الفن التشكيلي يستخدم الجثث البشرية في معارض يشاهدها الملايين

بسبب تساهل الرأي العام وعجز القوانين

TT

جثث، أعضاء بشرية مسلوخة، كلها باتت مواد أولية لمعارض «فنية» تجوب العواصم الكبرى، يراها الملايين، وتجني مبالغ طائلة. القوانين تحاول جاهدة أن تفرمل هذه الموجة الرديئة التي تمجد البشاعة والدناءة باستخدام الموتى لجني الأرباح وصنع الشهرة. التيار جارف، والسبب أن الفنانين المعاصرين - كما يقول البعض - باتوا أصحاب أذواق شديدة الرداءة. هل بات الفن يوازي القبح؟ وكيف يتقبل الجمهور هذه الموجة المقززة؟

«أحسست بقشعريرة في جسدي وانتابتني مشاعر القرف أكثر من مرة، وأنا أحدق في منظر تلك الأجساد المسلوخة والجماجم المفتوحة التي قيل لي إنها لأموات حقيقيين. وبدل أن أستمتع بهذه المشاهد التي يفترض أن تنال إعجابي، رأيت نفسي أتساءل هل أنا في معرض فنان أم في قبو سفاح خطير؟» شهادة هذه المدوّنة الفرنسية التي زارت أحد معارض الفنان الألماني «غونتر فون هاغن» في لندن، تعبر إلى حد كبير عن كمية المشاعر المضطربة التي تنتاب نفسية الأشخاص الذين يزورون مثل هذه التظاهرات الفنية المثيرة للجدل.

أصحاب هذه المعارض غير التقليدية فنانون ينتمون لتيار «الطليعة» الذي ظهر على أنقاض الدادانية التي تحارب كل أشكال الفن التقليدي، وإن كانوا يتوزعون بين الرسم، التصوير والفنون البلاستيكية، إلا أنهم جميعهم يبدعون في مجال الفن المعاصر وهم ممن لا يؤمنون بنظرية «كانت» التي تقول بأن «حدود الفن تنتهي حيث يبدأ الاشمئزاز». بل نرى هؤلاء يسبحون عكس التيار وكأنهم يريدون الخفض من مستوى مثالية الفن ورد الاعتبار للبشاعة والقبح. وبدل أن تنال أعمالهم الإعجاب وتبعث البهجة في نفوس الجمهور، فإنها تثير الجدل أو الاشمئزاز وأحيانا كثيرة القرف، لا سيما إذا علمنا أن بعضهم استعمل البصاق والبول ومياه المشرحة لرسم لوحاته، ومنهم من عرض صراصير وجرذانا وجثثا آدمية وفضلات حقيقية. كلهم يعتبرون أن الجمال والبشاعة متساويان، فكلاهما موجود في الحياة. والمبدع الحقيقي هو الذي يحول أي شيء إلى تحفة فنية بمجرد أن يعرضها في أروقة المتاحف وصالات العرض.

