هل يصادر الرقيب أدباءنا لأنهم «قليلو الأدب»؟

مزاج الرقباء يعيد الثقافة العربية مائة سنة إلى الوراء

TT

مصادرة الكتب بالعشرات وبعضها لكتاب مكرسين، ومنعها من المشاركة في «معرض الكويت للكتاب»، كانت الحلقة الأخيرة في مسلسل المصادرة والمنع والحصار الذي يتعرض له الكتاب العرب، مرة بحجة أنهم «قليلو الأدب» و«يخدشون حياء القراء»، ومرة أخرى لأنهم يخالفون «التقاليد»، ومرات كثيرة لأنهم لم يعجبوا الرقيب.

هل تحولت معارض الكتب العربية إلى ساحة مصادرة وملاحقة للكتاب والمبدعين، بدلا من أن تكون ساحة تنوير؟ وعلى أي أسس ومعايير تتم عمليات المصادرة؟ ولصالح من يتم حجب المعرفة وإشاعة ثقافة الخوف تحت مسميات ومحاذير عفا عليها الزمن، وأصبحت مدعاة للتهكم والسخرية، بخاصة مع اتساع فضاء الإنترنت والتطور التكنولوجي؟ ثم أليس من السخف، والتخلف أن يصبح إبداع المبدعين والكتاب ضحية لسياسات مرتبكة بين بعض الدول في عالمنا العربي، وأحيانا تحت قناع أن لكل معرض خصوصيته ولوائحه الخاصة. ما هي إذن القواسم المشتركة التي تمنح شعار «معرض للكتاب العربي» هويته وحصانته. وبالتالي ما هو دور الهيئات والمؤسسات المنوط بها حراسة الكتاب العربي، والتعامل معه كأمانة فكرية وعلمية وأدبية، يجب توصيلها إلى القارئ بصدر رحب، وفي سياق صحيح؟!

«الشرق الأوسط» طرحت هذه الهواجس على نخبة من المبدعين طالت المصادرة بعض كتبهم، وعلى ناشرين ومختصين مهمتهم الأساسية النهوض بالكتاب العربي.

في البداية أرجع أشرف البلقيني، مدير مكتب اتحاد الناشرين العرب بالقاهرة أزمة مصادرة الكتب في الدول العربية إلى ثلاثة أسباب، أولها: «أن معظم القائمين على إدارة المعارض موظفون وليسوا مبدعين. فالموظف لا يستطيع أن يقيم كتابا في السياسة أو الفقه الديني، أو الفلسفة وقضايا الفكر والفن، وفي ظل عدم وجود لجان تضم متخصصين في مختلف المجالات». وثانيها: «أن مصادرة الكتب تتم وفقا لوجهة النظر والمعلومات المتداولة عن المؤلف والتي تكون أقرب إلى الشائعة، وليست وجهة النظر العلمية التي يقدمها، وهو ما يحدث بلبلة واضطرابا، لا علاقة لهما من بعيد أو قريب بهذه الكتب، وما تحتويه». وثالثها: «أن البعد الأمني في الدول العربية باستثناء لبنان ما زال يحكم سيطرته علي الكتب». وأوضح البلقيني أنه في حال موافقة أي دولة على طباعة ونشر أي كتاب، فلمؤلفه الحق في توزيعه في أي بلد خارجي، ولا يحق لأي نظام سياسي منع كتاب تمت الموافقة عليه، كما أن هذه الدول لن تستطيع أن تمنع الكتب عن القراء. فمعظم الكتب التي تم منعها أو مصادرتها موجودة على مواقع الإنترنت ويحق لأي إنسان أن يطبعها ويقرأها.

وقال مدير مكتب اتحاد الناشرين العرب: «لا أعترف بشيء اسمه مصادرة كتاب إلا في حالة واحدة وهي أن يتعرض الكتاب لثوابت الأديان. أما الكتب التي تضم آراء لكتاب ومؤلفين فلا يمكن مصادرتها مهما كانت الظروف». واعترف البلقيني بأن «اتحاد الناشرين العرب ليس جهة سيادية أو هيئة سياسية حتى يستطيع أن يعاقب الدول التي تصادر كتب المؤلفين، وأن ما يملكه الاتحاد فقط هو الشجب والإدانة، والتهديد بمقاطعة المعارض في حال اتخاذ دولة موقفا من دولة أخرى عن طريق أعضاء مجلس إدارة الاتحاد فقط والبالغ عددهم 26 عضوا من مختلف الدول العربية. مثل قرار مجلس إدارة الاتحاد الأخير بمقاطعة (معرض الجزائر للكتاب) المقرر انعقاده في 27 أكتوبر (تشرين الأول) من هذا الشهر، على خلفية قرار الجزائر بمنع الناشرين المصريين من المشاركة في المعرض». وحدد البلقيني أن دور اتحاد الناشرين العرب يتمثل فقط في تهيئة الظروف المثلى لتداول كتب الناشرين في المعارض.

ومن جهته أكد فريد زهران مدير «مركز دار المحروسة للنشر» بالقاهرة، عضو اتحاد الناشرين العرب على أنه لا يوجد نظام ومعايير واضحة تحكم عملية اختيار الكتب في معارض الدول العربية، لافتا إلى أن معظم هذه المعايير لا تعدو كونها مجرد إجراءات مشخصنة ومزاجية للقائمين على هذه المعارض. وأشار زهران إلى أن هذه الإجراءات قد تتعدى في بعض الأحيان الأنظمة الاستبدادية أو الدكتاتورية. وأصبح لا يمكن التنبؤ بالقواعد العامة التي تضعها الدول وتحتكم إليها في اختيار الكتب المشاركة في معارضها. وأنه لو كانت هناك قواعد حتى لو قواعد ظالمة لأمكن للكتاب والناشرين التعامل معها من خلال الاعتراض والاحتكام للرأي العام والقضاء. وضرب زهران مثلا بمصر قبل عام 1952 حيث كانت هناك قاعدة مؤكدة تنص على عدم الخوض في الذات الإلهية، وأي كتب تتعرض لموضوعات عن الذات الإلهية يتم مصادرتها.

