ماركس.. نقد كل ما هو موجود

على الرغم من انهيار الشيوعية فإن حياة مؤسسها لا تزال تثير الاهتمام الكبير في الغرب

كارل ماركس.. أو روح العالم تأليف: جاك أتالي
TT

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث الفرنسي المعروف ومدير البنوك الشهير، جاك أتالي، الذي كان مستشارا شخصيا مقربا جدا من الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران. وذلك قبل أن يتبرأ منه هذا الأخير في أواخر حياته ويدين خيانته وعقوقه له بعد أن انتهت سلطته وأفل مجده. وهو مختص بأشياء كثيرة من بينها كارل ماركس، والفلسفة الماركسية، والرأسمالية وقضايا العولمة بشكل عام. كما أنه من مواليد الجزائر عام 1943، ومن عائلة يهودية. وهو هنا يقدم لمحة تاريخية عامة عن حياة ماركس وأعماله.

فعلى الرغم من أن الشيوعية قد انهارت، وأن الماركسية فقدت الكثير من مصداقيتها في الآونة الأخيرة، فإن حياة مؤسسها لا تزال تثير الاهتمام لدى الباحثين والمختصين بالشؤون الآيديولوجية. يضاف إلى ذلك أن فكره لا يزال حاضرا بسبب تركيزه الشديد على العدالة الاجتماعية والبؤس والفقر المدقع الذي كان يصيب طبقة العمال أو البروليتاريا طوال القرن التاسع عشر بشكل خاص، بل وحتى منتصف القرن العشرين. وبالتالي ففي الوقت الذي سقط فيه جدار برلين وكل الأنظمة الشيوعية التوتاليتارية التي كانت تنسب نفسها إلى ماركس نجد المؤلف يكرس له كتابا ضخما يصدر عن سلسلة «سير الشخصيات الكبرى» لدى منشورات فايار الباريسية. إنه يحاول إلقاء بعض الأضواء الساطعة على شخصية هذا المفكر العملاق الذي كان دائما منبوذا ومطاردا في وقته. كما كان يعاني من الفقر والمشكلات المعيشية التي نغصت عليه وعلى زوجته وأطفاله حياته العائلية إلى درجة أنه أسف لأنه لم يبق عازبا. وقال هذه العبارة: «من يريد أن يتنطح للمشكلات العامة، من يريد أن ينزل إلى المعمعة، لا ينبغي أن يتزوج أبدا. فلا يحق له أن يعرض زوجته وأعز الناس لديه إلى آثار الضربات الانتقامية التي سيتلقاها حتما وبشكل موجع جدا أحيانا».. وقد صدق.