هذا الجيل الخاص من الفنانين لا يلتزم بأبسط مقومات الإبداع وهي إظهار الجمال في أسلوب رفيع مهذب، بل نراه يدمر كل القيّم الجمالية ويلعب على وتر الاستفزاز والإثارة واضعا إبداعه تحت شعار تمجيد «البشاعة» «العنف» أو «الجنس»، وهو ما يعتبرونه «عبقرية» قلما يفهمها عامة الناس. من بين هؤلاء المصور الأميركي لاري كلارك الذي كانت أعماله الفوتوغرافية موضوع جدل كبير شغل الساحة السياسية والثقافية الفرنسية مؤخرا، بعد قرار برتران دو لانووي عمدة باريس منع معرضه، الذي حمل عنوان «كيس ذي باست هيلو»، عن الشباب دون الثامنة عشرة بسبب احتوائه على صور إباحية مخلة بالآداب. القرار الذي اتخذه عمدة باريس بحق هذا المعرض الذي يضم أكثر من 200 صورة - حتى قبل أن تتمكن الجهات المحافظة من التقدم بأي شكوى - كان حسب رأيه الحل الأمثل بدل الإغلاق النهائي الذي كان سيطال المعرض كون مضمونه يتعارض مع قانون 5 مارس (آذار) 2007 ومادته المتعلقة بحماية الطفولة التي تعاقب بالحبس 5 سنوات وبغرامة مالية تصل إلى 75 ألف يورو. وتحدد المادة بأن الغرامة تطال: «كل من يساعد على خلق أو نشر أو توزيع مضامين تحرض على العنف أو الإباحية تصل إلى مسمع ومرأى شخص قاصر». لا سيما أن المعرض تضمن صورا صعبة من شأنها صدم المشاعر المرهفة، كصور مراهقين يتعاطون المخدرات وخاصة صورة فتاة حامل وهي تأخذ حقنة من الهيروين أو تلك التي مثلت مجموعة من الشباب وهم يمارسون الجنس في وضعيات خليعة. آن فونتان، المديرة العامة لمتحف «المام» التابع لبلدية باريس، ذهبت لحد اعتبار الصور تشجيعا على الاستغلال الجنسي للأطفال بما أن المصور كان يتعامل مع قصر ومراهقين فقط. عمدة باريس اعترف أيضا بأن هذا الإجراء هو لتفادي المشكلات التي وقع فيها زملاؤه المسؤولون عن معرض «أبرياء حتى تثبت إدانتهم» المقام في مدينة بوردو سنة 2000 خاصة أنهم يواجهون الآن أمام المحاكم الفرنسية، تهمة تشجيع الاستغلال الجنسي للأطفال بسبب السماح بعرض بعض الصور الإباحية. والمعروف عن الفنان لاري كلارك أعماله المثيرة للجدل والتي بدأها منذ سبعينات القرن الماضي بألبوم «تولزا» على اسم بلدته الأصلية والذي صدم به الأميركيون حيث اكتشفوا فيه الواقع المر لشباب ضائع بين حياة التشرد والمخدرات، على أن معظم أعمال هذا المصور البالغ من العمر 67 عاما قد تعرضت للرقابة سواء في الولايات المتحدة أو في باقي دول العالم. في موضوع آخر، ولكن دائما أمام المحاكم وقف مسؤولو المعرض العلمي التربوي «جسدنا» لسماع القرار النهائي الذي أصدرته ضدهم محكمة النقض الفرنسية والقاضي بإغلاق أبواب المعرض نهائيا ودون إمكانية أخرى للتظلم.

وقد كان هذا المعرض غير التقليدي الذي طاف العالم وشاهده أكثر من 30 مليون شخص في أكبر المدن والعواصم قد طرح لدى وصوله إلى فرنسا مشكلة أخلاقية، وقسم الوسط الثقافي بين معارض ومؤيد إلى أن انتهى بها المطاف إلى قاعات المحاكم. القضاء الفرنسي كان قد وجه لشركة «أفنت أنكور» التي نظمت هذا الحدث تهمة استعمال أجساد مجهولي الهوية لأغراض تجارية، بعد أن عُلِم بأن الأجساد التي استعملت في المعرض هي جثث آدمية حنطت بطريقة علمية تسمى «التطرية». الأخطر بالنسبة للجمعيتين التي تقدمت بالشكوى، وهما «جمعية معا ضد أحكام الإعدام» و«جمعية مساندة الصين» هو ذلك الانتهاك الصارخ لأجساد الموتى التي تعرضت للنقل والعرض كقطع أثاث. الجمعيات تعتبر أن ما حدث مع هذه الجثث هو انتهاك لكرامة الموتى الذين لم يدفنوا كما تحث عليه النصوص الدينية والتشريعية ومنها المادة السادسة عشرة من القانون المدني الفرنسي التي تنص على ضرورة التعامل مع أجساد الموتى باحترام وكرامة.

إضافة للمشكلة الأخلاقية التي تطرحها قضية استعمال الجثث لأغراض ربحية، حيث إن تذكرة الدخول وصلت إلى 15 يورو أي ضعف الأثمان العادية، خاصة أن مصممي هذا المعرض لم يفلحوا في تبرير مصدر الجثث التي يقال إنها كانت لمساجين صينيين تم إعدامهم ثم بيعت أجسادهم دون علم ذويهم أو موافقتهم.

