«جنود الله».. موضوعية قاسية تدين جيلا أعاد إنتاج الفشل والتقديرات الخاطئة

فواز حداد يأخذ القارئ معه في رحلة البحث عن أسباب ما وصلنا إليه

جنود الله المؤلف: فواز حداد الناشر: رياض نجيب الريس
TT

في روايته «عزف منفرد على البيانو»، كتب الروائي السوري فواز حداد عن مأزق المثقف العلماني، مع نفسه من جهة ومع السلطة من جهة أخرى، وكيف تُحبط علمانية هي مخذولة من أصحابها ومستثمروها من السلطة. وفي روايته «جنود الله» الصادرة حديثا عن شركة «رياض نجيب الريس» في بيروت، يكتب حداد عن اشتباك جيل المثقفين حاملي أحلام اليسار والتغيير، مع جيل الأبناء دعاة التطرف الديني.

في الرواية يظن الأب اليساري أن التيارات الدينية اختطفت ابنه وجندته بين صفوفها، ليكتشف لاحقا أن ابنه لم يختطف، بل إن انكفاءه عن السياسة بعد فشله هو ما دفع بابنه إلى الضفة الأخرى، ليكون على موعد مع مواجهة عنيفة غير محسوبة على أرض هي شريحة من الجغرافية العربية: «العراق البلد الأكثر إيلاما، بلد لا مكان فيه للعقل أو العدالة أو الرحمة، بل للخيانة والوشاية والخطف والذبح والقتل».

تجتهد الرواية في سبر التطرف المتداول بشكله المسيحي الغربي والإسلامي الشرقي، من خلال رحلة شاقة يقوم بها الأب إلى العراق لاستعادة ابنه الذي التحق بتنظيم القاعدة. وتستعرض تجليات التطرف بتدرجاته المتعددة، من خلال شخصيات نموذجية تشتبك في حوار لا يفتقر للحجج المقنعة، فالقس باركلي الذي يرافق الجنود الأميركيين لتقوية روحهم المعنوية والروحية لا يختلف في خطابه المتشدد عن أبي مصعب الزرقاوي، فكلاهما يخوض باسم الله «حربا مقدسة». يعبر القس باركلي عن ثقته في أن «الغلبة في الحرب ستكون لجيوش الله»، وذلك بعد أن يقسم جيوش العالم إلى فسطاطين: جيوش الخير وتضم الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين، وجيوش الشر وتضم العرب والروس والصينيين. في حين أن الزرقاوي يعتبر ما يجري حربا عالمية اندلعت ولن تتوقف وهي «فرصة ربانية لجنود الله خوض معركتهم مع الشيطان الأكبر»: «نحن أهل الإيمان، توكلنا على الله».

المواجهات في الرواية لا تقتصر على حرب يحركها التطرف على الجانبين، بل هناك اشتباكات في كل طرف على حدة، من دون أن تحاول تحسين صورة طرف منهم على الرغم من النوايا الطيبة التي يظهرونها، لا الأب الذي يضطر تحت ضغط عاطفة الأبوة إلى السعي لإنقاذ ابنه من المستنقع العراقي وبراثن الإرهاب، أو الأميركي ميللر الذي ظن أن حرب العراق معركة من أجل «تحقيق الديمقراطية»، لا يجوز إعطاء شرف خوضها إلى المرتزقة، وكان كل همه أن يكسب حربا أقل كلفة، ليكتشف أن ذلك الزعم ليس سوى خديعة لشرعنة الهيمنة على العراق وثرواته، لكن بعد أن يخذلوه.

تسخر الرواية من عبثية وتخبط تبرير حرب الأكاذيب، فالأميركيون متطرفون يمارسون القتل تحت لواء محاربة قوى الشر بوصفهم جيش الرب، ولا يوفرون استخدام أي وسائل همجية للتكسب من حرب لا أخلاقية على حساب الضحايا الأبرياء.

على الطرف الآخر، يخوض المثقف العربي المعارض والمعادي للأميركان معركته الشاقة مع التطرف الديني بعدما أصبح ابنه أمير جماعة في تنظيم القاعدة. لا يستوعب الأب بعد عودته الصدمة العنيفة فيحاول الهرب إلى النسيان القسري، فيلجأ إلى فقدان الذاكرة الإرادي: «ترتبط الذاكرة بالبصر والبصيرة. بالنسبة إلى البصر، أنا لا أرغب في أن أرى، أما البصيرة فما أصابها أشد من العمى». بهذه الكلمات تلتقط الرواية لحظة محاولة تجنب الصدمة، والرعب الذي تعد به، ولم يعد النسيان سوى محاولة يائسة لدرء عذاب مروع آت لا محالة.

في خضم اللحظات المصيرية تطرح الرواية أسئلة شائكة عن معنى الحياة والموت، الإيمان والإلحاد، الاستشهاد والانتحار، أو ما بات متعارفا عليه بثقافة الموت. المفارقة أن الأميركي «ميللر» جاء إلى العراق محملا باستهجانه للعمليات الانتحارية وقناعته: «لا توجد قضية في العالم تستحق الانتحار من أجلها»، سنجد بعد الانخراط في اختبار قاس مع الوقائع على الأرض واكتشافه حجم الأكاذيب والتضليل، أنه هو ذاته غير عصي على اليأس، فينتحر.