من جهته رفض الدكتور شعبان شمس، عميد كلية الإعلام بجامعة 6 أكتوبر المصرية مصادرة أي كتاب قائلا: «ما يكتب بالقلم يرد عليه بالقلم». واصفا مصادرة الكتب بـ«المضحكة». وأضاف أن الساحة العربية كانت مليئة بالكتب التي تعدت الخطوط الحمراء في أوائل القرن الماضي، مثل كتاب «حوار مع صديق»، «ولماذا أنا ملحد؟»، وكان سقف الحرية ليس له حدود، أما الآن فأصبحت الخطوط الحمراء في كل شيء.

وانتقد شمس العقلية العربية التي تصادر الكتب في المعارض، قائلا: «كيف يتم مصادرة كتاب في معرض على الرغم من انتشاره بصورة كبيرة خارج هذا المعرض، خاصة أننا نعيش زمن الحياة المفتوحة على المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة». وكشف شمس أن «بعض المؤلفين أصبحوا يتمنون أن تصادر كتبهم، لأن الكتاب بعد مصادرته يوزع بنسبة أكبر مما لو كان موجودا بطريقة شرعية»، ضاربا أمثلة بعدد من الكتب التي صادرتها مصر، وطارت مبيعاتها بعد المصادرة مثل كتاب «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، و«وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر الذي كان ينتشر على الأرصفة في شوارع مصر، ولم يلتفت إليه أحد إلا بعد المصادرة، وما صاحبها من ضجيج ومظاهرات.

وطالب عميد كلية الإعلام بجامعة 6 أكتوبر المسؤولين في المعارض العربية بترك المجال مفتوحا، وعدم إقامة المتاريس أمام حرية الفكر والإبداع، والابتعاد عن مصادرة الكتب من دون أسباب واضحة، والرد على هذه الكتب في حالة مخالفتها للقواعد العامة بالأدلة والبراهين، واحترام عقلية القارئ. كما طالب برعاية المثقفين، وعدم اتخاذهم جسرا لتصفية الخلافات بين الأفراد والهيئات والمؤسسات، وكذلك عدم الانسياق وراء الأهواء الشخصية والتيارات الدينية التي تحكم اختيارات الكتب.

أما الكاتب الروائي إدريس علي، فسخر من جدوى المصادرة، معتبرا أنها دليل على ضيق الأفق، ومضيفا: «العالم العربي كله لا يزال يعيش في الظلام والمصادرة أحد تجليات هذا الظلام الفكري».

وكان إدريس علي قد تعرض للمساءلة الأمنية ومصادرة روايته «الزعيم يحلق شعره» من معرض القاهرة للكتاب في دورته العام الماضي. والرواية عن ذكرياته أثناء العمل في ليبيا، ويتحدث عن تلك التجربة قائلا: «أثناء عملي في ليبيا عايشت التحولات التي أصابت المجتمع هناك نتيجة القرارات الثورية، خاصة ما نتج عن شعاري: (شركاء لا أجراء)، و(البيت لساكنه). ورصدت روائيا سلبيات تلك القرارات على المجتمع والمواطن، لكن هناك من تعامل مع كتاباتي كأنها تمس أشياء مقدسة أو تابوها سياسيا لا يجب الاقتراب منه، فصودر الكتاب دون سند قانوني».

ووصف إدريس دعاوى المصادرة بـ«الهزلية»، مشيرا إلى أن شبكة الإنترنت أتاحت كل الكتب الممنوعة وغير الممنوعة، بل على العكس تساهم المصادرة في ترويج الكتاب.

ومن جانبه عاد الروائي مكاوي سعيد إلى مقولة قديمة لابن رشد ليدلل على تهافت دعاوى المصادرة، وأن تحول معارض الكتب إلى أدوات للخنق الثقافي أمر لا جدوى منه، فيقول ابن رشد: «الأفكار كالطيور إذا انطلقت لا يمكن لأحد الإمساك بها».

وبحسب مكاوي فإن العقاب الثقافي بمنع بعض الكتب في المعارض يعيد الثقافة العربية مائة عام للوراء في عصر الألفية الثانية، وبرأيه «الأمر مجرد رسالة غاضبة قد يكون غرضها سياسيا، فتريد دولة مجاملة دولة أخرى أو معاقبتها، لكن لن يؤثر هذا في الواقع الثقافي ولن تمنع المصادرة الأفكار من التغلغل والانتشار».

وقال مكاوي سعيد إن روايته «تغريدة البجعة» صودرت في عدة دول عربية رغم كونها لا تخترق تابوهات على الإطلاق لكن لمجرد الشبهة، ورغم ذلك نجحت وحققت رواجا لم يكن يتوقعه.

وبرأي سعيد فإن توالي مصادرات الكتب في المعارض جزء من منظومة عربية تعادي الثقافة، يدخل فيها أيضا تقلص أعداد الناشرين في معرض القاهرة الدولي ليقتصر على أعضاء اتحاد الناشرين العرب، رغم أن أغلب الأعمال التي حققت تأثيرا ورواجا خلال الأعوام القليلة الماضية خرجت من دور نشر صغيرة.