بعد ضمور الـ«إسلاموفوبيا».. أميركا تعيش زمن الـ «إليتوفوبيا»

حرب شرسة على «النخبة الأميركية»

TT

النخبة تحت المجهر في أميركا بعد صعود «حزب الشاي».. هناك من يريد أن يستبدل بها غيرها.. وآخرون يعتقدون أن النخبة شر لا بد من التخلص منه كليا لأن الأصل هم الناس العاديون.. وآخرون يقولون إنهم ضد النخبة مع أنهم منها وفيها.. فوضى في تعريف النخبة مع نقمة على ما تمثله.. النخبة الأميركية ما هي؟ ومن الذي يسعى للتخلص منها؟

في انتخابات الكونغرس الأخيرة، فاز الجناح اليميني «حزب الشاي» في الحزب الجمهوري بمقاعد كثيرة، وصار وكأنه سيسيطر على الحزب، بل على السياسة الأميركية برمتها.

أجندة «حزب الشاي» تقوم على ثلاث نقاط:

أولا: تخفيض الضرائب، خاصة على الأغنياء والشركات ليقدروا على الاستثمار أكثر، ومن ثم تعم الفائدة، رويدا رويدا، على عامة الناس.

ثانيا: تخفيض سلطة الحكومة على مجالات التعليم والصحة والمساعدات الداخلية والخارجية، لأن الحكومة صارت «اينمي» (عدوا).

ثالثا: تخفيض «سيطرة النخبة على البلاد»، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتركيز على «المواطن العادي».

توضح هذه النقطة الأخيرة الأجندة الثقافية لـ«حزب الشاي»، ورغبته في محاربة النخبة الحالية. واسم الحزب يحيل إلى حزب قديم ظهر قبل أكثر من 230 سنة، خلال النضال الأميركي ضد الاحتلال البريطاني. هجم أميركيون على سفن في ميناء بوسطن كانت تحمل أكياس شاي من بريطانيا، ورموها في البحر احتجاجا على ارتفاع أسعارها، وعلى ضرائب فرضها الحاكم البريطاني.

هذا الرأي العدائي حيال النخبة هو موضع انقسام بين اليمينيين والليبراليين. وخلال الحملة الانتخابية، انقسم المثقفون والسياسيون الأميركيون حول هذا الموضوع.

في جانب اليمينيين:

أولا: قال جلين بيك، مقدم برنامج مشهور في تلفزيون «فوكس»: «تعيش النخبة الجديدة، النخبة الشعبية.. تسقط النخبة القديمة، النخبة الاستعلائية».

ثانيا: قالت شارون إنجليز، مرشحة «حزب الشاي» في ولاية نيفادا: «لم تعد النخبة على اتصال مع المواطن العادي. نحن نريد نخبة جديدة تختلط مع الناس، وتفكر مثلهم، ولا تتعالى عليهم».

ثالثا: وزعت كريستين اودونيل، مرشحة الحزب في ولاية ديلاوير، إعلانات في الصحف والتلفزيونات وفي الشوارع تقول: «أفتخر بأني لم أدرس في جامعة ييل» (ضمن مجموعة جامعات هارفارد، كولمبيا، كاليفورنيا، ستانفورد.. إلخ).

في جانب الليبراليين:

كتبت مورين دود، كاتبة عمود في صحيفة «نيويورك تايمز»، رأيا عنوانه: «صار الجهل موضة». وهي واحدة من نجوم النخبة الليبرالية الأميركية. وتظهر ليبراليتها في عنواني كتابين كتبتهما خلال السنوات الخمس الماضية: الأول هو: «عالم الرئيس بوش: كل واحد يدخله يتحمل مسؤولية دخوله»، أما الثاني فعنوانه: «هل تحتاج المرأة إلى الرجل؟ عندما يصطدم الإناث والذكور».

كتبت دود: «من قال إن النخبة يجب أن تكون خريجة جامعات علمانية مثل هارفارد، وكولمبيا، وييل؟ ومن قال إن النخبة هم أبناء وبنات النخبة؟ تخرجت أنا في جامعة دينية، الجامعة الكاثوليكية في واشنطن. وكان والدي شرطيا، ووالدتي ربة بيت لم تعمل خارج البيت قط»، وأضافت: «من قال إن الجهل فضيلة؟ حتى مارلين مونرو، الممثلة الشقراء (انتحرت قبل أربعين سنة تقريبا) كانت تقرأ كتب الفلاسفة. كانت تعرف نظرة الرجال (والنساء) نحوها، بأنها مجرد قطعة جسد. لكنها كانت تريد أن تبرهن على عكس ذلك، بل تزوجت فيلسوفا (كاتب الروايات نورمان ميلار). لكن، ها هي سارة بالين تفتخر بأنها جاهلة». هذه إشارة إلى سارة بالين، التي كانت حاكمة لولاية ألاسكا، وترشحت نائبة للسيناتور جون ماكين في انتخابات الرئاسة سنة 2008 (لكن فاز عليهما الرئيس أوباما، ونائبه بايدن). وهي تقود الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري. وبعد انتصار الجناح في الانتخابات الأخيرة، يتوقع أن تترشح لرئاسة الجمهورية ضد أوباما في الانتخابات بعد سنتين.

