وداعا للأدب واللغة.. ومباريات كرة القدم

غونتر غراس في الجزء الثالث من سيرته الذاتية

«كلمات غريم» المؤلف: غونتر غراس منشورات شتيدل/ غوتنينغن
TT

«كلمات غريم» هو الكتاب الثالث من السيرة الذاتية للروائي الألماني المعروف غونتر غراس، حائز جائزة نوبل 1999. الجزء الأول كان «تقشير البصل» 2006، وتحدث فيه عن مرحلة الطفولة والشباب، والجزء الثاني «الصندوق» عن الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى أسرته، وها هو يكمل سيرته الذاتية بالجزء الثالث «كلمات غريم» وعنوان فرعي «إعلان حب للغة الألمانية»، أي أن علاقته باللغة الألمانية تشكل ركيزة أساسية في هذا الكتاب «اللغة التي ضمتني أكثر من ستين عاما ومنحتني كل شيء» كما يقول.

بدأ غونتر غراس الجزء الثاني من سيرته بحكاية «كان هناك أب حين تقدم به العمر، نادى على أولاده وبناته.. الأربعة، الخمسة، الستة، الثمانية، بعد تردد طويل جاءوا وهم يجلسون الآن حول المائدة ويتحدثون»..

وها هو يبدأ الجزء الثالث بالأسلوب نفسه:

«كان هناك شقيقان، ياكوب وفيلهلم»، وهنا يضلل غونتر غراس القارئ كي لا يقرأ عمله الروائي الأخير بمعزل عن الجزءين السابقين من سيرته الذاتية.

يتناول غراس في الجزء الثالث من سيرته قصة الأخوين غريم، ياكوب وفيلهلم (القرن التاسع عشر)، اللذين قاما بجمع القصص الخرافية الألمانية وقصص شعبية من أهمها «بياض الثلج والأقزام السبعة وذات الرداء الأحمر»، وعملا بدأب وإصرار على جمع أول قاموس شامل للغة الألمانية بدءا من سنة 1838، وواجها الكثير من المتاعب والمشكلات من المقربين والعائلة والأصدقاء، خصوصا حين واجها ملك هانوفر إرنست أوغست الذي قرر عام 1837 إلغاء الدستور، الأمر الذي يراه غراس جامعا له مع الأخوين غريم للالتزام بهموم الجماهير وقضاياهم وتبني ذلك كموقف في الحياة وفي أعماله الإبداعية.

بحرفة ودراية يمسك غراس بتلابيب القارئ ويمزج بين سيرته الذاتية وسيرة الأخوين غريم، خصوصا إصرارهما على جمع قاموس ألماني شامل رغم أنهما لم يستطيعا سوى إكمال الحروف الستة الأولى (أنهى الآخرون القاموس «معجم غريم للغة الألمانية» بعد 120 سنة - في ثلاثة وثلاثين مجلدا - في عام 1960)، ومواجهتهما لملك هانوفر وخسارتهما لمنصبهما (مع خمسة أساتذة آخرين) في جامعة غوتينغن يستحق التحية والتبجيل والتوقف عنده. «أقف قرب ياكوب غريم الذي يجلس القرفصاء وأحاول أن أجعله يقرأ بعناية رسائل الموسيقار مندلسون بارتولدي، غير أن الموسيقى والموسيقيين لا يثيرون اهتمامه، حتى لو كانوا من المشهورين في كل أنحاء العالم. وعندما ألفت انتباهه إلى الرسالة الشهيرة التي وجهها كلاوس مان في عام 1933 إلى الشاعر غوتفريد بن، ورد الشاعر البشع على الكاتب الشاب، فإن غريم يظل مستغرقا فيما يفعله ولا يعيرني أدنى انتباه. وحتى عندما حكيت له عن مراسلاتي مع الكاتب التشيكي بافل كوهوت الذي كان مفعما بالأمل في ربيع براغ، أو عن مراسلاتي مع الكاتب الياباني كانيبور أوي التي تحدثنا فيها عن تاريخ الحروب التي تسببت بلدانا فيها عاقدين المقارنة بين اليابان وألمانيا.. كل ذلك لم يثر اهتمامه. وعندما هممت بترك غرفته بدا وكأنه يود أن يعيرني آذانه عندما تسنح الفرصة لذلك».

مثل القاموس الألماني الذي عمل عليه الأخوان غريم، يبدأ صاحب «الطبل الصفيح» الجزء الثالث من سيرته بحرف الألف وينهيه بحرف الياء، وليس هذا فحسب فالغلاف الذي صممه بنفسه مثل كل أغلفة كتبه عبارة عن الحروف الخمسة الأولى في الأبجدية الألمانية متداخلة بطريقة ساحرة ومختلفة تناسب محتوى السيرة الذاتية.

ويؤكد غراس أن علاقته مع الأخوين غريم بدأت منذ سنوات طفلته، حيث كانت والدته تصحبه إلى مسرح مدينة دانتسيغ لمشاهدة المسرحيات المقتبسة عن قصص وحكايات الأخوين غريم. وهو يؤكد هنا أنه مدين للأخوين غريم، ويشترك معهما في حب اللغة الألمانية «هذه اللغة بيتي الحقيقي»، بالإضافة إلى أنهما تركا أثرا كبيرا في حياتي وفي نتاجي الأدبي أيضا.

غراس يتوقف أيضا عند تاريخه السياسي الحافل وعلاقته بالحزب الديمقراطي الاشتراكي ووقوفه إلى جانب الكتاب المضطهدين وقتها في ألمانية الشرقية ومعارضته العنيفة والقوية للحرب على العراق وكذلك الوحدة الألمانية التي من خلالها ابتلعت «إن ألمانيا الرأسمالية ابتلعت شقيقتها الصغرى».

الأوساط الثقافية والنقدية الألمانية، وصفت كتاب «كلمات غريم» بأنه أهم كتب غراس على الإطلاق، وأنه كتابه الأخير. وهو يبدو فعلا كذلك.

كتاب غراس الأخير - في السادس عشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) القادم سيبلغ الثالثة والثمانين - فعبر فصوله يودع غراس الجميع: أسرته أولا، وأدبه، واللغة الألمانية وعالمه الخاص أيضا «يقف الموت هناك.. وما يحزنني أنني لن أرى زوجتي وبناتي وأبنائي وأحفادي، ولن أعرف نتائج مباريات دوري كرة القدم. حين يأتي ليكن ذلك سريعا ولطيفا وبلا ألم».