باريس توزع متاحفها على كل فرنسا

تحت شعار «القرن الـ 21.. يكون ثقافيا لكل المناطق أو لا يكون»

TT

«تمنيت لو أن كل واحد منا بدأ بزيارة المتحف الذي يوجد على بعد خطوات من بيته، قبل الذهاب إلى أبعد من ذلك». هذه الجملة التي تفوهت بها فرانسواز كاشان، مديرة متاحف فرنسا بمناسبة تظاهرة «دعوة للمتحف»، تلخص إلى حد بعيد مشكلة تمركز الأحدث الثقافية في المدن الكبرى، وغيابها عن الأقاليم الصغيرة. ظاهرة تكافحها فرنسا بميزانيات ضخمة، وإصرار لا يلين، والهدف اقتصادي بالدرجة الأولى.

ما يستقبله المركز الثقافي الفرنسي «جورج بومبيدو» من زوار في يوم واحد (12 ألف زائر) هو ما يصل إليه بالكاد متحف مدينة «أورليون» أو مدينة «تور» خلال سنة كاملة. ورغم هذه الفروق الصارخة، لا أحد يتعجب من الأمر، والسبب هو أن الظاهرة قديمة قدم الإنسانية. فقد تعودنا أن نرى العواصم والمدن الكبرى وهي تعيش مواسم طويلة من الزخم الإبداعي مستأثرة بأهم الفعاليات الفنية والفكرية، بينما تعيش المدن والأقاليم الصغيرة، حالة من الركود والعزلة، بعيدة عن فضول السياح واهتمام الزوار والإعلام.

الوضعية نفسها أكدها تقرير حديث لوزارة الثقافة، يفيد بأن أكبر معدلات الإقبال الجماهيري، تستأثر بها خمسة متاحف باريسية فقط. على رأس القائمة «متحف اللوفر» الذي استقطب عام 2009 أكثر من 8.5 مليون زائر و«قصر فرساي» 5.4 مليون زائر.

والأدهى هو أن هذه المتاحف الباريسية تحتكر وحدها 75 في المائة من مجموع زيارات الفرنسيين والأجانب، بينما ينتشر في البلد من شرقها لغربها أكثر من 1211 متحفا بعضها لا يكاد يستقبل بضعة زوار رغم انفراده بمجموعات جميلة ومتميزة.

الظاهرة لا تخص المتاحف فحسب، بل تشمل نشاطات ثقافية أخرى. فعدد المهرجانات الموسيقية المنظمة في العاصمة باريس مثلا يفوق الـ55، بينما لا تعرف منطقة شامبان أردان، التي تضم عدة بلدات من شمال شرقي فرنسا سوى أكثر من 5 مهرجانات.

استفحال هذه الظاهرة دفع المسؤولين إلى وضع هذه المسألة في قائمة اهتماماتهم، حتى إن وزير الثقافة فريدريك ميتران صرح بهذه المناسبة بـ«أن الثقافة في القرن الواحد والعشرين، تكون في كل الأقاليم أو لا تكون».

الحرب على ظاهرة الركود الثقافي في المدن الصغيرة، لا تحركها دوافع سياسية أو ديماغوجية فحسب، بل وراءها دوافع اقتصادية. وهو ما اقتنع به المسؤولون المحليون الذين راحوا يفكرون في مدى إمكانية الاستفادة من اسم وصيت مؤسسات ثقافية عريقة، كاللوفر مثلا، لمد يد العون لمدنهم الصغيرة الفقيرة حتى تنهض بمؤسساتها الثقافية وتلحق بركب العاصمة.

