أنس الطفل الموهوب الذي صار سفير تونس الموسيقي في العالم

عندما تصبح السينما قادرة على تغيير مصائر أبطالها

الطفل الموهوب أنس الرمضاني مع والده («الشرق الأوسط»)
TT

الفيلم التونسي الوثائقي «كان يا ما كان.. في هذا الزمان» الذي جال ولا يزال في عدد من المهرجانات العربية والغربية، لا تكمن أهميته في جانبه الفني، بقدر ما هو دلالة على أن السينما بات يمكنها أن تلعب بمصائر الناس، أو أن تغير مسارهم. المخرج التونسي هشام بن عمار لفته الطفل الفذ أنس الرمضاني، الذي يعزف على الكمان بمهارة لافتة. ويبدو أن ما أثار فضوله السينمائي بشكل خاص، هي تلك العلاقة الحميمة بين أنس ووالده الذي يعزف على آلة الترومبون في فرقة الحي، دون أن يتمكن يوما من تحقيق حلمه الموسيقي الكبير، ليجد في نبوغ ولده، وسيلته لتحقيق ما فاته.

نرى في الفيلم أنس وعائلته؛ أمه مريم التي تعمل مشرفة على حضانة للأطفال، والده الذي يعزف الترومبون وله ولع شديد بالموسيقى وأختي أنس الصغيرتين اللتين تتعلمان العزف على البيانو. الفيلم كله يدور حول هذا الطفل الذي باتت تونس اليوم تفخر به، وتعرف أنه سفيرها الفني إلى العالم بعد أن عزف مع فرق كبيرة ذائعة الصيت، ونال إعجاب الكثيرين، واجتاز أصعب الامتحانات.

لم تكن قصة الطفل أنس الرمضاني قد بلغت هذا الحد عندما بدأ هشام بن عمار تصوير فيلمه عن الطفل متابعا إياه من مكان إلى آخر، وكأنما تبنى قصة العائلة بأكملها أو صار فردا منها، صادف بينما كان المخرج يصور فيلمه أن تم اختيار أنس عام 2007 للالتحاق بأكبر معهد لعزف الكمان في العالم. إنها «مدرسة يهودي منوهيم للموسيقى»، التي تهتم بتدريب المواهب الشابة من مختلف أنحاء العالم. لكن الأقساط الباهظة التي كان على العائلة تسديدها حالت دون تمكن طفلهم من الالتحاق بالمدرسة التي تحقق حلمهم وحلمه. هنا يروي هشام بن عمار لـ«الشرق الوسط»: «وجدت نفسي مرغما على وقف التصوير، للاهتمام بقضية تمويل دراسة أنس. فهذه كانت أولوية بالنسبة لنا جميعا، وإلا فإن أنس سيحرم من فرصة العمر». ويضيف بن عمار: «استطعنا بسعينا أن نؤسس صندوقا يسهم به المواطنون التونسيون وجهات أخرى لتمويل دراسة أنس». هكذا بدا وكأن السينما تتدخل لتنقذ مصائر الناس، أو كأن الحياة أجبرت هذا السينمائي على أن يتورط في قضية اجتماعية إنسانية دون علم منه. نرى في الفيلم أنس، وهو يتعلم الإنجليزية ليلتحق بمدرسته. وتتابعه الكاميرا حين يصل إلى هناك، وكذلك وهو يتدرب مع أساتذته، ثم نراه في أكثر من عاصمة يعزف مع هذه الفرقة العالمية أو تلك. متابعة حثيثة لطفل سمي «بالمعجزة» يرافقه والده، وتطارده الكاميرا. لا يفوت المخرج أن يسلط الضوء على الجانب الإنساني، وحياة الطفل بعيدا عن عائلته. ها هو يستخدم الإنترنت ليتواصل مع أهله، ليريهم صورته ويسمعهم صوته، ويبلغهم بأخباره، وهو في غربة عنهم.

في مهرجان قطر السينمائي، كما في مهرجانات أخرى، حضر المخرج ومعه والد أنس ووالدته كما أنس نفسه. جميعهم يواكبون الفيلم ويرافقونه، يلتقون الجمهور يجيبون عن الأسئلة التي تتدفق بعد العرض، وبعد أن يتعرف الحضور على موهبة أنس من خلال الفيلم، ويواكب رحلته الطويلة من أجل بلوغ أعلى المراتب في العزف الموسيقي.

أنس يبلغ من العمر 14 عاما اليوم، ويقول لنا بأنه سعيد بما أنجز، ولا يبدو أن الأسرة تشعر بصعوبة ابتعاد ابنها عنها لسنوات في لندن، من أجل الدراسة بقدر ما يملأهم إحساس بالفرح لأن أنس يتقدم ويتطور ويذيع اسمه في أوساط موسيقية عالمية.

يركز الفيلم بشكل أساسي على موهبة أنس ومساره والعلاقة الخاصة التي تربط الوالد بابنه. تربية يخضع لها أنس أشبه بتلك التي تمارسها الأسر اليابانية على أبنائها من حيث القسوة والصرامة في الحث على التعلم، والالتزام بساعات معينة للتدريب وتنمية المهارات. اللافت أن الطفل يخضع لطموحات الوالد القاسية باستسلام لا تمرد فيه أو حتى تردد.

يدرس أنس الرمضاني الموسيقى منذ كان في الخامسة من عمره وبدأ يلفت الأنظار عندما عزف عام 2004 في «مهرجان قرطاج الدولي» خلال عرض «رقصة الكمنجة»، وكان لا يزال في العاشرة من عمره. ثم شارك في مسابقة دولية عن طريق اليونيسيف أواخر عام 2005 من خلال لجنة دولية كلفت باختيار موهوب بارع يمثل القارة الأفريقية. وعام 2006 تم اختياره من قبل هذه اللجنة كأبرع عازف كمنجة في أفريقيا، وطلبت منه الاستعداد للمشاركة في الأوركسترا السيمفونية العالمية. عزف الطفل بعد ذلك في «قصر الأنفاليد» الفرنسي الشهير مع 100 من أمهر العازفين الآتين من 82 دولة. نال أنس أول جائزة في منافسة فاتيلوت رامبال في فبراير (شباط) 2007، ولا يزال يتابع دراسته الموسيقية في بريطانيا، ويسافر عند الضرورة مع الفيلم الذي يحكي قصته ويعرض في مهرجانات العالم.