أي دور يلعبه المثقف السعودي؟

مثقفون سعوديون يتحدثون عن الإبداع.. وسطوة المجتمع

جاسم الصحيح
TT

لا يختلف المثقفون السعوديون في وجود حراك ثقافي داخلي، لكنهم ينقسمون بشأن الدور الذي تلعبه الثقافة السعودية بمختلف تفريعاتها في الخارج. وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تباينت آراء عدد من الأدباء والمثقفين حول مدى التأثير الذي يفرضه الأدب السعودي في محيطه وضمن المشهد العربي الذي ينتمي إليه. فمنهم من يرى أن الأدب السعودي فرض نفسه من خلال عدد من الأسماء والأعمال التي لا تذكر الأدب العربي إلا بالإشارة إليها. ومنهم من يقلل من شأن هذا التأثير.

وكما اختلفت الآراء بشأن الدور الذي ينبغي أن تؤديه الثقافة والمثقفون، وقع مصطلح «الأدب السعودي» هو الآخر في الالتباس، خاصة فيما يتعلق بتحديد مدلولاته، والقضايا التي تندرج تحته.

هنا آراء عدد من الكتاب السعوديين حول هذه القضايا..

* الصحيح: حالة استلاب للذات

* ماذا نقصد بالأدب السعودي؟ هذا السؤال يجيب عنه الشاعر السعودي جاسم الصحيح، بالإشارة إلى أن القصة والرواية والشعر وكل كتابة إبداعية تندرج تحت مظلة هذا المسمى. وليس الانسجام بين المصطلح ومدلوله هو الالتباس الوحيد الذي يعتري الأدب السعودي. بل إن قدرة الأديب على ممارسة إبداعه ضمن القيود المجتمعية المفروضة تمثل تحديا آخر يشكل اتجاهات الأدب السعودي، فالبيئة الاجتماعية التي لا تمنح قدرا عاليا من الحرية تجعل الأدباء السعوديين كالأواني المضغوطة ضغطا عاليا، كما يقول جاسم الصحيح. فهم، في رأيه، لا يملكون الحرية الاجتماعية التي يستطيعون من خلالها التنفيس عن ذلك الضغط الإبداعي العالـي المكبوت، فهم، كما يضيف، محكومون منذ طفولتهم بسلطة المجتمع عبر تقاليده، إضافة إلى السلطة الدينية السائدة التي لعب العرف دورا كبيرا في تكوينها وبلورتها بشكلها النهائي السائد الآن. وهو الأمر الذي يفسره الصحيح باعتباره نوعا من حالة استلاب الذات الإنسانية، يعيش فيها الأديب السعودي في صراع مع محيطه، معتبرا أنها القضية الأولى التي يجب أن يركز عليها الأديب السعودي.

ويواصل الصحيح حديثه في هذا الصدد بقوله: إن قضية البحث عن الذات المسلوبة منذ الطفولة عبر أسلوب التربية المحكوم بالتراث في كل أبعاده، تقتضي اقتحام مخاطر التابوهات وخطوطها الحمراء، ليس من أجل العبث وإنما من أجل إعادة تشكيل الإنسان ورفعه إلى ما هو أجمل.

* المرأة والموروث التاريخي

* الجدلية الأخرى التي تأتي في سياق الحديث عن الأدب السعودي تتعلق بقضايا هذا الأدب ومواضيعه التي يجب أن يتناولها. ويظل السؤال الذي يحاكم به كل أديب من قبل النقاد: هل تمثل هذه الأطروحات حقيقة ما يجري في المجتمع المحيط؟ وتأتي رواية «ترمي بشرر» للروائي عبده خال، التي فازت بجائزة البوكر للرواية العربية مؤخرا، كشاهد على هذا الجدل، حيث اعتبر البعض أن هذا العمل لا يمثل حقيقة المجتمع السعودي.

الروائي السعودي أحمد الدويحي يعتقد أن كل الفنون الكتابية والمسرحية والتشكيلية، لا بد أن تتماس مع واقع المجتمع وتتناول تفاصيل حياة الإنسان ومعاناته، وبطبيعة الحال لا بد أن تتنوع فيها سياقات التناول، مبينا أنها ترفد بذلك ثقافة المبدع ووعيه وقناعته ورؤيته تجاه الأحداث، مشيرا إلى واحدة من القضايا التي أصبحت من أهم المواضيع التي تجدها حاضرة دائما، وهي قضية المرأة التي ترتفع فيها وتيرة الحوار حول واقع هذا الكائن الجميل في حياتنا وإبداعنا.

