أحمد داود أوغلو يرسم النظام الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط

كتابه عن العمق الاستراتيجي لتركيا بات في متناول قراء العربية

TT

يحظى كتاب وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو المعنون بـ«العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية»، الذي صدر منذ أيام باللغة العربية، بأهمية خاصة، نظرا للدور الذي تلعبه تركيا في المنطقة، ولمكانة الرجل الخاصة في رسم السياسات الخارجية لبلاده، لا سيما علاقتها بمحيطها. أوغلو وضع كتابه هذا باللغة التركية عندما كان أكاديميا وأستاذا للعلوم السياسية، وبنى مؤلفه على أبحاث معمقة حول موقع بلاده وقدرتها على نسج علاقات مع جوارها تكسبها قوة استراتيجية فقدتها طوال القرن العشرين. وإن كان الكتاب في نسخته الأولى قد كتب عام 2001 أي قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) ودخول الجيش الأميركي العراق، فإن مراجعة أجراها المؤلف على الكتاب، بحيث تم تحديثه بما يتناسب والتطورات الجديدة التي حصلت، وهو ما سيكون في متناول قارئ العربية. الكتاب صادر عن «الدار العربية للعلوم» في بيروت، وهو ضمن سلسلة يعمل على أن ترى النور «مركز الجزيرة للدراسات». بدأ العمل على الكتاب الذي تجاوز عدد صفحاته بالعربية 600 صفحة، منذ سنتين وعكف على ترجمته كل من محمد جابر ثلجي، وطارق عبد الجليل، وراجعه بشير نافع وبرهان كوروغلو.

مهندس السياسة الخارجية التركية أحمد داود أوغلو يطرح نفسه كمفكر، يرسم في الكتاب صورة لما كان عليه حال تركيا خلال الحرب الباردة، ومن ثم التحولات التي شهدها العالم، وبقيت خلاله تركيا مهمشة لفترة من الزمن، إلى أن استطاعت أن تستعيد دورها. وتأتي أهمية هذا البحث المطول من أن كاتبه استطاع اختبار أفكاره على الأرض، وتحقيق رؤيته السياسية الدولية، عندما عين كبيرا لمستشاري رجب طيب أردوغان عام 2003 ومن ثم وزيرا للخارجية عام 2009. بمعنى آخر، فإن الكتاب يشرح بوضوح، أي سياسة تنتهجها تركيا منذ سنوات، وما هي تصوراتها المستقبلية، وما الأهداف التي تسعى إلى تحقيقيها.

يمكننا القول إن أوغلو رجل يؤمن بأن التاريخ والجغرافيا لأي بلد هما العنصران الأساسيان اللذان تبنى عليهما الاستراتيجيات، ومن هنا جاءت نظريته المسماة بـ«العمق الاستراتيجي»، معتبرا أن لا نهوض لتركيا من دون تشبيك قوي مع هذا العمق الذي يمتد باتجاه العالمين، العربي الإسلامي، والقوقاز، وأرمينيا وإيران وأيضا أوروبا. أي أن على تركيا أن تمتد غربا كما تمتد شرقا، وفي كل الاتجاهات، خصوصا أن حدودها المتعددة، وهويتها المركبة بين آسيا وأوروبا تسمح لها بذلك، لا بل تجعله واجبا عليها. هو يؤمن أن التاريخ والجغرافيا ثابتان لا يمكن تغييرهما، لكن المتغير الذي يجب العمل عليه هو طريقة قراءتنا لهما. من هنا فإن أوغلو يعتبر أن تركيا انتزعت عنوة من محيطها بعد الحكم العثماني وخلال الحرب الباردة. إذ لم يكن من الطبيعي أن توجد تركيا المنتمية إلى حلف «الناتو» على حدود سورية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي مما مزق العائلات وشتت الناس، وهو أيضا كان حال تركيا مع العراق، وكذلك مع جورجيا وبلغاريا.

من هنا يمكن فهم العمل الطموح لـ«حزب العدالة والتنمية» منذ تسلم السلطة، لإنجاز مصالحات مع الجيران، لا تقف عند حسن الجوار وإنما الهدف منها تحقيق تكامل اقتصادي، كما يقول أوغلو. وهو ما بدأته تركيا مع سورية والعراق وتسعى إليه الآن، مع روسيا واليونان، كما تم الصلح مع أرمينيا. يتحدث أوغلو عن «تطبيع التاريخ» أي السير في الاتجاه الطبيعي للأمور وليس عكس المنطق الذي تفرضه المعطيات الحاضرة. ما تريده تركيا بالتحديد هو نظام إقليمي يستند على 4 عناصر: علاقات سياسية رفيعة، وأمن للجميع، وتكامل اقتصادي، وتعاون ثقافي. لا يرى أوغلو أن مصير أي عاصمة عربية مختلف عن مصير إسطنبول أو أنقرة، فالتشابك حاصل، مما يستدعي استراتيجية عمل واحدة، يتفق عليها الأطراف جميعا.

كل هذا يفسر الاتفاقيات التي وقعت بين تركيا والدول العربية بالعشرات في السنوات الأخيرة، إضافة إلى إلغاء «الفيزا» بين تركيا والكثير من الدول العربية وغير العربية المحيطة بها، فالسعي هو إلى منطقة تجارة مفتوحة حرة ترحب بمن يريد الانضمام إليها.

من النقاط الأساسية التي يركز عليها أوغلو الديمقراطية والأمن، كعنصرين أساسيين لا بد من تحقيقهما، دون التضحية بواحد من أجل الآخر. وهذا ما يريده حزب العدالة والتنمية، مزيد من الحرية والديمقراطية دون الاستخفاف بأهمية الأمن لتحقيق التنمية المطلوبة. إحساس عال عند أوغلو بالثقل الحضاري لبلاده، بانتمائه كمسلم إلى عالم منفتح، وبأهمية تركيا الجغرافية وبوجودها في قلب العالم. ومن هذه الرؤية ينطلق ليرسم لها مكانا مركزيا ومحوريا، يؤهلها للعب دور قيادي. وهو ما تحاول أن تفعله لغاية الآن، وإن بحدود لا تفي بالطموح الكبير الذي يتحدث عنه الكتاب. يحاول أوغلو في كتابه أن يميز بين ما هو أمر واقع، وما هي مبادئ لا بد من احترامها. ولا يرى في أن العلاقة بين تركيا وإسرائيل حققت إيجابيات تذكر، بل على العكس، هي همشت دور تركيا، وأبعدتها عن لعب دورها الأساسي في المنطقة، خصوصا أنها علاقة لم تسهم في تحقيق السلام المنشود. أما العلاقة مع إيران فهي بالنسبة له أكثر أهمية، لا بل هي جوهرية لتركيا على أكثر من محور، مما يستدعي تنسيقا دائما بين البلدين لرسم السياسات الخارجية. كتاب غني، صدر حتى الآن في 50 طبعة، وترجم إلى عدة لغات، هو شديد الأهمية لكل معني بالدور التركي في المنطقة، وقراءة الاستراتيجيات التي تسعى وفقها أنقرة إلى رسم خريطة سياسات السنوات المقبلة.