عندما كانت باريس عيدا للحياة

الفائز بـ«نوبل» للآداب يكتب عن «العاصمة الثقافية للعالم»

يوسا (يسار) الفائز بنوبل للآداب 2010 مع الكاتب
TT

في نهاية سنوات الخمسينات عاش الكاتب البيرواني ماريو بيرغاس يوسا في باريس لسنوات كثيرة. لم يكن هو الروائي الوحيد الشاب الذي جاء من أميركا اللاتينية للإقامة في باريس، كان معه في تلك الأيام مجموعة من كتاب أميركان لاتينيين آخرين، سيتحول أغلبهم (إن لم يكن جميعهم) إلى أسماء لامعة لاحقا ثبتوا أساس الرواية الأميركية اللاتينية الحديثة، ميغيل استورياس، كارلوس فوينتيس، غابرييل غارسيا ماركيز، خوليو كورتازار... لمجرد ذكر بعض الأسماء التي كانت أيضا وراء ما أطلق عليها سنوات «Boom» (الازدهار أو الانفجار) الذي عاشته الروايات القادمة من تلك القارة الغامضة، لكن المثيرة للدهشة والفضول أيضا. كانت باريس مدينة مفتوحة، وكانت في تلك السنوات بمثابة العاصمة الثقافية للعالم، صرة العالم كما يُقال، كان هناك إلى جانب الكتّاب الشباب هؤلاء كتّاب وفنانون قادمون من جميع أنحاء العالم، قبل كل شيء من الولايات المتحدة الأميركية، كل تلك الأسماء الأميركية التي أطلق عليها «Lost Genaration» (الجيل المفقود). مقالة صاحب «المدينة والكلاب» يمكن فهمها من ناحية بأنها نوستالجيا في تذكر أيام الشباب تلك، ليس شباب الكتّاب وحسب، بل أكثر شباب المدينة التي خرجت للتو من الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي سليمة معافاة، مثلما يمكن قراءتها بمثابة جواب على التوجهات اليمينية العنصرية عند الحكومة الفرنسية سواء في حملات تنظيف باريس من الغجر أو في صيحات الأصوات المتطرفة التي تطالب بحماية الثقافة «الوطنية» الفرنسية. الثقافة، أية ثقافة (وهذا يصح علينا أيضا) تزدهر وتعيش في الانفتاح على الثقافات والفنون الأخرى في العالم، دعوات الانغلاق وحماية الثقافة «الوطنية»، تقود إلى التحجر والانحطاط.. إلى الموت في كل الأحوال. ليس من الغريب أن تزدهر عندنا ثقافة القتل والانتحار.

هنا نص نشره يوسا في جريدة «البايس» الإسبانية، يتحدث فيه عن محطته الفرنسية، التي استغرقت سبع سنوات.

لا أبالغ إذا قلت إني عشت طوال مراهقتي أحلم بباريس. كنت أعيش في ليما الخانقة في سنوات الخمسينات مع قناعة داخلية تقول إنه ليس هناك إلهام أدبي أو فني يصل إلى سنوات النضوج دون التجربة الباريسية، لأن عاصمة فرنسا كانت أيضا العاصمة الكونية للفكر وللفنون، الفنار الذي كانت تشع منه باتجاه بقية العالم، الأفكار الجديدة، الأشكال والأساليب الجديدة، التجارب والمواضيع التي أنهت في نفس الوقت على الماضي، ووضعت الأسس لما ستصبح عليه ثقافة المستقبل.