لكن فرنسا ليست البلد الوحيد الذي شهد مثل هذه العروض المثيرة للجدل، فقد استقبلت عدة مدن غربية أعمالا وعروضا فنية صدمت الجمهور بنزعتها نحو الانحراف والغرابة، كالفنان المعاصر غيلرمو فركاز الذي أثار استياء الإيطاليين بعد أن نقلت الصحافة خبر قيامه بربط كلب متشرد أمام مدخل المعرض وتركه يموت جوعا وعطشا أمام أعين الجمهور. ورغم تأكيد هذا الأخير على حسن نيته وبأنه أراد بذلك تخليد صورة الكلب في ذاكرة الناس فإن ذلك لم يشفع له عند جمعيات الرفق بالحيوان التي هاجمته في المحاكم بتهمة التعذيب والقتل العمد لحيوان. أما تريزا مرغولز الفنانة المكسيكية المقيمة في فرانكفورت فقد أثارت قرف زوار معرضها الألمان حين أخبرتهم بأن مصدر الفقاعات الصابونية التي تزين معرضها هي مياه المشرحة التي يغسل فيها الموتى.

ولكن الأدهى هو أن تصبح نفس هذه النزعة نحو إثارة اشمئزاز الجمهور هي العلامة التجارية لبعض الفنانين ومصدر شهرتهم وذيوع صيتهم، كالألماني غونتر فون هاغن الذي أصبح الجدل يصاحب معارضه أينما حلت في العالم بسبب غرابتها، حيث يعرض خبير التشريح الذي يفضل أن يلقب بـ«الحرفي الماهر» بدل «الفنان» جثثا آدمية محنطة بطريقة التليين، وهي الطريقة العلمية التي اخترعها بنفسه سنة 1977 وتعتمد على إزالة السوائل والشحوم من الأجساد وتدعيمها بمواد كيماوية لحفظها من التلف. أعمال غونتر فون هاغن تمثل أجسادا مسلوخة وأعضاء آدمية تظهر منها الأنسجة العضلية والعصبية، سببت حالات إغماء كثيرة لدى الزوار.

ورغم إصرار غونتر على أن أعماله هي علمية تربوية قبل أن تكون فنية فإن بعضها يوحي بميل نحو الإبداع الفني، حسب شهادة زوار أبدوا إعجابهم بقطع كتلك التي تمثل جسد رجل جالس في وضعية لاعب شطرنج وأخرى تمثل فارسا على صهوة جواده. وكان خبير التشريح قد شرح كيف أنه يقوم بصبغ الأجساد وتشكيلها في وضعيات مختلفة من وحي خياله وكيف أنه يستعين بمخرج مختص في المهرجانات الفنية لتنظيم معارضه، آخرها المّسمى بـ«عالم الأجساد»، جذب لغاية اليوم أكثر من 14 مليون زائر وملايين الدولارات، رغم كل التكدر الذي سببه لزواره والهجوم الذي تعرض له.

وكان الإيطالي بيارو مانزوني قد تميز قبله بإنجاز أصبح بفضله علامة في مجال الفن المعاصر حيث قام بوضع فضلاته في 90 معلبة حديدية وباعها كقطع فنية تحت اسم «فضلات الفنان» أو «لامردا دي لاراتسيت»، نال بها شهرة عالمية حتى وصل سعر القطعة الواحدة اليوم إلى أكثر من 40 ألف يورو. ناقد فني معروف ذهب لحد اعتبار الذوق الرديء من أهم مقومات الفنان المعاصر. فكلما كان العمل مثيرا للاستفزاز وغريبا زاد ذلك من صيت الفنان، مذكرا بأن تاريخ الفن المعاصر كله بني على نبذ الفن الرفيع الذي تمثله البرجوازية. وهو ما تأكده كذلك تلك المعلومات التي تفيد بأن الفنانين الخمسين الأوائل الأكثر شهرة في مجال الفن المعاصر هم أصحاب تحف فنية يراها عامة الناس غريبة بل وفي منتهى القبح.