الفكرة بدأت تتجسد بمشاريع ضخمة كافتتاح جناح جديد للمركز الثقافي «جورج بومبيدو» في مدينة فرنسية صغيرة وسط البلاد تدعى متز، مع مطلع شهر يونيو (حزيران) الماضي. والمعروف عن متز أنها تعاني وضعية اقتصادية صعبة، ومعدلات بطالة كبيرة تصل إلى 9%. وعلى الرغم من مرور أشهر معدودة على افتتاح المتحف، فإن أهالي هذه البلدة الصغيرة (130 ألف ساكن) بدأوا يلاحظون بارتياح شديد انتعاش الحركة الاقتصادية والسياحية، حيث سجل الديوان الوطني للسياحة ارتفاع عدد الوافدين لهذه المدينة في شهر أغسطس (آب) إلى الضعف، قادمين إليها من بقاع مختلفة من العالم كأميركا الشمالية وآسيا وأوروبا الشرقية للتمتع بمشاهدة 700 تحفة حصل عليها المتحف الجديد من أخيه الأكبر «بومبيدو باريس»، بعضها لم يعرض إلا نادرا كرائعة ماتيس «تعاسة الملك». «وبعد أن كان القطار السريع يعرف اتجاها واحدا من متز إلى باريس، أصبح سكان العاصمة هم من يستقلون القطار لزيارة متز والتمتع بمحتويات متحفها الجديد بعيدا عن صخب العاصمة»، يقول عمدة المدينة دومنيك غرو بكل فخر واعتزاز. كما قفزت أرباح الفنادق والمطاعم وأصحاب المتاجر بنسبة 40 في المائة، حتى نظرة الفرنسيين إلى هذه المدينة نفسها تغيرت، فبعد أن كانوا لا يذكرون من معالمها سوى الكاتدرائية التي ترك الفنان مارك شاغال بصمته على نوافذها، أصبحوا الآن يرونها «محطة مهمة» ووجهة سياحية جديدة. و«هو تطور كبير ظللنا ننتظره منذ أكثر من ثلاثة عقود»، يضيف أنطوان فونتي المكلف الشؤون الثقافية في المدينة. وكان هذا المشروع الضخم الذي يمتد على مساحة 1000 متر مربع قد كلف الهيئات الحكومية نحو 70 مليون يورو، لكنها تتوقع تعويض هذه الأموال والاستفادة من التبعات الاقتصادية لافتتاح المتحف، تماما كما تستفيد الآن مدينة بلباو الإسبانية من متحف «كوجنهايم» للفنون الحديثة. وهو المشروع الذي نهض باقتصاد عاصمة الباسك وأثرى خزينتها منذ 1997 بنحو 185 مليون يورو، بعد أن كانت تعاني ركودا اقتصاديا كبيرا.

الملاحظ عموما منذ 2004، تاريخ إطلاق خطة التماسك الاجتماعي 2004 - 2009 التي وضع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أسسها ليواصل ساركوزي العمل فيها، تزايد اهتمام الهيئات الحكومية بمختلف مستوياتها (وزارة، ومحافظة، وبلدية) بدعم الثقافة في المدن الصغيرة، علما بأن أهم بنود هذه الخطة هو رفع مستوى العرض الثقافي في المدن الصغيرة. وكانت هذه القرارات السياسية قد أفضت إلى ارتفاع في ميزانيات المحافظات المخصصة للثقافة ما بين 2004 إلى 2010 بنسبة 11%، وقد تم عبر هذه المشاريع مراعاة أولويات معينة ودعم بعض النشاطات التي تشتهر بها بعض هذه الأقاليم.

فمشروع «لاكرتوشوريه» الذي بدأ يرى النور في مدينة «بورغ لي فالانس» القريبة من ليون، يضم مدينة سينمائية واستوديوهات تصوير ومعاهد تمثيل ومتاحف للسينما. وقد جاء كتتمة طبيعية لما يعرف عن منطقة رون ألب ككل من علاقتها التاريخية مع الفن السابع. ففي مدينة ليون ظهر أول شريط تسجيلي في تاريخ الإنسانية على يد الأخوين لويس وأوغست لوميار سنة 1895، وبها متحف يخلد اسم المخترعين، فيه نحو 14 ألف تسجيل قديم يعود إلى بدايات القرن العشرين، وبها أيضا معهد للسينما يديره المخرج الكبير برنار تفرنيي. المنطقة تعد أيضا مقر شركة «فولي ماغ» التي أصبحت مشهورة عالميا بعد إنتاجها رسوم كرتون معروفة. وقد كان لوصول التيار اليساري الفضل في تغيير الأوضاع حيث قرر المحافظ الجديد رفع الميزانية المخصصة للثقافة في هذه المنطقة إلى الضعف، وقفزت من 33 مليون يورو سنة 2004 إلى 70 مليون يورو سنة 2010.