بمقابل فقر الفنون والآداب لفرنسا الحاضرة تبدو الإبداعات تلك اليوم حمقى لدرجة كبيرة، جهل شاب قروي ومتخلف مصاب بالغواية على البعد بسبب الرومانتيكية الأسطورية لباريس. لكن الحقيقة هي أن الأسطورة كانت قريبة من الواقع بما يكفي حتى ذلك الحين في عام 1959، عندما شرعت في النهاية (في ظروف حرجة) في الانطلاق بمحطتي الباريسية التي امتدت إلى ما يقارب سبع سنوات. الشخصيات الكبيرة المثقفة التي انعكست أعمالها وأفكارها عبر كل الكون تقريبا كانوا لا يزالون حينها على قيد الحياة، والكثيرون منهم في غليان واسع، من سارتر حتى كامو، من مالرو حتى سيلين، من بريتون حتى أراغون، من ماوريس حتى رايموند، من فوكو حتى غولدمان، ومن باتاي حتى يونيسكو وبيكيت. يمكن أن تطول القائمة. بالفعل، إن الرواية الجديدة التي وضع أسسها كلود سيمون، وروب غريه، وناتالي ساروت، وشركاؤهم، كانت الموضة السائدة حينها، ستمر مثل نار بليدة دون أن تترك آثارها، لكن هذه الحركة كانت حركة واحدة نادرة بين حركات كثيرة، مثل جماعة «Tel Quel»، التي انطلقت تحت قيادة الصوفي الألمعي رولاند بارت، أحد الذين تابعت محاضراتهم في الدائرة الثالثة في السوربون بمشاعر اختلط فيها الإعجاب بالحيرة. بارت كان يُسمع حديثه المعتد بنفسه بالضبط كما كنا نحن، مستمعيه، نعارض ثقافته الضخمة بنشوى وبكبرياء من الطيش الثقافي.

لا أعرف إذا كانت باريس في سنوات السبعينات ظلت عاصمة الثقافة، لكن واعتمادا على المعرض الساحر للأكاديمية الملكية في لندن، المكرس لباريس، عاصمة الفنون «1900 - 1968»، ليس هناك شك، حتى الآن أو على الأقل امتلاك الشعور هذا الذي يقول بأن ليس هناك مدينة أخرى في العالم استطاعت تثبيت نفسها في العالم مثل مغناطيس جذب كل هذه المواهب الفنية والأدبية. الرومانيان سيوران ويونيسكو، اليوناني كاستورياديس، البلجيكي كايلوس، والسويسري جان لوك غودار، أعداد لا تُحصى من الموسيقيين، السينمائيين، الشعراء، الفلاسفة، النحاتين، الرسامين، والكتاب، غادروا بلدانهم مجبرين أو طواعية، وجاءوا فقط من أجل الإقامة في باريس. لماذا؟ للأسباب ذاتها التي اعتقدها التشيلي آكاريو كوتابو الذي صرح بأن من الصعب على كاتب لا يزال في المهد التنازل عن «النفس الباريسي». إذ بالإضافة إلى الجو المشجع على الإبداع، وللحرية التي كانت تسيطر هناك، كانت باريس (إذا تحدثنا من الناحية الثقافية)، مدينة مفتوحة تأوي الغريب، وحيث الموهبة والأصالة كانت تُستقبل بأيادٍ مفتوحة، ويتم تبنيها بحماس، دون السؤال عن أصل وجنس القادم.

إحدى النقاط التي بنى عليها معرض الأكاديمية الملكية هي رؤية كيف أنه سنوات القرن العشرين، أغلبية الإنجازات الفنية خصوبة وتجديدا التي نفذها على الأغلب فنانون غير فرنسيين مرت عبر باريس، وكيف أنها وجدت أولا الاعتراف في فرنسا والتشجيع الضروري قبل أن تفرض نفسها على المستوى العالمي. حدث ذلك مع بيكاسو، مع ميرو وخوان غريس، مع مودريان، مع غريغوريو شيريكو، مع بيغيليف، مع نجنسكي وسترانسكي، مع برانكوسي، مع بيكمان وماكس أرنست، مع جياكوميتي، مع هنري ميللر وثيزار باييخو، مع ويدوبرو، مع جينو سيبيريني وإيزا دورا دونكان، مع شاغال، ليبخيتز، كالدير وفروخيتا، مع فان دوغين، دييغو ريبيرا، مع كوبتكا وناتالي غونكاروفا، مع لام، ماتا وجوزفين بيكير، مع موديلياني ومان راي، مع خوليو غونزاليس، مع توريس غارسيا، مع نائوم غابو ومئات، بل وآلاف أكثر. ربما من المبالغة القول إن كل هذا التفريخ المبدع كان صيغة تأتي مما أطلق عليه عاشق آخر لفرنسا، الشاعر النيكاراغوي روبين داريو «La cara Lutecia» وجه اللوتيسيوم (مادة كيميائية مشعة: ن.و). لكن أليس هو هذا كما يقال، الهواء، الأرض والطقس الثقافي الذي طواهم في مدينة الضوء؟ أليس هو هذا ما ثبت بطريقة حاسمة الأساس لتطوير طاقتهم الإبداعية بطريقة واسعة؟

