استنهاض الطفولة في مواجهة «الحلم الأميركي»

ميرال الطحاوي في «بروكلين هايتس» المرشحة لـ «بوكر» ضمن القائمة الطويلة

TT

تراهن ميرال الطحاوي، في روايتها الجديدة «بروكلين هايتس»، على طفولتها وتعيد مساءلتها بلغة مشربة بإيقاعات الشعر وأجواء التاريخ والجغرافيا، وتستنهضها من ركام الحكايات والذكريات، وتضعها في سياق زمن روائي طازج يتوزع بين فضائي القرية والمدينة متمثلين في منطقة تل الفراعنة، مسقط رأس الكاتبة الراوية ومرتع طفولتها، وبين بروكلين هايتس، أحد أحياء مدينة نيويورك، حيث تحل هند، بطلة الرواية، ضيفا عليه يرافقها طفلها الصغير. وعلى الرغم من تباعد شقة المفارقة بين الفضاءين، فإن الكاتبة استطاعت أن تنسج من عباءة الطفولة جسرا شفيفا يوحد ويفصل بينهما في الوقت نفسه. فالبطلة مغمورة بمياه طفولتها تسترجع تفاصليها، وكأنها أيقونة ممتدة في الزمان والمكان. وبروح من تلك الطفولة تعايش تضاريس واقعها الجديد الطارئ الموحش في مدينة بروكلين، وسط خليط مدجن من البشر.

تلعب الرواية على تماثلات الطفولة، تحولها إلى مرايا، وتظللها بموتيفات سردية متنوعة، فتبدو أحيانا كاشفة وصريحة، وأحيانا أخرى تراوغ تحت عتمة الظل وكثافة الألوان، وعلى وتر زمنين يشدان فضاء السرد أفقيا ورأسيا يعيش أحدهما في فراغ الآخر، ويتخيله نقطة الصراع في البحث عن حريته وطفولته ووجوده، بحثا عن زمن آخر هارب من البشر والأشياء والعناصر. إنه زمن الرواية نفسه، زمن القص الخفي، زمن الشبيه الذي يومئ، وينهض من ركام الإحباطات الإنسانية.

تعي الكاتبة طبيعة هذا الزمن المراوغ وتسربه في ظلال مرآتها الخاصة، عبر إيقاعات سردية خاطفة، تشد النص إلى فضاء أبعد مما توحي به الرموز، ليتحول فعل القص إلى سؤال إنساني حائر ومرتبك، لا يبحث عن مجرد إجابة تتلكأ على السطح، إنما عن وعاء للوجود، لا تنفصل فيه العلاقة بينه وبين ما يحتويه. ولعل هذا يحيلنا إلى طبيعة المفارقة الدرامية التي تنطوي عليها الرواية، فالبطلة، ومن ثم الكاتبة، تحقق وجودها وتتكيف معه بامتياز في النص، وتتعامل معه كوعاء يحتوي كل تناقضات وشظايا هذا الوجود، لكن خارج هذا الوعاء يصبح هذا الوجود مبتورا وناقصا وهشا وصادما، خاليا من دهشة الطفولة البكر، والفرح بشهوة الاكتشاف الأولى للعناصر والأشياء. ولا يقف هذا التعارض عند حدود التساؤل السردي العابر، بل يمثل محور الصراع الأساسي في الرواية، فهو يحيل زمني المتن والهامش إلى مفارقة معجونة بتساؤلات لا تنتهي، بين ماض قصي الأبعاد لم يزل حيا وطازجا، وبين حاضر يوسع من هوة التعارضات، ويحولها إلى إيقاع رخو لمصادفة الوجود والحياة.. لكنها مصادفة هشة عارية من فعل الإرادة الحر، يختلط فيها الحلم بالكابوس. إنها أشبه بلعبة القرب والبعد، التي فشلت البطلة في تعلمها في مدرسة الرقص على يد جارها تشارلي، الستيني ممشوق القوام، فكلما حاولت التعلم ازدادت عثراتها، ويربكها تيبس جسدها، حتى بدت لها الرقصة المتكررة مثل حياتها تماما.. تتمثل الكاتبة هذا الجو على لسان بطلتها في شكل تناص بصري مع لعبة «الدبة العمياء» الشعبية الشهيرة، حيث «في نهاية اللعبة تستيقظ من الحلم منهارة».

وعلى الرغم من مشاعر الفقد والشعور بالوحدة والغربة والحرمان، وغيرها مما يتناثر على سطح الرواية، كإفراز طبيعي للرحيل إلى واقع مغاير، فإن مأزق البطلة يكمن في افتقارها إلى الإحساس بطفولة الحياة وألفة الأشياء، في واقع يفرض عليها أن تعيشه وتتكيف مع مظاهره بمنطقه هو نفسه، بزمنه الهجين، في مقابل زمن الطفولة الهارب، حيث تحاول الإمساك به تارة بقوة الحلم، وتارة أخرى بقوة ذاكرة مشوشة مزدحمة بالرؤى والتفاصيل.