أما في مدينة مولوز مثلا التي تخصص 3 في المائة من ميزانيتها للثقافة، فإن اهتمام المسؤولين ذهب لترميم التراث المعماري ومنها القصور التي تنتشر في المدينة العريقة وتعود إلى القرن الثالث عشر، وإلى تمويل أشغال توسيع متحف السيارات. كما تهتم منطقة شمبانين أردن التي تضم بلدات جميلة كرامس وشرلوفيل ميزيار بصفة خاصة بالفنون الشعبية، ذلك أن هذه المنطقة تعرف تنظيم عدة مهرجانات من هذا القبيل. وقد دعم هذا القطاع في السنوات الأخيرة بنحو 14 مليون يورو. من المشاريع المهمة أيضا مركز للفنون والموسيقى في مدينة بزونسون في شرق فرنسا. وقد تم تصميم المعمار الذي يتربع على مساحة هكتارين على يد المهندس الياباني المعروف كينغو كوما. أما في منطقة النورماندي التي تعتبر موطن الفن الانطباعي ومستقر أشهر رساميه أمثال كلود مونيه، فقد فضل مسؤولو الثقافة المواصلة على الخط الذي صنع شهرة المنطقة بإطلاق أعمال توسيع وترميم «متحف جيفرني للفن الأميركي» وإعادة تسميته بـ«متحف الانطباعيين»، كما تم الاتفاق أيضا على تزويده بمجموعات فنية جديدة. لكن تبقى مدينة مرسيليا المطلة على البحر الأبيض المتوسط صاحبة أكبر ميزانية (175 مليون يورو) ستوجه لتمويل مشروع متحف حضارات أوروبا والحوض المتوسط الذي يستفيد من محتويات المتحف الوطني للفنون والتراث الشعبي بعد أن تم إغلاقه في باريس. تليها منطقة نور باد كاليه، التي تضم مدنا مثل: ليل، وأراس، ولونس، بمشروع «لوفر لونس» المنتظر افتتاحه مطلع 2012، وكلف لغاية الآن أكثر من 150 مليون يورو. وهو عبارة عن جناح آخر لمتحف اللوفر الكبير. وكان رئيس الوزراء السابق، جان بيار رافران، قد استلهم فكرة هذا المتحف الجديد من مشروع «لوفر أبوظبي»، بغرض إخراج بلدة «لانس» والمناطق المجاورة من الركود الاقتصادي الذي تتخبط فيه منذ سنوات واستقطاب المستثمرين والسياح، لكنه قوبل بكثير من النقد تحديدا بسبب ارتفاع تكلفته التي قيل أنها ستقتطع من ميزانية المشاريع الثقافية الصغيرة.

