حرية الإساءة إلى الآخر يكفلها الدستور الأميركي

نقاش يشغل المثقفين ويبحثه القانونيون

TT

ما حدود الحرية الفردية؟ سؤال مطروح بقوة اليوم في أميركا، لا سيما حين يتعلق الأمر بحرية الإساءة إلى الآخر. أمر يبدو ترفا بحتا بالنسبة لأي فرد عربي، لكنه ليس كذلك في أميركا. فمقابل شتيمة لك يسمح بها القانون الأميركي، أو اتهامك بما يمكن أن يثير جنونك، ليس أمامك سوى أن تتحلى بالصبر. «الحرية» و«الصبر» كلمتان متلازمتان، لكل متحضر. لكن السؤال يبقى مطروحا: أين يجب أن تتوقف الحرية؟ وما هي حدود صبر أي إنسان على إساءة الآخر له مهما كان متفهما ومنفتحا؟ هذا ما يحاول الأميركيون الوصول إلى تفاهم حوله اليوم.

يوم الاثنين الماضي، دعا بروفسور تيم بوردو، أستاذ الصحافة في جامعة سنترال ميشيغان (ولاية ميشيغان)، القس فريد فيلبس، عميد آل فيليبس الذين يديرون كنيسة ويستبورو المعمدانية الصغيرة بالقرب من توبيكا (ولاية كنساس) لإلقاء محاضرة على طلاب الصحافة عن «الحرية المتطرفة»: حرية الإساءة.

وقال بروفسور بوردو لصحيفة «أن أربر نيوز» (ولاية ميشيغان): «أؤمن بأن ما يقول وما يفعل آل فيليبس وكنيستهم شيء منكر، ومسيء، ويدعو للتفزز. لكن، يضمن الدستور الأميركي حرية قول الأشياء المنكرة، والمسيئة، التي تدعو للتقزز». وأضاف: «يوجد شيء يدعو للاستغراب وسط المثقفين والسياسيين في الولايات المتحدة: الذين يريدون الحريات المتطرفة يوصفون بالتطرف بدلا من أن يوصفوا بحبهم للحرية».

خلال الشهر الماضي، صار بروفسور بوردو واحدا من مثقفين وسياسيين ورجال دين كثيرين يناقشون موضوع «الحرية المتطرفة: حرية الإساءة».

وهناك الجانب القانوني في النقاش، وهو سلسلة قضايا وصلت، في الأسبوع الماضي، إلى المحكمة العليا (التي تفسر الدستور)، والتي، ربما مع بداية السنة القادمة، ستحسم الموضوع، وتعلن أن الدستور يحمي، أو لا يحمي، حرية الإساءة (في هذه الحالة).

لكن، طبعا، في جو الحرية الأميركية (العادية) لن يتوقف المثقفون، وبقية الأميركيين، عن مناقشة الموضوع، مهما حكمت المحكمة العليا.

وعن هذا، قال بروفسور بوردو: «تأتي محاكم عليا وتذهب، ويأتي رؤساء ويذهبون، ويأتي أعضاء كونغرس ويذهبون، ويبقى التعديل الأول في الدستور الأميركي (الذي يمنع الكونغرس من إصدار أي قانون يحظر حرية الكلام، والتنظيم، والتظاهر، والتحرك)».

القضية التي وصلت إلى المحكمة العليا هي نزاع بين رجلين: ألبرت سنايدر، والد ماثيو سنايدر، جندي قتل في حرب العراق، وفريد فيلبس، عميد عائلة فيلبس التي تملك وتدير الكنيسة المعمدانية.

الاثنان مسيحيان: الأول كاثوليكي، والثاني معمداني. وداخل الدائرة المسيحية الأميركية، إذا كان الكاثوليك أكثر تشددا من البروتستانت، فإن المعمدانيين أكثر تشددا من الكاثوليك.

قال الأول إن القانون يحميه من أن يعتدي شخص آخر على خصوصيته، وعلى حقه في أن يكون مرتاحا، ومطمئنا، وغير قلق، ومتوتر. وقال الثاني إن القانون يمنحه حق التعبير عن رأيه، حتى إذا اعتقد شخص أن هذا الرأي يسيء إليه.

