«معرض بيروت للكتاب» يخوض معركة حقيقية للحفاظ على مكانة «ست الدنيا»

شبارو: مهنة النشر في خطر.. والمبيعات تنخفض 25%

«معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»
TT

أربع وخمسون شمعة احتفل بها «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» هذه السنة، مع افتتاح أبوابه يوم الجمعة الماضي. حدث سنوي صار عمره أكثر من نصف قرن، وأجواء المعرض قد توحي بأن كل شيء يسير بحسب المشتهى. لكن الحديث مع الناشرين والرواد لا يتركك بالضرورة أمام تفاؤل كبير، لا بالنسبة لوضع الكتاب في العالم العربي الذي بات أمره معروفا كي لا نقول مثيرا لليأس، ولا بالنسبة لدور بيروت ومعرضها الشهير، وهذا هو الجديد. فالسؤال المطروح على بيروت ومعها القاهرة اليوم: أي ميزة لمعرضيهما اللذين كانا قبلة المثقفين من العالم العربي كله، بعد أن صار لكل بلد عربي معرضه الكبير والفاخر، بحيث يتجاوز أحيانا حجم بعضها مع معروضاته ما تجده في معرض بيروت بمرات.. هل لا تزال بيروت مركزا ثقافيا ومطبعة العرب؟

بشار شبارو، صاحب «الدار العربية للعلوم»، يجوب المعارض العربية طوال السنة، ويعرف ما يدور في الكواليس، وهو يعترف بأن الموازين اختلت، في السنوات الأخيرة، ولم تعد لصالح بيروت والقاهرة قائلا «هاتان العاصمتان كانتا تغطيان 90% من صناعة النشر في العالم العربي، لكن لم يعد الأمر كذلك بعدما صار في كل بلد عربي مطابع ودور نشر. عدد لا بأس به من هذه الدول يبيع 50% من إنتاجه لأهل البلد، فيما نحن بالكاد نبيع 10% من كمية الكتاب المطبوع في لبنان إن لم يكن مقررا مدرسيا أو جامعيا». ومع ذلك يعتبر شبارو أن بيروت لا تزال لها ميزة أساسية تجعلها أفضل حالا من القاهرة، وهي الميزة الخدماتية، ويشرح شبارو قائلا «لبنان يتمتع بحرية لا تتوافر في أي بلد عربي آخر. وهي حرية لا تقتصر على مضمون النشر، وإنما تتعداه لتشمل الحرية التجارية وسهولة حركة البضائع والأموال». ويضيف «نحن بلد مفتوح برا وبحرا وجوا. هناك دور نشر غير عربية تفتح حسابات في لبنان لسهولة التحويل من هنا والشحن المتيسر». لكن شبارو، رغم كل التفاؤل، لا يخفي قلقه، ويقول «مهنة النشر في لبنان في وضع خطر»، كاشفا عن أن مبيعات داره، التي تعتبر إحدى أكبر دور النشر في لبنان، انخفضت بنسبة 25% عن العام الماضي، معتقدا أن السنوات المقبلة قد تكون أسوأ.. وهو رقم يستحق أن يقرع له ناقوس الاستنفار، لفهم ما يحدث.

رشا الأمير، صاحبة دار «الجديد»، تعتبر أن «الأزمة ليست لبنانية وإنما عربية.. فهناك فوضى عارمة في التعامل مع الكتاب في العالم العربي كله. العمل الجماعي مفقود، والتشبيك بين صناع الكتاب غير موجود. الكتاب العربي حين نشتريه لا نعرف هل هو في طبعته الأولى أم الخامسة، وهل طبع في دار نشر أخرى أم لا. المعرفة عملية تراكمية، ومع ذلك، فإذا أغلقت دار نشر أو أفلست تندثر مطبوعاتها وتضيع، ولا أحد يعرف أين ذهبت. إذا احتاج العربي لكتاب مطبوع من عدة سنوات لا فهرس يهديه إلى الدار التي صدر منها من خلال عنوانه أو اسم مؤلفه، ولا سبيل لمعرفة كيفية الحصول عليه». هذه الفوضى - بحسب رشا الأمير - تشمل أيضا عدم وجود أرقام للإيداع القانوني تنظم عميلة النشر في لبنان ودول عربية أخرى. وتضيف «أود أن أسأل كم عدد الذين يلتزمون بالترقيم الدولي في المنطقة العربية؟ وما أهمية أن أطبع كتابي في بيروت إذا كان القارئ لا يستطيع أن يجده في صيدا أو طرابلس؟». الأسئلة كثيرة عند رشا الأمير التي تتساءل «ما جدوى أن يأتي معرض أبوظبي بالألمان ليعطونا دروسا في كيفية التنظيم ثم لا يحدث أي شيء ملموس على الأرض؟!».

هذا غيض من فيض الشكاوى التي يمكن أن تسمعها من الناشرين، الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن اتخاذ قرارات عملية تغير واقع الحال. فالعمل الجماعي الذي يمكن أن ينظم المهنة على مستوى عربي شامل مفقود بالكامل، كما القوانين التي تحمي مهنة النشر أو حتى الكاتب من القراصنة الذين استنفدوا الورق وبدأوا إبحارهم على الإنترنت.

