سوق الفن الفرنسية فقدت مكانتها الريادية

بريطانيا لا تزال في المقدمة.. والصين تخيف الجميع

TT

سوق الفن الفرنسية إلى انحدار، وأرباحها إلى تآكل. وهو تراجع لا يؤرق وزارة الثقافة الفرنسية فقط، وإنما مجلس النواب أيضا الذي بدأ يدرس السبل المتاحة لإعادة فرنسا إلى خريطة الفن بعد أن خسرت ريادتها ولم تعد تمثل أكثر من 9% من مداخيل هذه السوق مقارنة بـ30% تحصدها بريطانيا. لماذا فقدت فرنسا رونقها وبريقها، وما هي الإجراءات التي تتخذ لإنقاذ باريس من تراجعها؟ هنا تحقيق مفصل حول الموضوع.

صيف ساخن شهده «مزاد دروو» الفرنسي، إحدى أشهر ساحات بيع التحف الفنية، والثالث في الترتيب العالمي بعد «كريستيز» و«سوتبيز». وهذا بعد سلسلة فضائح كبيرة هزت المؤسسة العريقة التي تنشط منذ مائة عام في مجال تسويق التحف الفنية. القضية أسالت الكثير من الحبر، فلأول مرة منذ تاريخ إنشاء المزاد الشهير الواقع في وسط باريس، تم تسجيل حوادث سرقة استهدفت عدة تحف فنية منها لوحة الرسام الشهير غوستاف كوربي «مشهد للبحر في عز العاصفة» التي تقدر قيمتها بأكثر من 100 مليون يورو. في قفص الاتهام متعهدو النقل الملقبون بـ«ذوي الياقات الحمراء». وهم الموظفون الذين اعتاد زوار وزبائن المزاد على حركاتهم الدؤوبة داخل أروقة المبنى وبدلاتهم السوداء المميزة بياقات حمراء أنيقة صنعت شهرتهم في العالم.

المعروف عن هؤلاء الرجال الذين اهتموا بنقل وتخزين التحف في «دروو» منذ عهد نابليون الثالث احتكارهم لهذه المهنة حتى إن المؤسسة العريقة لم تعرف منذ بداية نشاطها سنة 1825 سوى أجيال من مفوضي المزادات ومتعهدي النقل وهم جميعهم متحدرون فقط من منطقة «لاسفوا». وقد كانت تحقيقات الشرطة قد كشفت عن تورط 12 من متعهدي النقل ومفوض مزاد شاب، كلهم من هذه المنطقة الجبلية الواقعة في جنوب شرقي فرنسا.

الكشف عن حوادث السرقة أفضى أيضا إلى سيل جارف من الانتقادات بخصوص تسيير هذه المؤسسة العريقة التي تتاجر بنحو 800 ألف تحفة وتنظم سنويا أكثر من 2000 مزاد علني.

تقرير حديث لوزارة العدل خص بالذكر «سوء التسيير الإداري» ونقائص في القانون الداخلي ونزعة نحو الجمود ومقاومة التغيير.

التقرير لفت الانتباه إلى أن أول سوق فنية في فرنسا لا تزال عاجزة عن منافسة الأسواق الأنجلوسكسونية. فحين تصل «كريستيز» إلى تحقيق 2.75 و«سوتبيز» 2.2 مليار دولار من الأرباح في السدس الأخير من سنة 2010، لا تصل «دروو» الفرنسية إلى أكثر من 400 مليون يورو. وينصح نفس التقرير بسرعة الشروع في سياسة إصلاح شاملة لضمان المحافظة على مكانة مشرفة لفرنسا في سوق الفن العالمي. أما يومية «لي زيكو» الاقتصادية فقد كشفت عن وجود عدة مشكلات بين أعضاء مجلس إدارة مؤسسة «دروو» المكلفين عادة باتخاذ القرارات المهمة.

وقع الفضيحة على سمعة المزاد الشهير جعلت رئيسه جورج دولتري يسارع بالإعلان عن تطبيق عدة إجراءات إصلاحية أهمها كسر احتكار «ذوي الياقة الحمراء» الذين أبعدوا نهائيا عن عمليات نقل وتخزين التحف الفنية واستبدلوا بشركة «شينو» التي تنشط في نفس المجال منذ 1995 وسبق لها أن تكفلت بنقل وتركيب لوحات وتحف لـ«معرض شنغهاي الدولي» و«متحف بوبور» بمدينة متز. كما تم الشروع بعمليات ترميم مهمة تخص كل صالات المبنى، رمم منها حتى الآن 4 قاعات بينما يفترض أن تنجز الترميمات الأخرى على مدار 3 سنوات.

