 نقل مقر المندوب السياسي البريطاني في الخليج إلى البحرين بحكم موقعها في وسط الخليج.

أخذ الحراك السياسي في البحرين أشكالا مختلفة، انحصر في البدء في إطار رجال الدين، الذين كانوا يمثلون ضمير المجتمعات آنذاك. في عام 1914 عارض رجال الدين تطبيق القوانين المدنية والجنائية السارية في الهند، لأنها تخالف الشريعة الإسلامية. وتم تأسيس أول مدرسة نظامية عام 1919، وترافق وجود المدرسين العرب وظهور عدد من الأندية الثقافية.

في عام 1926 أرسلت بريطانيا إلى البحرين مستشارا سياسيا للحاكم «تشارتز بلجريف» ولم تمض ستة أشهر على وصوله حتى أصبح السيد المطلق في البلاد. وقد كان هذا الرجل عنصريا مقتنعا بأن شعوب الشرق لا تعرف إلا لغة القوة، وأن المجتمع البحريني عبارة عن مجموعة من الطوائف والأعراق والعشائر، التي لا تشكل شعبا، ولا تنتمي إلى أمة عربية. ولقد ظل في منصبه معرقلا أي إصلاحات حتى عام 1956.

مرت البحرين بمخاض عسير من أجل إثبات وجودها، ويعرض المؤلف التفاصيل بالوثائق، ويدقق في المعلومات والمراجع فيرى أن استقلال البحرين وسائر إمارات ساحل عمان عام 1971 كان نتيجة نضال ركيزته الأولى العودة إلى الجذور الحضارية للمجتمع العربي الإسلامي. وإذا كانت تجربة الكويت تختلف عن تجربة البحرين لظروف موضوعية، فما يجمعهما هي الثقافة الوطنية التقليدية التي لا تزال في حراك ما برح فاعلا على الساحتين، وليست الثقافة الكولونيالية التي ما زالت شعوب المنطقة تلفظ ما تبقى من «ديمقراطيتها المزعومة».