الاستثمار في «القوة الناعمة» يأتي بالمال

الجدوى الاقتصادية لـ«بيروت عاصمة عالمية للكتاب»

TT

الثقافة ليست عالة على الاقتصاد، بل بالعكس، التنمية في المجال الثقافي تؤمن مداخل غير منظورة، وتفتح أبواب الرزق من حيث لم تكن الدولة تنتظر. هذا ما تؤكده دراستان أجريتا مؤخرا في بيروت لتقييم الجدوى الاقتصادية لاحتفالية «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»، التي وصلت تكلفتها إلى ما يقارب 10 ملايين دولار، وأقيم خلالها 567 مشروعا، إضافة إلى 1200 نشاط. فهل ذهبت هذه الأموال هدرا وانتهت فاعليتها بانتهاء المناسبة؟ أم أنها ستستثمر في الاقتصاد، وهل من شروط للاستثمار الناجح في المشاريع الثقافية؟

السؤال الأساسي هو: هل يمكن للاستثمار في الفنون والتراث والآداب وغيرها من المجالات الإبداعية أن يؤمن مردودا على المدى الطويل والمتوسط؟ أم أن تمويل الأنشطة الثقافية يجب أن يستمر إلى أجل غير مسمى؟ دراستان حول الجدوى الاقتصادية للاستثمار في المجال الثقافي، وبيروت عاصمة عالمية للكتاب نموذجا، أجرى إحداهما الكاتب والمفكر المعروف علي حرب، والأخرى قام بها الدكتور كمال حمدان وفريق عمله.

تعترف الدراسة الثانية بأن العلاقة المتبادلة بين قطاعي الثقافة والاقتصاد ليس من النوع الذي تسهل مقاربته، أضف إلى ذلك أن هذا النوع من الدراسات شبه معدوم في لبنان وفي العالم العربي بشكل عام. وتعتبر الدارسة أن هذا النقص لا يعود فقط إلى تقصير في عمل المؤسسات وإنما «إلى عدم وجود وعي كاف لدى الهيئات الثقافية». بل إن مفهوم «اقتصاد الثقافة» في العالم هو جديد نسبيا، نشأ في أواسط القرن المنصرم، مع أن علاقة الثقافة وبخاصة الفنون، بالاقتصاد كانت على الدوام محور تحليلات وتساؤلات. وتعيدنا الدراسة إلى محطتين أساسيتين تبلور خلالهما هذا المفهوم المستجد. إحداهما هي دراسة لويليام بومول تحمل عنوان Performing Art أجريت عام 1966، وكان لا بد من انتظار 40 سنة لرؤية دراسة أخرى في هذا المجال وهي لديفيد ثروسبي، تحمل اسم «الاقتصاد والثقافة» نشرت عام 2001، وهما الدراستان اللتان فتحتا الباب أمام دراسات لاحقة.

علي حرب لا يعتقد أن ثمة حاجة للبرهنة على العلاقة الوثيقة بين الفكر والثروة، والذين ظنوا غير ذلك «استطاعوا أن يصنعوا ثراء من غير تنمية، أي تضخما»؛ «فالقادر على الاختراع والابتكار ليس هو فقط من يستثمر الموارد، بل هو أيضا من يحسن خلق موارد جديدة، كما تفعل اليابان.. وبالتالي فالفكرة الحية الخلاقة تكون مثمرة وفعالة بقدر ما تصبح قابلة للصرف والتداول، وهنا بالإمكان الكلام عن ظاهرة مزدوجة: وجهها الأول تحويل الثقافة إلى مجال للاستثمار، ووجهها الآخر إغناء الثقافة بتحويل المناطق المهمشة إلى حقول للإنتاج المعرفي والإبداع الجمالي».

يحاول حمدان في دراسته أن يركز على الطريقة التي أديرت بها احتفالية «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»، وكيف توزعت النشاطات على مختلف المناطق، ولم تتمركز في العاصمة وحدها، كما أن الأنشطة والمشاريع أقيمت بالتعاون مع المجتمع المدني، حيث كانت الأفكار تستقبل من الناس، ويتم تبنيها.

وكذلك كان الحرص على ألا تكون الدولة ممثلة بوزارة الثقافة هي الممول الوحيد، بل اكتفت بدفع نحو 50 في المائة من التكاليف، تاركة للهيئات والمؤسسات وحتى السفارات المبادرة والمشاركة. وهو ما خلق ديناميكية قوية منذ بدء الاحتفالية في مارس عام (آذار) 2009، وحتى انتهائها بعد عام من هذا التاريخ. وإذا كان هناك مردود أكيد مباشر لهذه الحيوية على الاقتصاد اللبناني، بسبب فرص العمل الكثيرة التي أتاحتها والمؤسسات التي استفادت، فإن المردود غير المباشر يبقى أكثر غموضا، بحسب دراسة حمدان؛ فمن المؤكد أن المشاريع التي نفذت، شارك فيها آلاف الناشطين والمنظمين من داخل لبنان وخارجه، تجلى هذا أكثر ما تجلى في معارض الكتب والمطبوعات والعروض المسرحية كما المصنوعات الفنية والحرفية.

أما على الأمد الطويل، فإن الدراسة لا تبدو بهذا الوضوح من ناحية تأكيد المردود المالي، معتبرة أنه مع مرور الوقت يتداخل المادي بالمعنوي، في تعويل واضح على أهمية التراكم والاستمرار لحصد ما هو مؤمل، ومع ذلك تقول الدراسة: «هذا التراكم يسهم في تحسين صورة لبنان بوصفه بلدا يختزن طاقات حية ومبدعة ويجذب المهرجانات والأنشطة ذات المستوى الرفيع».