في الواقع أن ماركس هو المفكر الوحيد الذي استطاع تأسيس دين جديد يضاهي في حجم انتشاره وكثرة أتباعه الأديان السماوية الكبرى. ولم يجمع أي ثوري حوله كل هذه الآمال العريضة التي جمعها كارل ماركس وحشدها وذلك قبل انهيار قصته أو أسطورته بالطبع. وما عدا مؤسسي الأديان الكبرى، فلم يستطع أي مفكر آخر أن يمارس كل هذا التأثير على عصره والعصور اللاحقة. وفي الوقت الذي أصبح فيه العالم قرية واحدة بفضل ثورة المعلوماتية والفضائيات، في الوقت الذي تتسارع فيه حركة العولمة التي كان قد أرهص بها ماركس وتنبأ كما يقول جاك أتالي فإنه قد آن الأوان للكشف عن بعض جوانب هذه الشخصية الفذة والإشكالية في آن معا. لقد درس ماركس المجتمع الصناعي الأوروبي الذي كان وليدا في عصره منتصف القرن التاسع عشر. وشخّص أمراضه ونواقصه التي يعاني منها وطرح لها الترياق أو العلاج المناسب. ولم تكن كل تشخيصاته خاطئة، وكذلك كل علاجاته، على الرغم من مزاعم الرأسماليين الحاليين الذين سارعوا إلى الشماتة به بعد سقوط آيديولوجيته. الشيء الوحيد الذي يؤخذ على جاك أتالي هو تركيزه الزائد عن الحد على الأصول اليهودية لماركس. يحصل ذلك كما لو أنه يوحي بأن اليهودي هو وحده القادر على أن يكون عظيما إلى مثل هذا الحد أو معذبا إلى مثل هذا الحد أيضا! وهذا مضاد كليا لفكر كارل ماركس الذي كان كوني النزعة على طريقة فلاسفة التنوير، أي يهتم بتحرير كل البشر وليس فقط اليهود. بل إن ماركس أدان بشدة ميل اليهود إلى التعصب والانغلاق على الذات ودعاهم إلى الانفتاح على الآخرين ومحبتهم والمساعدة على تحرير كل الشعوب وإعطاء حق الإنسانية لهذه الشعوب. لقد انتقدهم في كتاب شهير إلى درجة أنهم اتهموه بمعاداة السامية، على الرغم من أصوله اليهودية! وبالتالي ففي هذه النقطة بالذات يخرج جاك أتالي - على الرغم من ألمعيته - على الجوهر الحقيقي لفكر كارل ماركس الذي أدان العنصرية الأوروبية بكل أشكالها وليس فقط تلك الموجهة ضد اليهود والمدعوة باسم معاداة السامية. ولو كان حيا الآن لناضل ضد التمييز العنصري الذي تمارسه بعض الأوساط الغربية حاليا ضد العرب والمسلمين والأفارقة السود عموما. ومن المؤكد أنه كان سينتصر لنضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية. ولكنه كان سينتقد أيضا الانغلاق الأصولي السائد في جهتنا ويدعو إلى تحرير راديكالي للفكر العربي الإسلامي من السلفية اللاهوتية المزمنة والتكفيرية.

لكن من هو كارل ماركس يا ترى؟

ولد كارل ماركس بألمانيا في الخامس من شهر مايو (أيار) عام 1818 ومات في لندن يوم الرابع عشر من مارس (آذار) عام 1883. وهذا يعني أنه عاش 65 عاما. وبين هذين التاريخين شهد العالم ظهور شخصية فكرية وسياسية سوف يكون لها تأثير ضخم على الأجيال التالية كما ذكرنا. وقد اشتهر ماركس بنقده الرأسمالية نقدا شديدا على الرغم من اعترافه بالتقدم الذي حققته البورجوازية كطبقة اجتماعية عقلانية وعلمية.

كما اشتهر بفلسفته التي اختزلت التاريخ البشري كله إلى مجرد صراع للطبقات بين الرأسماليين والعمال البروليتاريين. وهي نظرة صحيحة وناقصة في الوقت نفسه ولا تنطبق إلا على مجتمعات الغرب الصناعية المليئة بالمعامل والطبقات العمالية. وحتى هنا نلاحظ أن الرأسمالية كانت ذكية عندما رفعت مستوى العمال وأسقطت بالتالي أطروحة ماركس حول الثورة المحتومة وانهيار الرأسمالية.

كان والده محاميا من أصل يهودي ولكنه تخلى عن يهوديته عام 1824 وجعل أولاده الأربعة يعتنقون الدين الغالب في ألمانيا: أي المسيحية على الطريقة البروتستانتية. وقد حصل ذلك عندما كان عمر ماركس ست سنوات فقط. وبعد أن نال ماركس شهادة البكالوريا في مدينته الأصلية انتقل إلى بون لدراسة القانون، ومن هناك ذهب إلى جامعة برلين لإكمال دراساته الجامعية والاهتمام بالتاريخ والفلسفة بالدرجة الأولى. ومعلوم أن ذكرى هيغل كانت لا تزال حية وقوية باعتباره أستاذ الفلسفة الأكبر في جامعة برلين وصاحب النظريات الشهيرة التي أثرت على ماركس وكل جيله أعظم تأثير، كما هو معلوم. ولكنه لم يستطع أن يتتلمذ على يد هيغل مباشرة لسبب بسيط هو أن هذا الأخير كان قد مات عام 1831، أي عندما كان ماركس في الثامنة عشرة من عمره وقبل أن يصل إلى مدينة برلين للدراسة فيها. وقد أنهى ماركس أطروحة الدكتوراه في جامعة برلين عام 1841 وناقشها تحت العنوان التالي: «الاختلاف في فلسفة الطبيعة بين ديقريطس وأبيقور»، وهما فيلسوفان يونانيان قديمان.