النقاش ليس عن الحرية السياسية (انتخابات ومظاهرات)، ولا الحرية الاقتصادية (اقتصاد السوق الحر)، ولكن عن الحرية الفردية، وذلك من ناحيتين: من ناحية، حرية الفرد في أن يقول ما يريد. ومن ناحية أخرى، حرية حماية الفرد من غضب الآخر.

وتجمع الجانبين كلمة «برايفاسي» (الخصوصية)، التي تعتمد على الفلسفة الغربية، وحرية الفرد (أكثر من حرية الجماعة). وفي ظل الفلسفة الفردية، يجب أن يكون الفرد «كاسل انسايد همسيلف» (قلعة داخل نفسه). يفعل ما يريد في قلعته. وتعيش القلاع على أساس مبدأ «ليف أند لت ليف» (عش ودع غيرك يعيش).

بدأ نقاش عن الحرية الشخصية في مارس (آذار) سنة 2006، عندما تظاهر آل فيلبس وتابعون للكنيسة أمام مكان تشييع جثمان الجندي. رغم أن كنيستهم صغيرة، استأجروا حافلة من ريف ولاية كنساس، عبر الولايات المتحدة، حتى ولاية ماريلاند. وقالوا إنهم فعلوا ذلك لأكثر من سبب، من منطلقات مسيحية:

أولا: يعارضون التدخلات العسكرية الأميركية في الخارج.

ثانيا: يعارضون ما يسمونه «الانحلال» في المجتمع الأميركي، مثل: الإجهاض، والأفلام والمسلسلات الجنسية، والدعارة، والتعري، والمثلية الجنسية.

ثالثا: لهذا، يقولون إن قتل آلاف الجنود الأميركيين في حرب أفغانستان وحرب العراق «لعنة إلهية» على «الانهيار الأخلاقي» في أميركا.

ولهذا، وقفوا أمام مكان تشييع جثمان الجندي الأميركي، ورفعوا لافتات عليها: «الحمد لله على قتل الجندي فيلبس» و«كان ابنكم يرتكب الزنا» و«ستذهبون كلكم إلى الجحيم» و«لعنة الله على أميركا الفاسدة».

في وقت لاحق، رفع سنايدر، والد الجندي، سلسلة قضايا. وكانت آخر واحدة في محكمة استئناف حكمت لصالحه، وبأن تعوضه الكنيسة عشرة ملايين دولار: ثلاثة ملايين تعويضا عن عرقلة جنازة ابنه، وخمسة ملايين عن التعدي على «خصوصيته»، ومليونان تعويضا عن الاضطرابات النفسية.

أيدت فيلبس (ومبدأ الحرية المتطرفة) كثير من وسائل الإعلام، ومنظمات الحقوق المدنية، بما فيها الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، ولجنة صحافيين من أجل الحرية، وجمعية الصحافيين الأميركية، وأكثر من عشرين منظمة ومؤسسة إعلامية. وفي نقاش على محطة تلفزيون «سي إن إن»، قال بروفسور هوزي غابيلوندو، أستاذ القانون في جامعة فلوريدا إنترناشونال: «لا أصدق أن هناك أناسا في هذا المجتمع المتحضر يريدون خنق حريات أناس يختلفون معهم في الرأي. لا أصدق أن الآباء المؤسسين (الذين كتبوا الدستور وإعلان الاستقلال) كانوا أكثر حرصا على الحرية قبل ثلاثمائة سنة تقريبا من أناس يعيشون في القرن الحادي والعشرين».

البروفسور غابيلوندو ليس جديدا في الدفاع عن «الحرية المتطرفة»، وذلك لأنه أعلن، قبل عشر سنوات، أنه من المثليين الجنسيين. ولأنه أستاذ قانون ومحام في نفس الوقت، دافع عن عدد كبير من طلاب جامعته في قضايا لها صلة بالمثلية الجنسية. وأيضا، ذهب إلى كونغرس ولاية فلوريدا للشهادة في جلسة تحقيق، وعارض مشروع قانون يمنع زواج المثليين والمثليات.