في باريس شعر كل هؤلاء بأنهم كما لو كانوا في بيوتهم لأن باريس كانت بيتا للجميع. في الثقافة الفرنسية كان ما كان لكنه لم ينتسب فقط إلى فرنسا، إنما إلى العالم كله، أو من الأفضل القول إنه ينتسب إلى أولئك المصابين بالغواية لغناها، لكرمها، لتنوعها ولكونيتها، والذي جعلها تصبح رقيقة وشفافة، وكما فعلت أنا، وأنا ما زلت مراهقا، هناك في ليما، بطيش ناسبا نفسي إلى هذا الاتحاد الفرنسي حتى إنني بدأت أتعلم اللغة الفرنسية لكي أستطيع أن أقرأ في اللغة الأصلية للكتّاب الذين بهروني. وبطريقة أخاذة ترينا كاليريات الأكاديمية الملكية المصل العظيم للاكتشاف، للجرأة، لقلة الحياء والقوة الهدامة لكل ما تعنيه الثقافة الفرنسية في سياستها للأبواب المفتوحة - التحرك الحر والجسارة الدائمة مع «الأجانب» الذين وصلوا إلى باريس، وكفوا أن يكونوا فيها كما كانوا عليه قبل المجيء، لأن روح المدينة اكتسحتهم وأغرقت قورابهم في بحرها المشع. منذ الحركة التي ما بعد الانطباعية حتى «los happenings» مرورا بالحركة التكعيبية والدادائية والسوريالية وكل الحركات الطليعية، كانت باريس في مجال الفن، الألف البورخيسي، ميكروكوسوم يعكس كل الكون، المكان الذي هو مخرج ومدخل للمنتجات الثقافية وللفنانين الأكثر تأثيرا في العصر. ما الذي كان يمكن أن يحدث للعاصمة العالمية للفنون هذه، الوطن المفتوح باتجاه العالم الذي حضر له فنانون من كل العالم كقوة غذائية، لو أنها أعلنت خضوعها كما يحدث في أيامنا هذه للفكرة الشوفينية القروية والمثيرة للسخرية هذه التي يحمل لواءها حلف ملون من اليمين المتطرف حتى اليسار المتطرف، والتي تشن حملة لحماية «الاستثناء الثقافي» بهدف منع منتجات المثقفين الأجانب (تُقرأ أميركية) من تلطيخ «الهوية الثقافية» المقدسة إلى أعلى حد لفرنسا؟

اقرأ الجواب على هذا التدخل الفظ الذي يحاصرني منذ أن أخرج من الأكاديمية الملكية، مليئا بالميلانكوليا لما رأيته للتو، في مقالة رائعة وضعها القدر بين يدي هذا الصباح، والتي كتبها جين فرانسواز ريفيل تحت عنوان «الاتساع الثقافي». الموضوع المكتوب بسخرية لاذعة يحقر الحجج التي تتحدث عن «مصلحة حماية الثقافة كأمثلة لا تدحض». الدفاع عن النفس ضد التأثير الأجنبي، يقول، ليس هو الطريقة الأسلم للمحافظة على الثقافة الخاصة. على العكس، إنه الطريقة الأفضل لقتلها، ويقارن مثال مدينة أثينا، بصفتها مدينة مفتوحة تنقلت فيها الآداب، الفنون، الفلسفة والرياضيات، مع مدينة اسبارطة، المدينة العسكرية المدافعة التي تغار على مثالها الاستثنائي، التي كانت على عكس أثينا تماما والتي كانت مأثرتها الوحيدة التي حققتها هي نجاحها «أن تكون المدينة الوحيدة التي لم تنتج شارعا، أو متكلما واحدا بالمنطق، لا مفكرا ولا معماريا». اسبارطة دافعت بنجاح عن ثقافتها التي ميزت نفسها!