وفي تشخيصه لقضية المرأة، كما يتناولها الأدب السعودي بكل أشكاله، يرى الدويحي أن المرأة قضية تتشكل بداخلها عشرات القضايا، مشيرا إلى وجود خيط رفيع بين حضور المرأة في الواقع وفي الإبداع، حيث إن شريحة واسعة من الأدباء، تقتنع بأن المرأة تعاني واقعا مجتمعيا يقترب من البؤس في بعض تفاصيله، إلا أن الحالة تتباين حسب نظرة المجتمع المحيط بهذا الكائن التي تستمد مصدرها من الصراع الدائر بين شرائح المجتمع. إلا أن الدويحي يرى أن هذه القضية المطروحة في الإنتاج الأدبي السعودي بين طرفي الصراع تعتريها بعض المبالغة، حيث يقول الذين يريدون المرأة كائنا في مجتمع ذكوري لا بد أن تخضع لوصايته: «لا يفقهون ولا يعون تفاصيل الواقع للكائن ذاته ولا المحيط به، والذين اتخذوا من قضية واقع المرأة قضية في الإبداع قد بالغوا، فالواقع متغير ومتنوع كالإبداع، والمجتمعات تذهب إلى المستقبل ولا تعود للخلف، والمرأة جزء من تركيبة المجتمع، وقضاياها جزء من قضاياه».

وإضافة إلى المرأة، تبدو قضية الاصطدام بالأعراف والموروث التاريخي إشكالية أخرى يعالجها الأدب السعودي ويصطدم بها في الوقت ذاته. ويصف جاسم الصحيح السعوديين في تعاملهم مع تركة التاريخ بالمغلوبين على أمرهم، لأن كل القضايا في حياتهم «عالجها التاريخ وقدم حلوله التي أصبحت مقدسة». وفي رأيه لا يمكن لهم أن يعارضوا التاريخ في قدسيته، حتى لو كانت بعض الحلول التي يقدمها غير معقولة، فالأعراف والتقاليد في اعتقاده أقوى من العقل. «وهنا تأتي القضية الثانية وهي الاصطدام بـهذه الأعراف وهذه التقاليد اصطداما إيجابيا، والاستعداد النفسي للقفز عليها في اتجاه فضاء أرحب تنطلق فيه طيور الإبداع».

والقضية الأخرى التي يعيشها المبدع السعودي في رأي الصحيح تكمن في الانتقال «من الإبداع الشكلي إلى الإبداع الجوهري انتقالا يرتقي بالأدب من حالة التنميق والتطريز وجعله مؤثرا يقتحم الواقع المحيط ويسهم في تغييره، فلا يمكن الاكتفاء بإعادة صياغة التاريخ صياغة لغوية فنية أجمل، كما هو حادث الآن إلا ما ندر، وإنما يجب الحفر في التاريخ والتمييز بين جواهره ونحاسه». ويشير الصحيح إلى أن الإبداع الشكلي «هو ما يتناول الفروع والأغصان ويعيد تطريزها ونمنمتها كي تبدو الشجرة أكثر إشراقا، والإبداع الجوهري زلزال يقتحم الأصول والجذور ويمتحن الصامد منها والضعيف الذي لا يمكن أن يصمد». هذا الإبداع - الزلزال نادر، حسب رأيه - في الأدب السعودي، «وهو ما نحتاج إليه أكثر من حاجتنا إلى الإبداع الشكلي المتمثل في صياغة قصيدة صياغة جميلة أو سرد رواية تكرس الواقع وتعزز أطروحاته. إن القضايا كثيرة وربما تكون مثل المعاني التي تحدث عنها الجاحظ، وقال إنها منثورة على الأرصفة، ولكنها تحتاج إلى الجرأة في تناولها وطرحها على رؤوس الأشهاد».

وفي سياق ارتباط الأدب والثقافة بالمجتمع المحيط، يقول الناقد محمد الحرز: «ما دام مجتمعنا المحلي يملك هذا التنوع الثقافي على امتداد مساحته الجغرافية الكبيرة فإنني أزعم أن ثمة تأويلات للثقافة والأدب تنتجها فئات اجتماعية مختلفة في المعنى الجغرافي والتاريخي، تتقاطع فيما بينها أو تبتعد بالضرورة. لكن الدرس النقدي في خطابنا المحلي عليه أن يقارب جملة هذه التأويلات الثاوية في عمق تصوراتنا وإدراكاتنا عن الأدب والثقافة، على اعتبار أن هذه التصورات تدخل في علاقة تفاعلية مؤثرة مع السلوك والأخلاق، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي في حياتنا اليومية».

وبالتالي، فإن الحرز يعتقد أن الكشف عن هذه العلاقة هو كشف يرفع من شأن الخطاب التواصلي بين أبناء المجتمع, وأن هذا «هو ما يراهن عليه خطاب النقد الثقافي في نسخته الأكثر حداثة».

السؤال الذي يود الحرز أن يكون مشرعا هنا لتوالد الأسئلة هو بأي أدوات منهجية يمكن مقاربة مثل هذه التصورات؟ هنا، في تصوره، الانطلاقة المشتركة «التي تقربنا من أنفسنا بوصفنا مجتمعا واحدا وفي الوطن الواحد, وكذلك تقربنا من الآخر حين نخوض غمار الفهم بأدواته المنهجية».