وعن هذا قال: «لا يعرف معنى الحرية إلا المحروم منها. لكن، الحرمان أنواع، هناك الكلام، التظاهر، التجمع، السفر. نحن نتفق على هذا، لكن ماذا عن الحرمان من أن أقول بأني مثلي؟ وماذا عن الحرمان من أن أقول بأن الله ينتقم من أميركا لأنها تتدخل في شؤون الآخرين. وماذا عن حرمان آل فيلبس من أن يقولوا إن الله قتل الجندي سنايدر انتقاما من التعري والإباحية والجنس العلني في أميركا؟».

وهكذا، ربط البروفسور بين أنواع كثيرة من «الحريات المتطرفة».

لكن من الذي سماها «متطرفة»؟

واحد منهم هو بروفسور هنري جياماسوني، أستاذ الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، الذي قال إن «التطرف شيء في عقل من يعتقد أنه معتدل». وقارن بين أوصاف مثل «مسلمين متطرفين» و«يهود متطرفين» و«أحرار متطرفين». وقال إن هؤلاء يؤمنون بأن كل فرد يملك حق أن يكون حرا بالطريقة التي يريدها، سواء في مجال السياسة أو العبادة أو الجنس، «ما دام لا يؤذي الآخر». لهذا، يبدو أن أساس النقاش في هذا الموضوع هو الخط الأحمر بين إيذاء الآخر، وعدم إيذائه. ولأن الإساءة أنواع، لم يحسم النقاش الدائر أين يوضع هذا الخط الأحمر.

كيف سيحسم؟ ومن سيحسمه؟

قال بروفسور غابيلوندو: «يحسمه الشخص المتطرف، أو من يعتقد الناس أنه متطرف. يحسمه الذي يلبس ملابس نراها مبتذلة، أو يمشط شعره بطريقة نراها قبيحة، أو يمارس الجنس بطريقة نراها شاذة، أو يفسر الكتب المقدسة بطريقة نراها خطأ». وأضاف البروفسور: «يخدم الذين نسميهم متطرفين هدفا هاما في المجتمع، وهو أنهم يختبرون صبرنا، وحضارتنا، وحريتنا، وأخلاقنا. لهذا، لنتعاون معهم، لنقدر على وضع الخط الأحمر بين الإساءة التي تؤذي والإساءة التي لا تؤذي».

وانضم إلى النقاش ويلي غريلي، محام ورئيس مركز «الحرية الشخصية والتعليم» الذي يشجع تعليم التلاميذ في المدارس على الصبر إذا تعرضوا إلى إساءات أو شتائم، «ليس جبنا، ولكن احتراما لحرية الأخر».

وقال إن مركزه يراقب الجامعات والمدارس (حتى الابتدائية) ليتأكد أن التلاميذ والتلميذات يتعلمون حماية حرية الآخر، حتى إذا كانت إساءة ضدهم.

وانضم إلى النقاش بروفسور رتشارد باركر، أستاذ الاتصالات في جامعة نورثيرن أريزونا، ومؤلف كتاب «محاكمة الحرية». قال: «يجب ألا ننسى أن هذا الجيل إذا وضع شروطا للحرية، ستأتي أجيال كثيرة بعدنا، وسيضع كل جيل شروطه. هل هناك ضمان أن الجيل بعد القادم، مثلا، سيضع شروطا يرفضها الجيل الحالي تماما؟ لهذا، أفضل شيء ألا يضع الجيل الحالي أي شروط».

وقال: «نعم، لا بد من شرط الحريق في مسرح. هذا شرط يجب أن تحافظ عليه كل الأجيال». يشير هنا إلى مثال يكرره القانونيون والمثقفون عندما يتحدثون عن شروط الحرية. وهو عن حرمان شخص، أثناء عرض فيلم وفي الظلام والناس مزدحمين، من حرية أن يصيح، كذبا: «حريق». وذلك لأن هذه الصيحة فيها «خطر على أرواح المشاهدين» لأنهم سيسرعون للخروج، وربما يقتل بعضهم أو يجرح.