علي حرب يتجاوز الكلام على بيروت عاصمة عالمية للكتاب، ويلقي الضوء على مجموعة من الأمثلة التي أثبتت نجاحا وحققت مداخيل، أو على الأقل ساهمت، في صناعة الازدهار حيث أقيمت، من هذه الأمثلة ثمة ما هو عربي، مثل قرية «سيدي بوسعيد» في تونس التي أصبحت مقصدا للسياح وموردا وطنيا بمتاجرها ومقاهيها وطرازها المعماري الأندلسي الذي لا ينضب. هناك أيضا قرية «المحرق» في البحرين التي تمحورت حول بيت الشيخ إبراهيم الخليفة الذي كان من رواد النهضة والعصرنة، وكذلك مدينة «أصيلة» المغربية التي تحولت بمهرجانها وأنشطتها إلى معلم سياحي وفضاء ثقافي عربي وعالمي.

يستشهد حرب أيضا بما حدث في اليمن، إثر زيارة الروائي الألماني وحامل نوبل، جونتر غراس لها، عندما أدهشته عمارته الطينية، وتبرع بمبلغ عشرة آلاف دولار، مقترحا على المسؤولين إنشاء مشغل لتطوير هذا الفن المعماري، ويستشهد علي حرب بمتحف الرسام الهولندي فان جوخ في أمستردام الذي مات فقيرا، بينما يقدر سعر الواحدة من لوحاته اليوم بملايين الدولارات.

أما متحف فان جوخ فهو اليوم معلم سياحي ومورد اقتصادي، حيث يضم مكتبة ومئات الدراسات حول الفنان ومؤلفات حول حياته، إضافة إلى مركز تجاري لبيع التذكارات المتعلقة بهذا المبدع الاستثنائي.

وفي معرض الكلام على التجارب الثقافية المثمرة يتأسف علي حرب على الوسط التجاري في بيروت، الذي على الرغم من أهميته وجماله يفتقر إلى عمق ثقافي، وهو ما كان يجدر بالمعنيين الاهتمام به، بدل التركيز على المتاجر والمقاهي والمطاعم دون سواها، قائلا: «قديما كانت الأسواق مكانا لتبادل البضائع والقصائد في سوق عكاظ. والوسط التجاري بحاجة إلى مبادرة فذة تحيله إلى بؤرة ثقافية حية، لكي يتحول إلى معلم حضاري مزدهر».

الدراستان تؤكدان دون تردد على أهمية العمل التراكمي في المجال الثقافي، لتحقيق الغايات المطلوبة. ويرى كمال حمدان أنه بدراسته قدم على الأقل ما يسميها «ومضات» تبين أهمية المرتكزات التي يقوم عليها مفهوم اقتصاد الثقافة في بلد مثل لبنان، شديد الاعتماد على الخدمات وعلى الانفتاح الثقافي والإعلامي والسياحي، على مستوى المحيطين العربي والدولي. أما علي حرب فيتحدث عن ضرورة استخدام «القوة الناعمة»، التي تتجلى في ابتكار الأساليب والنماذج الفعالة في الإدارة والتنمية وخلق الصيغ الحضارية للعيش بصورة سلمية كبديل لـ«القوة الفاحشة»، التي تعتمد العسكرة والحروب، وهو ما لا يناسب لبنان على الإطلاق.

رغم أن هاتين الدراستين تركز إحداهما على «الجدوى الاقتصادية لبيروت عاصمة عالمية للكتاب» والثانية على «الاستثمار في المجال الثقافي بوجه عام»، فمن الصعب اعتبار أنهما تضعان أساسا للاستثمار في المجال الثقافي في المستقبل، وإن كانتا تنيران على منطقة بقيت مظلمة لفترة طويلة. كما أن الدراستين لا تتطرقان إلى الأرقام والمبالغ التي تم صرفها وإن كانت قد جنت أي مداخيل ولو صغيرة، مباشرة وسريعة.

لكن المفارقة المبكية أنه بالتزامن مع صدور هاتين الدراستين، ظهر وجه آخر لاحتفالية «بيروت عاصمة عالمية للكتاب». فقد قررت منسقة الاحتفالية، الدكتور ليلى بركات، والمسؤولة عن ميزانيتها أن تكشف ما كان يدور في الكواليس. وتكلمت ليلى بركات في برنامج «الفساد» على تلفزيون «الجديد»، الأسبوع الماضي، عن ضغوطات هائلة تعرضت لها من قبل مدير عام وزارة الثقافة، لإجبارها على التوقيع والموافقة على مشاريع تعتبرها غير سليمة من الناحية المالية.

وقالت بركات إن الاحتفالية انتهت الآن، وهي راضية بنسبة 90 في المائة عن ميزانية العام، إلا أنها اعترفت بأنها اضطرت في بعض الأحيان للتوقيع مجبرة على مبالغ تعتقد أنها تنطوي على نفع شخصي، وكررت بركات أنها تعرضت إلى إهانات شخصية، ومع ذلك صمدت كي يمر العام بسلام، وتحفظ الميزانية من الطامعين بها.

ومما قالته بركات إنها تقدمت بشكوى موثقة إلى الهيئات الرقابية - وسمت «ديوان المحاسبة» و«التفتيش المركزي» - مدعومة بملفات ووثائق تؤكد كلامها، محملة المدير العام لوزارة الثقافة الحالي، مسؤولية سلامتها الشخصية بعد إذاعة الحلقة. وبهذا يبدو أن الدراستين اللتين تعولان على تنمية ثقافية، واستثمار بعيد المدى، قد ذهبتا هباء، طالما أن الفساد ما يزال جزءا من النظام السياسي؛ فالعلة دائما في السياسة وكل ما تبقى يذهب ضحية على مذبحها.