بشار شبارو يشرح لنا أنه يعرف تماما سبب انخفاض مبيعاته، فغالبية الكتب ذات الانتشار الواسع التي أصدرتها داره صارت مقرصنة على الإنترنت، وهو يراجع عدد التحميلات على المواقع ويرى أنه كبير للغاية. ويسأل لماذا يشتري القارئ الكتاب ويدفع ثمنه، إذا كان يستطيع أن يحمله ويقرأه مجانا؟ ولماذا الورق أصلا، فالشباب يفضلون أن يقرأوا على «آي باد» أو «آي بوك»، وهو ما سيغير مهنة النشر تماما، بل لن يكون في القريب العاجل جدا هناك لزوم للناشر أساسا، مؤكدا أن مشتريات الكتب الورقية باتت حكرا على من هم فوق سن الثلاثين، أما الشباب فلا يريدون التعاطي مع الكتب الورقية إلا القليلين منهم.. «لذلك فعلينا أن نعد سنوات قليلة لنرى المشهد كله قد تغير بشكل جذري، إذ إن النشر الإلكتروني سيكون سيد الموقف». ويضيف بشار شبارو «ومع ذلك فإن الدول العربية لا تتخذ أي إجراء بحق المقرصنين الإلكترونيين الذين صاروا يتنافسون على عدد الكتب التي يقرصنونها، كما أننا سنجد أنفسنا بعد سنوات أمام وضع جديد بالكامل غير مؤهلين للتعامل معه». على أي حال التكنولوجيا دخلت بقوة هذه السنة على خط الترويج للكتب الجديدة وحفلات التوقيع، وحفلت صفحات الـ«فيس بوك» لدور النشر بعشرات الدعوات. ومع افتتاح المعرض كان هناك توقيع لرواية وثائقية كتبها حسان الزين تحكي قصة عميد الأسرى اللبنانيين المحررين من السجون الإسرائيلية، سمير القنطار، الذي قضى ثلاثين عاما من عمره في السجون الإسرائيلية. وكرت سبحة حفلات التواقيع التي تجعل من مساء المعرض ملتقى القراء والمثقفين، وتجعل الروح تدب في أرجاء مركز «بيال» للمعارض.. وهو أمر ترى فيه رشا الأمير عيدا لالتقاط الصور التذكارية، ولاحتفال الناس ببعضهم بعضا. فهذا الجانب الاجتماعي الذي يعتمد على أسماء بعض النجوم هو وحده ما يمكن أن يؤمن للدور بعض المداخيل، وبعدها سيذهب كل في حال سبيله وتبقى مشكلات الكتاب الجوهرية قائمة على ما هي عليه.

أحد رواد المعرض يعترض على عدم وجود الدور العربية بكثافة، فالكتب المغاربية غائبة أو ما أشبه، والدور المصرية قليلة، ويسأل «هل هذا معرض للكتاب اللبناني بشكل أساسي؟ وإذا كان الأمر كذلك فما قيمة المعرض أساسا؟». وثمة من يوجه انتقادات للأنشطة المصاحبة للمعرض التي تركز هذه السنة على القضية الفلسطينية، على اعتبار أن الجهة المنظمة وهي «النادي الثقافي العربي» لا تقوم بالجهد الكافي لتقديم برنامج جذاب وحيوي يستقطب جمهورا عريضا.

يجيب بشار شبارو بأن «النادي الثقافي العربي يقوم مشكورا بما يستطيعه، وعلينا أن نتفهم صعوبة الأوضاع، ولولا إرادتهم القوية لما كانوا صامدين»، شارحا أن التصريحات السياسية النارية التي يطلقها السياسيون على الفضائيات كل يوم تخيف الناس من القدوم إلى لبنان، وثمة بالفعل حجوزات ألغيت، والبعض الآخر بقي يتردد حتى اللحظة الأخيرة.. لبنان (بحسب رأيه) «لا يستطيع أن يبقى في هذه الظروف الاستثنائية، وثمة الكثير مما يجب فعله. وبدل أن تعنى الدولة بأحوال الناس وتلتفت لمهنة النشر، رفعت سعر البريد بما يقارب 100%، مما يعني أن أي نقل للكتب عبر البريد بات يرتب أعباء إضافية على الناشر». لكن إذا كان النشر في لبنان يعاني كل هذه الأزمات الجسام، فلماذا لم ينظم الناشرون اللبنانيون أنفسهم لقاء موسعا خلال المعرض يتباحثون فيه بمشكلاتهم ويسعون لإيجاد حلول لها، إن لجهة فرملة القرصنة الإلكترونية بالتعاون مع الجهات الرسمية العربية أو لجهة مناقشة بقية القضايا المتعلقة بفوضى الكتاب؟ أسئلة لا إجابات شافية عنها، لكن شبارو يؤكد أن النادي الثقافي العربي (مثل الناشرين اللبنانيين) بات يخوض معركة حقيقية، خلال معرض الكتاب، من أجل الحفاظ على ما تبقى من تميز لدور بيروت.