لكن ثمة من يرى أن مشكلة المدن الصغيرة ليست في شح النشاطات الثقافية بل في قلة الإقبال عليها، تحديدا بسبب ضعف الاهتمام الإعلامي بها. فالنقاد لا يهتمون إلا بالتظاهرات التي تحدث على بعد أمتار من قاعات التحرير، وغالبا ما تكون نوعية الملف الصحافي الذي يقدم في سهرة الافتتاح هي ما يجذب الصحافيين أكثر من العمل الفني نفسه، لا سيما إذا كان الفنان خارج دائرة علاقاتهم العامة. وقد تم اقتراح عدة خطوات لإخراج المدن من عزلتها الثقافية أهمها خلق الحدث، وتسليط الأضواء على نشاطات ثقافية معينة لجذب الاهتمام، ومنح انطباع بالخروج عن المألوف. وهو ما فعله مسؤولو متحف مدينة ران الواقعة في منطقة لابروتاني، الذين نظموا بالتنسيق مع متاحف أميركية معرضا للوحات فنانين أميركيين بعنوان «الأسطورة الأميركية»، تم الترويج له بشكل جيد مما ضمن للمتحف زيارة أكثر من 30 ألف شخص، وهو ما يمثل مجموع زوار المتحف في سنة كاملة. كما ينصح أيضا باللجوء للمعارض المتنقلة، بعد أن لوحظ عزوف البعض عن التردد على بعض المناطق بسبب صعوبة المواصلات. وكانت مصورة فرنسية تدعى ماري نويل بوتان قد صنعت الحدث حين خرجت بأعمالها لعرضها في أحياء مدينة دانكرك بعد أن اعتبرت أن «متحف الفنون الجميلة» الذي يوجد في المدينة لا يستقبل عددا كبيرا من الزوار (أقل من 12 ألفا في السنة)، كما أن المدينة نفسها تفتقر إلى شبكة مواصلات كبيرة تسهل تنقل الزوار. ظاهرة المعارض المتنقلة القريبة من اهتمامات الناس، يقول بيار روزنبرغ، المدير السابق لمتحف اللوفر: «هي الأنسب في مثل هذه المناطق. فالأهالي الذين ينتمون في معظمهم إلى فئات العمال والمزارعين قد لا يروقهم معرض للرسم الانطباعي بقدر ما ينجذبون لصور عمال مناجم، أو مزارعين أجانب. ذلك أن الشخص الذي يعاني البطالة لن يستقبل بنفس الحماس عرضا متحفيا بقدر ما يتأثر بعمل فنان يزور حيه بضعة أيام ليشاركه معاناة حياته اليومية».

تشجيع الشباب هو أيضا من أولويات الخطة الجديدة، حيث كشفت دراسة للمركز الوطني للبحوث «سي إن آر إس» بأن ثلاثة شبان من أصل أربعة قد قرروا زيارة متحف، فقط لأنه كان بالمجان. وهو ما جعل وزارة الثقافة تعيد تطبيق مجانية دخول الشباب دون سن السادسة والعشرين منذ الرابع من أبريل (نيسان) الماضي. ويعتقد أن 30 في المائة من الزوار استفادوا من هذا القرار سنة 2009.

كما ينتظر أن تستفيد عدة متاحف من مشاريع ترميم وتوسيع، عبر خطة جديدة كشف عنها وزير الثقافة فريدريك ميتران، في سبتمبر (أيلول) الماضي تحت اسم «خطة المتاحف في المحافظات 2011 - 2013»، علما بأن المبلغ الإجمالي الذي سيخصص لهذه الخطة يصل إلى 70 مليون يورو موجهة لدعم 97 مشروعا ما بين تمويل عمليات ترميم واقتناء مجموعات جديدة. وهي لن تقتصر على متاحف البلدات الصغيرة، بل تمتد إلى متاحف مدن مهمة كمرسيليا ونانت. وقد تبين من خلال عدة تجارب سابقة أن إقبال الزوار الذي يرتفع بعد عمليات ترميم المتاحف لا ينزل عن مستواه بعد مرور الوقت، بل إن الفضول واكتشاف المبنى الجديد الذي غالبا ما يكون الدافع وراء الزيارة الأولى، تعقبه زيارات متكررة. وكان قصر الفنون الجميلة في مدينة ليل قد سجل بعد انتهاء عمليات ترميمه معدلات دخول قياسية لم يعرفها من قبل.

لكن يبقى اهتمام الساسة الفرنسيين بتطوير المشاريع الثقافية في المدن الصغيرة مرتبطا ارتباطا وثيقا باقتناعهم التام بأن هذه الخطوة هي طوق نجاة سيخرج أقاليمهم الفقيرة من عزلتها وركودها الاقتصادي، ويبعث الانتعاش والحيوية في قطاعيها الاقتصادي والسياحي.