إلا أن أزمة مزاد دروو التي «أقلقت الزبائن وهزت ثقتهم بالأسواق الفرنسية» حسب تعبير هيرفي أرون رئيس نقابة خبراء التحف، ليست إلا الشجرة التي تخفي الغابة. فالمتابع لتطور سوق التحف الفنية في فرنسا يعي جيدا أن وضعه الراهن لا يبعث على التفاؤل، وهو ما أكده تقرير حديث للبرلمان الفرنسي كشف عن أن الصين التي كانت منذ سنوات غائبة تماما عن هذا الميدان خطفت من باريس المكانة الثالثة التي ظلت تحتلها لعقود طويلة بعد «كريستيز» البريطانية و«سوتبيز» الأميركية، بل وقد تأخذ منها ألمانيا المرتبة الرابعة أيضا إذا استمر وضع السوق على هذا الحال.

خطورة الوضع جعلت وزير الثقافة الفرنسي فريدريك ميتران نفسه يدعو لعقد اجتماع طارئ مع «مرصد سوق الفن» المكون من أعضاء يمثلون المهنة، مذكرا إياهم بأن الإقبال الكبير الذي شهده معرض الفن المعاصر (الفياك)، المنظم في باريس أواخر أكتوبر (تشرين الأول) لا يجب أن ينسيهم وضع سوق الفن الذي أصبح صعبا بالنسبة لفرنسا في زمن العولمة.

نفس المشكلة جعلت البرلمان الفرنسي يوكل لأحد أعضائه وهو النائب «جان بيار بلنتاد»، مهمة تحضير تقرير شامل يراعي هذه المعطيات الجديدة للبحث في سبل استرجاع باريس لمكانتها الريادية في سوق التحف الفنية.

والواقع أن تراجع مكانة باريس في سوق التحف الفنية العالمية لم يحدث بين ليلة وضحاها بل إن الظاهرة بدأت تتأكد تدريجيا مع مرور الوقت. فبعد سنوات المجد ومرتبة الريادة التي كانت تحتلها العاصمة الفرنسية في السنوات الخمسين، تعثر نشاط المزادات والغاليريهات وشركات البيع الفرنسية ليصل اليوم لنسبة 9 في المائة مقابل 31 في المائة للولايات المتحدة، و30 في المائة لبريطانيا و14 في المائة للصين. التراجع أصاب أيضا الشركات المتخصصة كشركة «أرت برايس» الأولى فرنسيا في مجال الفن المعاصر، فبعد أن كانت لا تبرح المراتب الأولى تراجعت إلى الصف الخامس عشر عالميا بينما قفزت 9 شركات صينية إلى أعلى القائمة.

أسباب الأزمة كثيرة أهمها متعلق بالقوانين التي تحكم سوق الفن، وكذلك كثرة الإجراءات الإدارية التي أصبحت تشكل عائقا كبيرا أمام نشاط المقتنين وشركات البيع.

ففرنسا خلافا لكل الدول الأخرى، تبقى البلد الوحيد الذي يفرض على تجار التحف ضريبة «الورثة» التي تقضي باستفادة ورثة الفنان بنسبة تصل إلى 4 في المائة من قيمة بيع التحف بعد مماته وعلى امتداد 70 عاما. كما تفرض أيضا ضريبة على استيراد التحف تصل إلى 5 في المائة وهو ما ينفر تجار وزبائن التحف الفنية ويعرض السوق لحالة من الركود. القانون الفرنسي يعرقل أيضا تكوين شركات بيع ذات حجم عالمي قادرة على تنظيم المزادات الضخمة والمتخصصة في التحف الغالية لمنافسة العمالقة الأنجلوسكسونية. وهذا لوجود مادة في القانون الخاص بالتراث الثقافي تقضي بمنع أي شركة تنشط في مجال سوق التحف الفنية بامتلاك أكثر من 5 في المائة من الأسهم. فالشركات الخاصة التي تنشط في هذا المجال هي في معظمها من الحجم المتوسط. حيث ينشط في الساحة الفنية الفرنسية نحو 9000 غاليري و300 دار للبيع. وهي إن كانت قادرة على تنظيم مزادات لبيع كتب نادرة أو أثاث من القرن السادس عشر إلا أنها تبقى عاجزة عن جمع أغنياء الزبائن والمقتنين حول لوحات نادرة وباهظة الثمن. يكفي أن نعلم أن «كريستيز» الأولى عالميا، حققت 25 في المائة من أرباحها في السدس الأول من هذه السنة بفضل لوحة بيكاسو «جسم عار على منضدة نحات» التي بيعت في المزاد بأكثر من 160 مليون يورو إضافة لمجموعة الكاتب والمنتج مايكل كريشتون التي تضم عدة لوحات للفنان أندي وارول والتي بلغت أرقاما قياسية في مزاد كريستيز الأخير. بينما لم تحقق أغلى تحفة بيعت في مزاد دروو هذه السنة، وهي قطع خزفية صينية أكثر من مليوني يورو.