وفي المقابل نرى العلماني الذي سعى لإنقاذ ابنه من التورط في عملية انتحارية، يفكر في جدوى احتفاظ صديقته بجنين، كان ابنه من علاقة حرة مثلت له مساحة للخلاص، ويسأل «ما الذي سنوفره لطفلنا سوى هذا الدمار الذي لن يستثني المنطقة كلها في المستقبل.. لماذا نورطه في العيش؟ لم يكن لهذا أن يخطر لي، لو أن الحياة لا يُفرط بها في كل لحظة، بكل قسوة وبلا مبرر ولأتفه الأسباب، لمحض مصادفة عابرة. لماذا الإبقاء عليها إذا كان لا يمكن الدفاع عنها؟».

يفشل الأب في إنقاذ ابنه ويعود من العراق على محفة في سيارة «بيك أب».. لم يحل الموت بين الأب والابن، بل افتراق الطرق؛ كلاهما ينظر إلى الآخر على أنه ضل السبيل إلى المستقبل، وكلاهما حاول أن يثني الآخر عن اختياره، من دون أن تعوزهما الحجج للتشبث بما يراه كل منهما صحيحا، حين لا مناص من اصطدام مدمر لا يعني تجنبه النجاة، وإنما ترك الواقع يرسم مساره بكل ما يعنيه من مآس.

تحت القصف وبين أشلاء القتلى كان الافتراق، ليبقى الأمل معلقا على جنين (جيل قادم) ثمرة علاقة حرة قامت بين شخصين ابتكرا مكانا للحب والحياة في الزمن الصعب، تفتح الرواية بابا أخيرا على دعوة للتأمل كمحاولة لفهم ما جرى ويجري.

«جنود الله» التي اتسمت بمقدار كبير من الحيوية، تدين الإرهاب كما تدين استقالة اليسار الذي لم يحتمل الهزيمة، واستفاق متأخرا على أنه أنجب جيلا على شاكلته من حيث التطرف المعاكس، تركه لقمة سائغة للتيارات الدينية المتشددة، في عالم يعاني من الفراغ بعد أن فقد توازنه عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. ولم تكن أمام الرغبة العارمة للشبان في تغيير العالم ورفع الظلم، أي مسارب سياسية وفكرية فاعلة على الساحة سوى التنظيمات الدينية. وللغايات ذاتها أي «التحرر والعدالة».

خلال التذكر الاختياري والنسيان القسري تكشف الرواية عن مشكلة جيل الآباء، القلة القليلة منهم التي ثبتت على مبادئها ودافعت عنها، قد تجاوزها الزمن لاحقا، في حين ذهب البعض وبانتهازية فاضحة للالتحاق بركب الفريق الصاعد، وما تبقى من فلول انكفأت على نفسها. فالأم التي شاركت الأب أفكاره التقدمية عن الوازع الأخلاقي الذاتي، آلت إلى مخالفة دعواتها التحررية، وفرحت بالتزام ابنها الديني لتضمن عدم فقدانه مع فتاة متحررة من اللواتي كانت تدافع عنهن في شبابها، متنكرة لثوابت حافظت عليها طويلا، وحورت بعض الأفكار عن التقاليد والتحرر.. «وأضافت إليها نسخة محسنة من إيمان مبتكر لا يمكن فهمه إلا على أنه مزيج من النموذج التلقيني الدارج للعبادات». والأب كنموذج للعنفوان اليساري، ظن في أوج توهج اليسار في الستينيات أنه قاب قوسين أو أدنى من النصر في معركة العدالة ضد الرجعية، والإمساك بزمام المستقبل، وفوجئ بعد ثلاثة عقود من النضال بأن المعركة خاسرة، والمستقبل مسكون بالأصولية ويعبث به المتطرفون.

فواز حداد في «جنود الله» وكما هو في رواياته السابقة «مرسال الغرام» و«مشهد عابر» و«المترجم الخائن» و«عزف منفرد على البيانو» لا يتقيد بأي موقف مسبق، وإنما يأخذ القارئ معه في رحلة البحث عن أسباب ما وصلنا إليه. في «جنود الله» تمكن من رصد المشهد بحيادية لا تنجو من استفزاز لمن يعتبر الحياد تجاه قضايا كهذه انحيازا.

ولكن مهارة حداد وحذاقته لم تفلحا فقط في رسم مشهدية بانورامية على خلفية الهول العراقي، بل وتركت مساحة كبيرة للتفكير، من خلال موضوعية قاسية تدين جيلا أعاد إنتاج التخبط والفشل والتقديرات الخاطئة.

ما يميز الرواية من حيث الشكل الفني أنها اعتمدت تقنية مخادعة، تبدو في ظاهرها بسيطة، وتتمكن من خطف انتباه القارئ لمتابعة حدث ساخن تتواتر تطوراته على إيقاع تصعيد يتمتع بقدر كبير من التشويق والإثارة. بحيث لا يفسح مجالا للتمعن في المقولات الفكرية، مما يخفي مستويات أخرى، تحرض القارئ على التوقف عندها من دون أن تمنحه الفرصة لذلك.