خلال الحملة الانتخابية، وفي لقاء شعبي في كاليفورنيا، افتخرت سارة بالين قائلة: «نعم، أرتكب أخطاء في اللغة الإنجليزية، لكن، حتى شكسبير كان يخطئ. وصارت كل كلمة خطأ استعملها جزءا من اللغة الإنجليزية»، وأضافت: «نعم، لا أتحدث لكم عن أفكار ماو تسي تونغ، وشول الينكسي، وغوته، لكنني أحدثكم عن جيسي النجار، وكارل المزارع، وماريان ست البيت».

وهناك جاكوب يسبيرغ، رئيس تحرير موقع «سليت» التابع لصحيفة «واشنطن بوست»، وهو، والموقع، والصحيفة من قلاع النخبة الليبرالية الأميركية. وإذا كانت مورين دود الكاثوليكية رمز النخبة الليبرالية الدينية، فإن يسبيرغ رمز النخبة الليبرالية العلمانية (من عائلة يهودية). كان والده محاميا، ووالدته طبيبة، وتربى في عائلة شبه أرستقراطية، ودرس في جامعة ييل، وفي جامعة أكسفورد، زوجته صحافية وعارضة أزياء وليبرالية مثله. وتوضح عناوين الكتب التي كتبها اتجاهاته، وهي كالتالي: «دفاع عن الحكومة (في مواجهة نفوذ الشركات والأغنياء)، «الفلسفة البوشية» (عن بداية عهد الرئيس السابق بوش الابن، حيث ظهر أن ليس له فلسفة)، «كارثة بوش» (عن نهاية عهد بوش، عندما أدخل أميركا والعالم في سلسلة كوارث).

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، اشترك يسبيرغ في النقاش حول النخبة الثقافية والنخبة السياسية. وكتب: «يوجد خطآن في نظرة الجناح المتطرف في الحزب الجمهوري إلى النخبة الأميركية: يقولون إن النخبة ليبرالية وعلمانية وأنثوية. لكن، يمكن أن تكون النخبة يمينية ودينية ورجالية. الخطأ الثاني: يقولون إن النخبة يجب ألا تتدخل في السياسة. وهم بناء على الخطأ الأول يقعون في الثاني». وسأل: «هل الدكتور راند بول من النخبة أو لا؟ وهل الدكتور رون بول من النخبة أو لا؟».

هذه إشارة إلى طبيب العيون، من «حزب الشاي»، الذي فاز في الانتخابات الأخيرة لعضوية الكونغرس، وإلى والده، أيضا طبيب عيون، ومحافظ (قبل ظهور «حزب الشاي»).

من أقوال الأب: «نسبة اهتمام السود بالسياسة لا تزيد على 5 في المائة». وأيضا قوله: «الرجل الأبيض في أميركا غاضب (على السود، والنساء الليبراليات، والمثليين الجنسيين). ومن أقوال الابن: «سيطرت النخبة على الثقافة والسياسة في بلدنا، ولا بد من نخبة جديدة». وشن الابن هجوما عنيفا على الرئيس أوباما، ليس فقط بسبب سياساته الليبرالية، ولكن، أيضا، لأنه يمثل «النخبة القديمة». وعرفها بأنها هي «التي تستعلي على عامة الناس». وأن لا بد من نخبة «جديدة» لا تفعل ذلك.

وفي ولاية كاليفورنيا، قالت المرشحة الجمهورية للكونغرس، كارلي فيورينا (سقطت): «الحلم الأميركي في خطر بسبب (النخبة) التي تريد سيطرة الحكومة على حياتنا. نحن نريد نخبة جديدة».

مثل هذه التصريحات توضح خطورة اليمين الأميركي، ليس فقط في السياسة الداخلية والخارجية، ولكن أيضا في المجال الثقافي. طبعا النخبة في أميركا وخارجها يمكن أن تكون يمينية أو يسارية، دينية أو علمانية، ثقافية أو سياسية، أو الاثنين معا. لكن، في ظل الإثارة السياسية والصحافية التي يقودها اليمينيون، سياسيون ومثقفون ونخبة، (بسبب المشكلة الاقتصادية، وبسبب الحرب ضد الإرهاب)، صارت كلمة «نخبة» وكأنها كلمة شريرة. ولهذا، ظهرت كلمة الـ «إليتوفوبيا» (الخوف من النخبة)، مثل «إسلاموفوبيا» (الخوف من الإسلام).