يقول فرانسوا كوريال، مدير فرع «كريستيز» في آسيا «أكبر زبائن سوق الفن هم اليوم من الصين، والولايات المتحدة ومن الدول الناشئة، وعلى السوق الفرنسية أن تتكيف مع هذا الوضع الجديد. كفانا متاجرة في الآلات الموسيقية القديمة والأثاث القديم ودمى الجنود ليركز خبراء التحف ومفوضو المزادات في فرنسا على ما يستهوي هؤلاء الزبائن الجدد كلوحات الفن التجريبي والمعاصر، وتحف الفن الآسيوي واللوحات النادرة». يتابع الخبير الفرنسي، «علينا الاهتمام بصفة خاصة بالمقتنين الصينيين، والحرص على ترجمة الكاتالوغات ومواقع الإنترنت للغة الصينية والتعاون مع ممثلين عنهم من باريس لتسهيل تحركاتهم ونشاطاتهم التجارية».

أما بيار برجي المجمع الفرنسي المشهور وصاحب دار «بيار برجي وشركائه» فيقول: «احتكار مفوضي المزادات لسوق الفن الفرنسية أدى إلى موتها البطيء. هؤلاء الموظفون أساءوا تسيير مؤسسة دروو حتى غاب عنها الفن نهائيا. وهو ما تؤكده التقارير السنوية التي تقول بأن الغاليريهات تمثل نسبة 66 في المائة من سوق الفن، لهذا فأنا لا اعتبر مستقبل سوق الفن في المزادات العلنية بل في التظاهرات الفنية كبينالي البندقية ومعرض الفياك الباريسي». أما فرانسوا دوري روبير الأستاذ في جامعة باريس دوفين ومؤلف كتاب «قانون سوق الفن»، دار نشر دالوز 2010، فيعتبر أن على السلطات السياسية أن تذهب بعيدا في طريق تحرير سوق الفن، «علينا تسهيل عمل شركات البيع الخاصة وإلغاء البند الذي يجبرها على التعاون مع مفوضي المزاد. هذا الشرط الذي لا وجود له في الدول الأنجلوسكسونية، يعيق عمل كثيرين من خبراء التحف الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن تنظيم عملية بيع من دون وجود (حامل المطرقة) رغم خبرتهم الواسعة في المجال».

أما فرانسيس برييتز، المدير المساعد لشركة «أرت برايس» الأولى في سوق الفن بفرنسا بنحو 70 مليون يورو من الأرباح السنوية فيؤكد أن ما ينقص السوق الفرنسية هو المزيد من «الحماية». فالعملاقان «كريستيز» و«سوتبيز» ينظمان على مسمع ومشهد الجميع تهريب التحف الفنية من باريس لبيعها في لندن ونيويورك بحجة أن معظم الزبائن هم من الأجانب، بينما كلنا يعلم أن ظهور الإنترنت ووسائل التكنولوجيا الحديثة جعل التنقلات غير أساسية، فلماذا لا يجبرهم القانون الفرنسي على بيعها أينما حصلوا عليها؟ فالصين وإن كانت تسمح بتنظيم معارض فنية إلا أنها تضع خطوطا حمراء أمام تنظيم الشركات الأجنبية لعمليات البيع داخل حدودها، وهو ما ساعدها على التقدم وخطف المرتبة الثالثة من فرنسا.

فتح باب المنافسة أمام الشركات الكبيرة، وتخفيف الإجراءات القانونية وكسر نفوذ «حملة المطرقة» هي الخطوات التي تبدو أساسية لكي تعود فرنسا ثانية لسوق الفن بمكانة مشرفة، خاصة أن هذا البلد يملك كل المميزات التي تساعده على ذلك، فهو يزخر بروائع الكنوز الفنية والثقافية وبكفاءات بشرية قادرة على النهوض بهذا المجال وإنعاش سوقه بخبراته الواسعة. يكفي أن نعلم أن فرانسوا بينو رجل الأعمال والمجمّع المعروف، ساهم في نجاح دار «كريستيز» منذ أن أصبح أكبر مساهم فيها سنة 1989، وأن معظم كوادر «كريستيز» و«سوتبيز» ومديريها هم من الفرنسيين، ليبقى الشرط الوحيد حسب خبراء هذا المجال هو أن تتكيف سوق الفن في فرنسا مع الوضع الجديد وتتوقف عن إدارة ظهرها للعولمة.