أما الأديب السعودي صلاح القرشي، فإنه ينظر إلى القضايا المعاصرة التي يجب أن يتناولها الأدب السعودي ويحقق من خلالها منجزات كبيرة برؤية متباينة، لا يمكن تحديدها، لأنه «ليس من المجدي أن نحدد مواضيع يجب على الأدب أن يتناولها، فقيمة الأدب في أي مجتمع تكمن في قدرته على التنوع وارتياد جسور الحرية في الانطلاق كما يشاء».

ولا يرى القرشي كذلك ضرورة في أن يكون الأدب السعودي في قضاياه التي يتناولها مؤثرا في سلوك المجتمع، «فليس مطلوبا من الأدب أن يقدم روشتة علاج، وليس مطلوبا منه أن يؤثر بشكل مباشر في السلوك، فهذا يمكن أن تفعله التربية والتعليم». إن أهمية الأدب، كما يضيف، «تكمن في أنه يعبر بصدق فني متقن ومسؤول عن واقع المجتمعات ويفتح أبوابا من الأسئلة التي تنتظر الإجابات».

* أي تأثير للمثقف المحلي؟

* وإلى جانب التباس المصطلح، والقضايا التي يتناولها الأدب السعودي، يبدو أن الأدباء السعوديين مشغولون بمدى التأثير الذي يحدثه إنتاجهم في المجتمع المحيط والأدب العربي بصورة عامة، في ظل إصرار البعض على تبني نظرية المركز والأطراف، ووصم الإنتاج الأدبي الذي يصدر من منطقة الخليج بأنه «أدب النفط».

الأديب السعودي أحمد الدويحي يرى عكس ذلك، وهو يعتقد أن الأدب السعودي فرض نفسه في المشهد العربي، وأن مقولة أدب النفط صارت قديمة، كما تغيرت ثقافة المراكز والأطراف. ويعتقد أيضا أن حضور الأسماء الثقافية السعودية في المشهد الثقافي العربي، جاءت بجهود ذاتية للمثقف الذي عبر بنتاجه الحدود. وعن ذلك يقول: «لن أنسى لحظة كانت القاعة في صنعاء، تردد قصائد المبدع الكبير محمد الثبيتي، شفاه الله، كما أن هناك تراجم بأكثر من لغة للرواية المحلية».

من ناحية أخرى، يعتقد صلاح القرشي أن أهمية الأدب تكمن بشكل أساسي في أنه يسهم في خلق مجتمع واع ومثقف، «وهذا يكفي لجعل الأدب مؤثرا، وبالتالي لا توجد مسؤولية تقع على عاتق الأدباء السعوديين، في أن يلفتوا انتباه العالم للنظر في مكونات ومكنونات الأدب والثقافة والتاريخ والتراث السعودي، ومراحل تطوره الاجتماعي، وما يتصل بذلك». لكن أحمد الدويحي لا يتفق مع هذا الرأي بقوله «إن الأدب لا بد له أن يكون مؤثرا جماليا وفكريا، في مجتمع كالمجتمع السعودي، الذي يعتبر مجتمعا تقليديا محافظا»، ويدلل على ذلك بالموقف من حركة الحداثة الشعرية، لأن ذائقة هذا المجتمع، في رأيه «ذائقة شعرية تقليدية، وكذلك الموقف الآن من حركة الرواية، لأن من مهمات الرواية كشف السري والمستور، وهي فن شامل تعكس الواقع وتتماس معه، وتعني بالتفاصيل. وكذلك ما زال هذا المجتمع ينظر للمسرح والسينما بتوجس».

أما فيما يتعلق بتأثير الأدب السعودي في المجتمع، فيقول جاسم الصحيح: «أنا أعتقد أن الأدب العربي على عمومه، ليس مؤثرا في المجتمعات العربية لأن مستوى القراءة في الوطن العربي منخفض جدا، كما أوضحت لنا الاستبيانات، فلا يمكن للأدب أن يؤثر فيمن لا يقرأه. لذلك، أشعر بسعادة غامرة عندما يتم تناول رواية مشهورة في (الدراما) العربية لأن الدراما هي القادرة على أن تجعل للأدب السعودي أو العربي على عمومه أثرا عميقا في المجتمع، على الأقل في الوقت الراهن حتى يحدث الله بعد ذلك أمرا».

ويرى أن المطلوب من الأدباء السعوديين كي يجعلوا الأدب مقبولا لدى الآخر، هو توخي الصدق في تناول القضايا الإنسانية الاجتماعية، وهو أول شيء ينتظره الآخرون، مضيفا أن الصدق هنا لا ينفصل عن الحرية في الطرح حيث إن الشعور بالحرية هو الذي يقودنا إلى المصداقية على كل الأصعدة، ويبقى السؤال عن مدى قبول الآخر للأدب السعودي ومدى شعوره بمصداقية الأدباء السعوديين، بعد هذا النزيف الطويل من الروايات والقصص والقصائد والكتابات المتعددة، حيث يبقى هذا السؤال مستمرا، ولا يمكن لأحد أن يجيب عنه سوى الآخر ذاته.