وفي برلين انتسب ماركس إلى الحلقات الثقافية التي تدعى باليسار الهيغلي. نقول ذلك ونحن نعلم أن فكر هيغل أدى إلى توليد تيارين متزامنين: الأول يميني محافظ، والثاني يساري انقلابي أو ثوري. ومن أشهر الهيغليين اليساريين يمكن أن نذكر برينو باوير ولودفيغ فويرباخ.

ومعلوم أن هذا الأخير كان قد انخرط في نقد جذري لعلم اللاهوت المسيحي بدءًا من عام 1836، أي بعد موت هيغل بخمس سنوات فقط. وأخذ فويرباخ يتجه أكثر فأكثر نحو المادية المحضة، أي الإلحاد في نهاية المطاف. وكان ذلك مناقضا لمثالية هيغل الذي حاول المصالحة فيها بين الدين والفلسفة، أو بين السماء والأرض. ومعلوم أن ماركس تأثر بفويرباخ وسار على خطاه.

وقد عبر فويرباخ عن توجهه الجديد هذا في كتابه «جوهر المسيحية»، وحاول عندئذ استخدام الجدل المثالي لهيغل من أجل فهم الواقع بشكل تاريخي وعلمي ومن خلال تطوره الجدلي الخلاق. بمعنى آخر فقد حرّف فلسفة هيغل عن مثاليتها لكي تصبح واقعية أو مادية بحتة.

وفي عام 1842 كان ماركس في الرابعة والعشرين من عمره عندما عرض عليه بعض البورجوازيين الراديكاليين أن يتسلم رئاسة تحرير جريدتهم في مدينة كولونيا. وكانت مناهضة لسياسة الحكومة المعتبرة بأنها رجعية محافظة. وقد سر ماركس بهذا المنصب في وقت كانت أبواب الجامعة مقفلة كليا أمامه.

وراح كارل ماركس يزيد من راديكالية الجريدة في الاتجاه الديمقراطي الثوري. ولكن الحكومة كانت له بالمرصاد، فقد فرضت عليه رقابة صارمة، ثم منعت الجريدة من الصدور عام 1843. وكان ماركس قد اضطر إلى الاستقالة من منصبه قبل ذلك التاريخ من أجل إنقاذ الجريدة، ولكن عبثا.

ثم ذهب ماركس إلى باريس حيث أسس جريدة راديكالية لم يصدر منها إلا عدد واحد. وكانت باسم «الحوليات الفرنسية – الألمانية». وقد ساعده على نشرها شخص يدعى أرنولد روغ (1802 - 1880). ولكنه اختلف معه لأن ماركس كان راديكاليا أو ثوريا أكثر من اللزوم.

فقد طرح عندئذ الشعار التالي «ينبغي نقد كل ما هو موجود بشكل لا شفقة فيه ولا رحمة». وقال عندئذ هذه العبارة: «إن نقد الأسلحة لا يمكن أن يحل محل سلاح النقد».

وفي عام 1844 التقى أنجلز بكارل ماركس لأول مرة عندما كان في زيارة خاصة إلى باريس. وسوف يصبح لاحقا صديقه الأكثر إخلاصا وحميمية. وكان أنجلز ألمانيا مثل ماركس ولكن من عائلة غنية مستقرة في إنجلترا. وقد درس فلسفة هيغل مثل ماركس وأعجب بها، ولكنه رفض المشروعية الفكرية التي خلعها هيغل على الدولة البروسية المحافظة.

ولم يقطع ماركس وأنجلز عندئذ مع فويرباخ فقط وإنما أيضا وبشكل خاص مع الأستاذ الأكبر هيغل، أي مع تصوره المثالي لفلسفة التاريخ. وقد كتب ماركس في أطروحاته عن لودفيغ فويرباخ التي تشكل مقدمة الكتاب العبارة الشهيرة التالية: «إن الفلاسفة لم يفعلوا على مدار التاريخ إلا شيئا واحدا.. تفسير العالم بطرائق مختلفة. وقد آن الأوان لتغييره».