«الحداثة الإيمانية» هي الأنسب للعرب

الحداثة من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين في كتاب لهاشم صالح

من الحداثة إلى العولمة. المؤلف: هاشم صالح. الناشر: المجلة العربية - الرياض 2010 ط1. الصفحات: 412 ق. متوسط.
TT

تنبع أهمية كتاب «من الحداثة إلى العولمة» لهاشم صالح من شمول موضوعاته، ارتباطا بالحدث الفلسفي والتطورات والشخصيات الفلسفية، وبخاصة ما يتعلق بالحداثة ابتداء من القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، ومن ثم موضوعه العولمة من خلال تناول الكثير من الأعلام والاستشراق وشخصياته الهامة.

في مقدمته عن الحداثة يشير المؤلف إلى مسألة هامة جدا، هي ضرورة أن يمر أي شعب بمخاض عسير كي يأتي بنتائج استحقاقية باتجاه الحداثة والتقدم. وهذا المخاض سيكون مترافقا بخسائر وضحايا وآلام لا يمكن لأي شعب أن يقفز إلى الحداثة دون المرور بها، كما يرى أن الحداثة تموضع العلم في مركز الحياة الاجتماعية بدلا من العقلية الميتافيزيقية. وهذا ما ناضل من أجله مؤسسو المنهجية العلمية والعقلانية في الغرب، وهم بيكون، وغاليلو، وديكارت. وكان الهدف من هذه المنهجية العلمية كما يقول ديكارت هو «أن نسيطر على الطبيعة ونصبح أسيادا لها».

هذا هو شعار الحداثة الأوروبية الذي لم يتحقق فعليا إلا لاحقا، أي في القرن التاسع عشر بظهور الصناعات والآلات التكنولوجية الجبارة القادرة على السيطرة على الطبيعة ووضعها في خدمة الإنسان وإعفائه من الجهد العضلي المرهق والمنهك لصحته.

ويشير المؤلف إلى أن الفلسفة الكانطية أحدثت ثورة في مجال الفكر لا تقل أهمية عن الثورة الفرنسية في مجال السياسة، لكن حداثة العلم سبقت حداثة الفلسفة، فالحداثة العلمية (أو التجريبية) أسسها نيوتن في كتابه الشهير «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية»، الذي صدر عام 1687، في حين أن كتاب كانط الذي يمثل الحداثة الفلسفية «نقد العقل الخالص» لم يصدر إلا بعد مائة عام تقريبا من صدور كتاب نيوتن. وهاتان الحداثتان مترابطتان ولهما دور كبير في نشأة الغرب وتطوره، ودون الربط بين الحداثتين لن نفهم الحضارة الغربية الحديثة على حقيقتها، كما يقول المؤلف.

ولقد أصاب بعضهم عندما قال: لولا نيوتن لما كان كانط، الذي أحدث ثورة كوبرنيكية في مجال الفلسفة عندما قال إن ملَكة المعرفة لدينا هي التي تشكل المعرفة وليست الأشياء أو الظواهر المحسوسة هي التي تشكلها. وتناول صالح أيضا مفهوم ما بعد الحداثة وانعكاساته عربيا، وهو ينتقد المناقشات البيزنطية العقيمة عن فلسفة ما بعد الحداثة في القاهرة ودمشق وبيروت والرباط، وهو يعتقد أننا لم نتوصل بعد إلى الحداثة ذاتها ولا نزال نتخبط في مشكلات القرون الوسطى ثم نسمح لأنفسنا بأن نضيع الوقت في التحدث عن أشياء تتجاوز وعينا وإمكانياتنا.

وبعد أن يتناول الحداثة من خلال روادها، ينتقل المؤلف إلى الحديث عن العولمة، وبرأيه أن العولمة ما هي إلا تعميم للحداثة على أوسع نطاق، وهي تتجلى في أربعة أشياء: حركة البشر، وحركة السلع والخدمات، وحركة رؤوس الأموال، وتبادل المعلومات والأفكار والأخبار. ويستشهد صالح بمقولة الفيلسوف الكندي مرشال ماك لوهان عن أن العالم تحول إلى «قرية كبيرة»، إذ إن كل شيء أصبح يسهل التواصل بين البشر في عصر العولمة، فقد تزايدت وسائل الاتصال وتنوعت من الفاكس إلى الهاتف الجوال إلى الإنترنت، أي أننا نعيش عصر الثورة الثالثة.. الثورة المعلوماتية.

ويشير هنا إلى قناة «CNN» التي ظهرت عام 1980، وهي ذات أبعاد كونية أي تهدف إلى الوصول إلى المشاهدين في كل أنحاء الأرض، وهي تبث الأخبار والمعلومات والبرامج على مدار 24 ساعة يوميا، وربما أدت بعد فترة إلى تشكيل وعي كوني لأن جميع الناس الذين يشاهدونها من صينيين وعرب وأوروبيين وروس وهنود... إلخ. كما يمكن أن نقول الشيء ذاته عن قناة «العربية» أو «الجزيرة» اللتين أصبحتا تساهمان في تشكيل الوعي الثقافي والسياسي العربي الراهن.

إن هذا الانتشار السريع جدا للأخبار والصور والأفكار يثير ردود فعل كثيرة ومتنوعة أو مختلفة، وبالتالي فالعولمة تعيد صياغة الكون على شكل وحدة اتصالية، ولكنها لا تلغي الخصوصيات أو الموقف المتميز لكل فرد أو مجموعة.

ويتناول المؤلف الشخصية العربية المتنورة والمغتربة في فرنسا، مالك شبل، الذي يحاول جاهدا تنقية الصورة العربية الإسلامية في الغرب مما علق بها من شوائب وتشويشات لدى العقل الغربي. ويبدي أسفه لوقوع العرب بين نقيضين متصارعين فيقول: «إن أغلبية المسلمين أصبحوا رهينة وواقعين بين فكي كماشة، أي بين أقلية من المتطرفين المسلمين العنيفين من جهة، وأغلبية من الغربيين الذين يشتبهون بكل ما هو عربي ومسلم من جهة أخرى».

وأخيرا، يميز المؤلف بين حداثتين: الحداثة الإيمانية والحداثة الإلحادية، وأن العرب على مفترق طرق، فإما أن يختاروا الأولى وإما الثانية، ولكن المؤلف يعتقد أن العرب لن يتأخروا كثيرا في الاختيار، فالحداثة المؤمنة هي الأقرب إلى تراثنا العريق وشخصيتنا التاريخية.