لكن، «حريق» يمكن أن تفسر لصالح الذين يريدون وضع شروط للحرية. مثل بيل اورايلي، جمهوري محافظ، ومقدم برنامج في تلفزيون «فوكس» اليميني. قال: «من قال إن الحرية من دون شروط وحدود؟» وقدم ثلاثة أمثلة:

أولا: يصيح شخص «حريق» داخل دار سينما وفي الظلام والناس محتشدون.

ثانيا: يمارس شخص بالغ الجنس مع طفل أو طفلة، أو يوزع صورا عارية له أو لها.

ثالثا: يستعمل شخص «فايتنغ وودرز» (كلمات تسبب العنف).

في هذا اتفق اورايلي مع سنايدر، والد الجندي الذي قتل في حرب العراق. بل، وهو المليونير، دفع جزءا من تكاليف الاستئنافات القضائية.

قال سنايدر في دعواه: «حول هؤلاء المتطرفون جنازة ابني إلى سيرك. واحتشدت كاميرات التلفزيون لتصوير مناسبة خاصة، كان ينبغي أن يدفن ابني في احترام وكرامة، وليس مع مجموعة من المهرجين. هذا شيء مؤذ؟ ولن يعرف هذا الأذى غير والد في جنازة ابنه».

يبدو أن القاضي الذي حكم لصالح سنايدر (قبل رفع القضية إلى المحكمة العليا)، يتفق معه. لأنه، في تعليماته إلى هيئة المحلفين، قال: «حماية التعديل الأول في الدستور» (حرية الكلام والتجمع) لها حدود، ولا تشمل الإساءة والعنف والتحقير». وطلب من هيئة المحلفين تحديد الخط الفاصل بأن تكون الإساءة غير دستورية إذا كانت: أولا، مسيئة كثيرا في نظر «شخص معقول». ثانيا، متطرفة ومؤذية. ثالثا: يمكن أن تقود إلى «العنف».

كلمة «العنف» صارت كثيرة الاستعمال وسط المثقفين والسياسيين والصحافيين الأميركيين، خاصة بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول)، وحرب الإرهاب التي أعلنها الرئيس السابق بوش الابن. والنقاش عن «العنف» من جانبين: من جانب أميركا، ومن جانب المسلمين.

قبل شهرين، عندما هدد قس في كنيسة في ولاية فلوريدا بحرق المصحف الشريف، تدخل الرئيس أوباما حتى لا يكون ذلك سبب «عنف» وسط المسلمين، رفضا للإساءة التي لحقت بهم وبدينهم.

حتى الآن، لم يرفع المسلمون في أميركا قضية رئيسية بسبب الشتائم والإساءات التي يتعرضون لها. لكن، إذا كانت المحكمة العليا في هولندا هي مقياس لحماية الفكر الغربي لحرية الفرد، ستقول محاكم أميركية الأتي:

أولا: الإساءة إلى الدين تختلف عن الإساءة إلى الفرد، وذلك لأن أي دين، في نهاية المطاف، هو فكرة. (حسب هذا الرأي، لا يشفع أن الفكرة إلهية).

ثانيا: الإساءة إلى الفرد يجب أن تكون شخصية، يعني هذا أن لافتة تقول «المسلمون شياطين» عامة، وليست خاصة.

ثالثا: حتى إذا كانت الإساءة خاصة، يجب أن يثبت المساء إليه أن غضبه سيدفعه إلى ارتكاب «عنف».

لكن، لا تشجع الثقافة الأميركية الغضب، وترى أن الصبر من أركان الحضارة (ربما مثل التعليم، والعلم، والحرية). لهذا، كما يفعل غريلي، يجب تعليم التلاميذ بأن الصبر على الإساءة (والابتعاد عن العنف) ليس جبنا، ولكن احتراما لحرية الإساءة.

ماذا سيحدث في المستقبل؟

ستحدد المحكمة العليا شروطا لحرية الإساءة والشتم أو لن تضع، سيظل الأميركيون يناقشون الموضوع. وعن هذا قالت بروفسور كريستيان ويلز، أستاذة القانون في جامعة ميسوري: «لن يغير أي جانب رأيه. خسارة قضية في محكمة ليست نهاية البحث عن الحقيقة. أهم شيء أن نفهم، ونقدر، الحرية التي نتمتع بها».