وعلى مدار فصول الرواية تتواتر على مرآة التماثلات سير الشخوص في ماضيهم وحاضرهم، وتبدو أحيانا وكأنها ظل أو رجع صدى بعيد لمناطق حميمية، مهمشة ومنسية من سيرة البطلة نفسها، يتقاطع معها زمن السرد، سواء في حركته الملموسة الظرفية، أو في فضائه التخييلي، حيث يعتمد حدس السرد على التقاط التفاصيل، ونثريات المشاعر والتأمل ومفارقة الدهشة والسؤال، وتحويل الوصف من تطريز سردي إلى طاقة للمعرفة وخلق مجالات إدراك جديدة للأماكن والأشياء، وغيرها من السمات الأسلوبية التي تمتاز بها الرواية. تقول الكاتبة في معرض وصفها لإحدى الحدائق اليانعة في بروكلين: «هنا كان يسكن آرثر ميللر، في تلك البناية، كانت تعيش معه في تلك الضاحية زوجته الشابة مارلين مونرو، قبل أن تصبح أيقونة وامرأة وحيدة منتحرة». إن الوصف لا يتعامل مع المكان كمجرد أثر، وإنما يحتويه ويتمثله كوعاء لخبرة البشر في الحياة والوجود. كما أنه يتجاوز دوره العابر في التوثيق للمكان وتداعياته، ويتحول إلى بوصلة تشد الحلم، والذاكرة معا، نحو نقطة أساسية تغلف الرواية من ألفها إلى يائها، وتسبح كأنشودة شجية تحت قشرة المتن والهامش معا، تسميها الكاتبة «الحنين الغامض».. فهناك حنين غض وشفيف لأيام الطفولة، وهناك حنين ملتبس وشائك لاقتناص مصادفة الواقع الأميركي الجديد.

بدافع من هذا الحنين الغامض تسعى هند، بطلة الرواية، إلى كسر رتابة المشهد اليومي المتكرر لحياتها، وتلتمس مبررات للوجود والانفتاح على عالمها الخشن، والتأقلم مع تداعياته. لكن لا أحد هنا يراها كما تتخيل هي نفسها، أو يعرف كيف كبرت، وتجاوزت تعاسة السنوات، ولن يلاحظ مثل صديقها الحميم الروائي، الذي اختطفه الموت بعد رحليها، «كيف صارت منحنية قليلا بعد الخياطات الكثيفة أسفل بطنها، تلك الخياطات التي فقدت فيها جنينا، ونزت بعدها لعدة أشهر لبنا متخثرا من صدرها».. لا أحد هنا يشبه صديقها المبهج، الذي كان يجعلها ترى نفسها بشكل أفضل.. هذه المشاعر تنعكس بقسوة على مرآة هند الخاصة، فتضطر إلى التحايل والتمويه على صورتها المضطربة جسديا في زوايا المرآة، وتحاول ضبطها كضرورة للتعايش وسط واقع يكثف دوما إحساسها بالاغتراب. ترصد الطحاوي أنماط هذا التحايل على لسان بطلتها، وبضمير الغائب، إمعانا في تنويع وتمويه صوت الأنا الساردة،وفي بروكلين على أرصفة شوارعها وضواحيها ومقاهيها، ترسم الكاتبة مجموعة من البورتريهات المؤثرة لشخوص محبطة، تومض في خلفية مرآة هند الخاصة، وتدخل في نسيج النص بحيوية وطزاجة، كأنه رحم وملاذ تبحث فيه عن أزمنتها الهاربة، ومعنى لوجودها المضطرب. إيمليا الروسية العجوز هاجرت مع زوجها اللاجئ السياسي بروفسور الفيزياء منذ الحرب الباردة، ولا شيء يشغلها سوى توفير كوبونات السلع الغذائية المخفضة، والبحث في صناديق النفايات عن أحذية قديمة صالحة للبيع من جديد، والبوسنية نزاهات، هربت من البوسنة، وأصبحت الطبيبة المفضلة لدى زوجات المغتربين العرب. وفتي الكنيسة الدمث الأنيق سعيد، سائق السيارة «الكاديلاك»، تكاد تقع هند في غرامه لكنها تكتشف أنه يجرها إلى التنصير، ثم اللبناني عازف الكمان ناراك، الذي يرى أميركا أكذوبة، وصديقه الفلسطيني نجيب الخليلي، صاحب محل حلوى «حلو العريس» المولع باللغة العربية، وابن أخته الشاب زياد الذي جاء ليدرس الإخراج السينمائي، ويكافئ هند على إعجابها به بإعطائها دور أم البطلة في فيلم يصوره عن عرب بروكلين.. وعزام، ذائع الصيت وزوجته الأميركية المنتقبة التي تجر خلفها عددا من الأطفال - في إشارة ذكية إلى نفوذ التيار الإسلامي المتشدد - ثم أمه ليليت، أو ليلى المصرية، المولعة بالرسم والشعر والموسيقى التي قدمت إلى بروكلين بعد أن هجرت زوجها الطبيب وطفلها الرضيع.. وغيرها من الشخوص، التي تعايشها الكاتبة بحميمية وتتعاطف معها إلى درجة الإحساس بالمصير نفسه، كاشفة الواقع القاسي الذي يعشيه المغتربون العرب والأجانب في بروكلين، وكأنه صورة مصغرة لمأزق الإنسان في عالمنا الراهن.

وتنهي هذه الرواية الممتعة دوائرها السردية المتقاطعة العذبة بمشهد موجع تشف فيه لعبة التماثلات عن زمن الشبيه، حيث تودع ليليت سنواتها التسعين وعذابات أمراض الشيخوخة والغربة، ببضع قصاصات وخطابات ومقتنيات خاصة وصور، ممهورة بتواريخ ودلالات شجية، معبأة في صناديق وملقاة على رصيف الإفينو، تنادي المارة «خذني من فضلك».. بذهول تقلب هند القصاصات العارية المستباحة، وتحس بأنها ظل لكتابة هاربة منها، وحين تتأمل صورة عزام الطفل الغرير يركض مبتسما، تتذكر طفلها الوحيد وينز اللبن المتخثر من ثدييها، وتتراءى صورتها في المرآة، كحلم قديم مشوش الملامح، يخشى مصادفة المصير نفسه.