وعن هذا كتب يسبيرغ (الليبرالي): «لم ينجح الجناح المحافظ في الانتخابات الأخيرة فقط، ولكنه أيضا نجح في تغيير المناخ السياسي والثقافي. صارت كلمة (نخبوية) اتهاما أكثر منها فخرا، سلبية أكثر من أن تكون إيجابية، تخلق إحساسا بعقدة نقص نفسية».

يعتبر شارلز موراي، خبير في مركز «أميركان إنتربرايز» من النخبة الأميركية التي تميل نحو اليمين. قبل 10 سنوات تقريبا، ألف كتابا أثار ضجة، وعنوانه: «بيل كيرف» (قوس كالجرس)، وملخصه أن جينات الشخص تحدد ذكاءه، وأن جينات الذكاء وسط السود (أفريقيا) أقل منها وسط السمر (الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية)، وأن جينات الذكاء وسط هؤلاء أقل منها وسط البيض (أوروبا، الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، نيوزيلندا). في وقت لاحق، تراجع الرجل عن بعض نظريته، لكنه لم يتراجع نهائيا. ومؤخرا، كتب في صحيفة «واشنطن بوست» عن النخبة الأميركية، ما معناه أن جينات الذكاء وسطها أكثر من التي وسط بقية الأميركيين.

وانقسمت ردود الفعل إلى ثلاثة أقسام:

أولا: هذه نظرية عنصرية، وليس هناك فرق بين جينات النخبة وعامة الناس. ثانيا: هذه نظرية عنصرية، لكن يوجد فرق بين مستوى تفكير النخبة وعامة الناس. ثالثا: هذه نظرية عنصرية، ولا يوجد أي فرق بين تفكير النخبة وعامة الناس.

ما هي النخبة؟ يعرف القاموس كلمة «ايليت» (نخبة أو صفوة) بأنها «عدد قليل من الناس يسيطر على المجتمع فكريا، وثقافيا، واقتصاديا، وسياسيا، تطوعا، أو انتخابا أو اجتهادا، أو افتراضا، وفي كل الحالات، يحسدهم غيرهم».

وكتب دانيال غولدين في كتابه «ثمن الدخول: نادي النخبة.. والذين خارجه»: «يجب ألا تخدعنا عبارات نخبة هارفارد وييل وبرنستون. ليسوا مثاليين ولم يكونوا. قبل مائة سنة، ألم تكن النخبة مسؤولة عن التفرقة ضد السود، وضد النساء؟»، وأشار إلى قضاة المحكمة العليا (التي تفسر الدستور)، وقال: «هذه هي نخبة النخبة. لكنها، حتى سنة 1954، كانت ترى أن مدارس السود يجب أن تكون منفصلة عن مدارس البيض». لهذا، يمكن أن تكون «النخبة» ظالمة أو عادلة. ويمكن أن تكون علمانية أو دينية.

حسب هذا الكتاب، كلمة «ايليت» (نخبة) أصلها كلمة «اليكت» (منتخب). وهي كلمة لاتينية دينية تشير إلى قادة الكنيسة. لهذا، فإن الكردينالات في الفاتيكان هم «نخبة دينية»، انتخبتهم كنائس رئيسية في العالم، والبابا هو أكبرهم. وهناك أنواع أخرى من النخب:

أولا: عسكرية، مثل خريجي كليات الأركان بالمقارنة مع غيرهم.

ثانيا: أكاديمية، مثل حملة الدكتوراه والبروفسورات بالمقارنة مع غيرهم.

ثالثا: لغوية، مثل الذين يتحدثون لغات أجنبية (مثل الفرنسية).

وأخيرا، خلال الحملة الانتخابية، سأل بريان وليامز (نخبة ليبرالية) كبير مذيعي أخبار تلفزيون «إن بي سي»، السيناتور الجمهوري جون ماكين، ونائبته سارة بالين (نخبة يمينية): «ما هي النخبة؟».

أجابت سارة: «الذين يعتقدون أنهم أفضل من أي شخص آخر». وأجاب ماكين: «الذين يعيشون في عاصمة أمتنا، ويذهبون إلى حفلات كوكتيل في جورج تاون (حي راق في واشنطن العاصمة)، الذين يملون على الشعب ما يعتقدونه هم، لا ما يعتقد الشعب».

لكن، أليست سارة بالين وجون ماكين من هؤلاء الناس؟!