ريفيل يذكرنا في الوقت نفسه بأن الوطنية الثقافية ليست غير تخريجات لمجموعة ناس جهلة لا يرون في الثقافة غير وسيلة للسلطة والدعاية السياسية، وهي معادية تماما للديمقراطية، الوطنية الثقافية ظاهرة قبيحة نموذجية تدمغ الحكومات التوتاليرية بها نفسها. هؤلاء أحاطوا دائما الحياة الثقافية بأسلاك شائكة وأخضعوا كل شيء للدولة. لذلك لا يمكن تطبيق الوطنية الثقافية في مجتمع مفتوح، الأمر الذي يعني في النتيجة أنه وعلى الرغم من الصراخ والحملات الصحافية المتحمسة إليها، من الصعب عليها أن تزدهر في فرنسا ما دامت فرنسا تواصل بالبقاء هكذا ديمقراطيا، وتلك ليست فرضية يفترضها، بل هي أمر مؤكد بالنسبة له. لأن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تترجم فيها حماية الثقافة نفسها في سياسة فعالة هي فقط بواسطة تطبيق نظام صارم للاضطهاد والرقابة للمنتجات الثقافية، أمر لن يكون مقبولا بالنسبة لجمهور ناضج، معتدل وحر. ما الذي كان سيحدث، يتساءل ريفيل، لو أن ملوك فرنسا في القرن السادس عشر، بدل أن يدعوا الرسامين الإيطاليين لزيارة باريس، قاموا بطردهم دفاعا عن «الهوية الوطنية»؟ ألم يكن التأثير كبيرا ومثمرا لتأثير الأدب الإسباني على فرنسا في القرن الثامن عشر، حتى عندما كان البلدان في حالة حرب دائمة بعضهم ضد بعض؟

لو لم تكن فرنسا مفتوحة تقليديا لحدودها على «المنتجات الأجنبية» من المستحيل أن يكون هناك مثل هذا المعرض في الأكاديمية الملكية، وهو مانيفيست حر لمصلحة التنقل الحر للفن وللفنانين عبر العالم الواسع دون قيد أو شرط. ودون الانفتاح هذا كان من المستحيل أن تكون نجحت فرنسا بإثارة مخيلة هذا العدد من الشباب القادم من كل العالم، مثلما حدث لي في ليما سنوات الخمسينات، عندما استحوذت علي الفكرة التي تقول: إن في تلك الأرض البعيدة البراقة فقط، يمكن للجمال والعبقرية أن يثمرا فيها بصورة أفضل من أي مكان آخر، كما بيّن ذلك الشعراء والكتّاب، هؤلاء الذين حدثونا بصوت واضح وعالٍ لدرجة أنه وصل إلى المجاهل التي كنا نشعر بأنفسنا منفيين فيها، كما أرانا أولئك الفنانون والسينمائيون والموسيقيون الذين بدت أعمالهم مصنوعة تماما على مقاس ذوقنا وأحلامنا الأكثر مطلبية.

أحد الدوافع التي تتذرع بالحرص عند مدافعي الحماية الثقافية - الحرص على الإعانات المالية، هو أمر مفهوم - هو أنه دون السياسة الوطنية التي تحمي البضائع الثقافية المحلية، ستدفن الثقافة في فرنسا نفسها في انحطاط لا يُغتفر. الانطباع الذي عندي هو بالذات العكس. فقط لأنه ليس هناك شيء من الثقافة الفرنسية التي يُراد لها أن تكون عليه، استطاعت أن تزدهر في فرنسا الفكرة المنحرفة التي تقول إن الثقافة تحتاج كماركة، إلى حدود وإعانات مالية - منتجع نقاهة بيروقراطي - لكي لا تفنى.