في ما تبقى من أوراق محمد الوطبان

TT

أود القول إن رواية محمد الرطيان الموسومة بـ«ماتبقى من أوراق محمد الوطبان» رواية ميتاقصية، نرسسية، رواية تتأمل ذاتها في مرآة تصنعها بذاتها. وأقول مؤكدا إنها لا تروي قصة أو سيرة «بطلها» قدر ما ترصد وتسجل عملية كتابة الوطبان لأوراقه. إنها بكلمات أخرى، كتابة عن الكتابة، وظروف إنتاجها ونشرها. ويتمدد نطاق اهتمامها الميتاقصي لينفتح على أخواتها الروايات الأخرى، خصوصا الرواية العربية في السعودية، كما يظهر في الإشارات إليها والتعليقات المبثوثة في ثنايا النص. ولا تقف رواية الرطيان عند هذا الحد بل تتعداه إلى استباق استقبالها قرائيا ونقديا. وتعزز هويتها وانتماءها الميتاقصي، سواء بوعي أو بغير وعي، بقيامها بما أعده إيماءة احترام لرواية لورنس ستيرن «ترسترام شاندي»، كما سأوضح لاحقا.

تتشكل الميتاقصية في «ما تبقى من أوراق محمد الوطبان» على أساس من تضافر ثلاثة عوامل أو عناصر في علاقة تكاملية يؤدي كل منها دوره بطريقة تعبر عن وعي عميق بأسرار وخفايا اللعبة السردية، الميتاقصية على وجه الخصوص، إذ يشترك المؤلف الضمني والشخصية الرئيسية محمد الوطبان وحبيبته «تاء» عبر أفعالهما وتصرفاتهما وملفوظاتهما في خلق الملامح النرسسية للرواية.

يظهر أن المؤلف الضمني لـ«ما تبقى من أوراق الوطبان» كان حريصا على الإسراع في الشروع في لعبته السردية الميتاقصية، فالعنوان، العتبة الأولى، هو في الوقت نفسه الخطوة الأولى أو المدخل للعبة. فلو انتزع هذا العنوان من مكانه أو شطب الوسم الجينيري من أسفله، أقصد الكلمة «رواية»، لرأى القارئ أن العنوان قد تحول إلى دال يتأرجح ويومئ في اتجاه أكثر من مدلول، فالأوراق المتبقية من أوراق الوطبان، ليس في العنوان ما يدل على نوعها، فقد تكون مذكرات، أو خواطر، أو رسائل، أو تقارير، إلى جانب احتمالية كونها رواية. لكنه، من ناحية أخرى، أي العنوان، يشير ضمنيا إلى حقيقة أن الرواية، أية رواية، هي مجموعة أوراق يدثرها غلافان.

ويواصل المؤلف الضمني لعبته الميتاقصية بالتعليق الساخر على العبارة التي يصدر بها بعض الروائيين رواياتهم: «هذه الرواية عمل من صنع الخيال، وأي تشابه بين أحداثها أو أسماء الشخصيات الواردة فيها مع أحداث وشخصيات واقعية هو مجرد مصادفة». يصف المؤلف الضمني هذه العبارة بأنها ساذجة، ربما لأنها تعبر عن تصور مسبق لقارئ ساذج وبسيط لا يميز بين الواقع والخيال، وبين الوهم والحقيقة. وهي كاذبة، من ناحية أخرى، ربما لأنها توحي بالنفي القاطع لوجود أية علاقة بين ما هو واقعي وتخييلي.

ينبغي الإشارة هنا إلى أن غياب الوسم الجينيري «رواية» من الأوراق التي سلمها محمد الوطبان إلى صديقته «تاء» وائتمنها عليها هو العامل الذي يسبب الارتباك والتشوش للأخيرة ويجعلها غير قادرة على معرفة الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه الأوراق.

تلعب «تاء» في الرواية دورا مركبا وهاما، فهي صديقة وحبيبة محمد الوطبان، وحافظة أسراره (أوراقه)، وساردة حين تروي قصة لقائها وتعرفها عليه، وهي وبدرجة أعلى من الأهمية أحد الأسس التي تنهض عليها ميتاقصية النص، ولهذا أطلق عليها هنا لقب «المتدخل الميتاقصي/the metafictional intruder»، بسبب أن تدخلاتها المتكررة سواء للتعليق على أحداث معينة أو لإيضاح أمر ذي صلة بأية بورقة من الأوراق، تسهم في تعميق وتعزيز النرسسية في الرواية.

إن أول وأبسط تفسير قد يتبادر إلى ذهن القارئ هو أن الوطبان غفا بعد كتابة رقم الورقة تحت تأثير الفاليوم الذي يتناوله اتباعا لنصيحة طبيبه النفسي، فقد اعتاد تناول ثلاث حبات من الفاليوم لكي يستطيع النوم، أو أنه ببساطة كتب الرقم ثم لم يجد في نفسه الرغبة في الكتابة. أو، وفي ضوء تنظير روبن وارهول عن «غير القابل للسرد the unnarratable» في القص والفيلم المعاصر، أقترح أن الصفحة الخالية تشير إلى أحد احتمالين:

1) إن الوطبان امتنع عن الكتابة/ السرد لما اكتشف أن ما كان في ذهنه هو من النوع الذي تسميه وارهول the subnarratable، تحت القابل للسرد، أي دون مستوى القابلية للسرد، وليس ثمة حاجة إلى سرده لكونه عاديا ومألوفا.

2) أو كان من النوع الذي تشير إليه بالمصطلح «the supranarratable»، أي فوق مستوى القابلية للسرد، فلا يمكن تمثيله، لأنه يفوق ويتحدى قدرة اللغة أو الصورة البصرية على التمثيل والتصوير. وتضرب وارهول المثال على هذا النوع بالإشارة إلى لجوء ستيرن في (ترسترام شاندي) إلى استخدام صفحة سوداء للتعبير عن حزنه لموت المسكين يوريك، أو عندما يصرح السارد، أي سارد، بأنه لم يجد الكلمات المناسبة للتعبير عن موقف من المواقف. ربما واجه الوطبان أحد هذين الموقفين فلم يكتب، وترك الصفحة مفتوحة لاحتمالات التأويل.

يختم المؤلف الضمني روايته بكلمة «البداية»، وأعود أنا إلى ما قلته في البداية وهو أن رواية «ما تبقى من أوراق محمد الوطبان» تتضمن نصا سرديا نرسسيا جعل ذاته وعملية كتابته موضوعا للتمثيل والتأمل والتعليق على نفسه وعلى نصوص أخرى، ودعم ميتاقصيته بعلاقات وتعالقات تناصية بأعمال سردية تربطه بها علاقة قربى وانتماء إلى نفس النوع. ولعل هذه القراءة وفقت إلى إيضاح ذلك!

(*) ملخص ورقة عمل، قدمها الكاتب، بمناسبة توقيع محمد الرطيان روايته «ما تبقى من أوراق محمد الوطبان»، في الدمام الأسبوع الماضي، حيث أقيمت هناك أمسية في جمعية الثقافة والفنون نظمها ملتقى «الوعد» الثقافي، لدراسة ونقد هذه الرواية.