رحلة البحث عن الذات المضيعة

تكنيك البوح للكاميرا في «أسرار وأكاذيب» لغالية قباني

الكتاب: «أسرار وأكاذيب» رواية الكاتبة: غالية قباني الناشر: «رياض الريس» للنشر 2010
TT

تبني غالية قباني روايتها الجديدة «أسرار وأكاذيب» في عدة خطوط، أبرزها، أو الحامل الأساسي لها: الخط التقني الذي ينهض على البوح الداخلي شبه الصامت الذي تعيد بطلة الرواية من خلاله سرد سيرة حياتها، أو سرد الوقائع الفاصلة في سيرة الحياة التي لا تبدأ من أي مكان سابق محدد، بل من عدة أمكنة وأزمنة حاضرة وماضية، أو من اللحظة التي تزوجت فيها أحد السوريين الذين يعيشون في لندن، وهي المدينة التي اختارت أن تهاجر إليها، واسمه بسام، بسام ميداني، من دون أن تقدم لنا تفاصيل كثيرة من دفتر أحواله الشخصية، وهو ما لا يؤثر على النص بأي حال، ذلك أن بسام موجود من الكاميرا التي وضعها في مكان محدد من البيت، وأباح لانتصار الشماع، وهي الراوية، أن تسرد قصة حياتها أمام الآلة الصامتة.

لقد ظنت انتصار أن الهجرة يمكن أن تمثل انقطاعا بين الكائن والمكان، أو بين الكائن والبشر الذين يهرب منهم، بين الكائن والذكريات، أو أن المنفى نوع من الانشقاق تنحو الذات الجريحة من خلاله إلى الانفصال عن الكيان الذي يدمر شخصيتها، غير أن المنفى لا يؤكد حضور الماضي والحاضر، أكثر مما يساعد على تبديده، أو محوه، فانتصار تستعيد ما هربت منه، لا من أجل الاحتماء به بالطبع، وإنما من أجل تنقيته، وتخليصه من التزوير والكذب، وهو ما أرى أنه المنحى الأهم في هوية بطلة الرواية التي سوف تؤكد هذا في الفصل الأخير من الرواية، حين تشير إلى أن البوح للكاميرا كان علاجا، أدى إلى تحررها من شرنقة الكذب، وعودتها إلى بسام شفافة وعذراء الروح والقلب. ثم حين تسأل بسام فيما إذا ما زال يريد لابنه أن يكون له بعض ملامحه الشامية. وقد يمكن القول إن المنفى ساعد البطلة على إعادة اكتشاف ذاتها الضائعة بين الهويات المزورة التي أرادت أن تمحو شخصيتها الحقيقية.

تبدأ الرواية من اللحظة التي وافقت فيها انتصار الشماع على البوح للكاميرا المنزلية التي وضعها بسام في البيت من أجل أن يترك لانتصار حرية الحركة والكلام معا.. فالبوح للكاميرا - خاصة أنها كاميرا فيديو ترى المكان الداخلي البعيد عن المراقبة - مكن انتصار الشماع من الإعلان عن نفسها وعن الآخرين في أكثر من مستوى، أبرزها إظهار فلسفتها عن الحياة التي تنحو إلى معارضة فلسفة أمها تماما. وقدرتها على كشف الأسرار، التي منعت من تداولها، أو فضح الأكاذيب التي أثقلت كاهلها.

في الإعلان الأول، نعرف أنها تنتمي إلى كنية الشماع بأدلة مستمدة من تاريخ العائلة، حين رضي واحد من آل الشماع، وهي عائلة الأم، أن ينسب (انتصار) إليه، بعد رفض أسرة اللواء زياد الرفاعي، وهو الأب الحقيقي، الذي تطابق جيناته جينات انتصار، حسب أقوالها، قبول البنت في سجل العائلة، بعد موت الأب، الذي تزوج ألفة الشماع، أم انتصار، في السر. من هنا يمكن أن نرى أن الرواية رحلة داخلية للبحث عن الهوية، خاصة أن الانتماء الثالث لانتصار الشماع، بعد زواج أمها من العميد رسلان، عمد أيضا إلى تبديد هويتها. وهكذا فإن الزمن الذي مضى من عمر انتصار، كان زمن ضياع الهوية، الأفضل أن نقول إنه زمن تضييع هويتها، عبر إرغامها على الانتماء إلى هويات محددة، أو عبر إلغاء هويتها الشخصية والفكرية والسياسية، تحت طائلة التهديد، وقد نفذ التهديد دائما، البقاء على الهامش، على هامش التاريخ والمجتمع، إنه نوع من العقاب غير المعلن الذي يطال الأفراد الرافضين للتكيف، والرضوخ للأمر الواقع، ولهذا يبدو التعبير الروائي، أو سرد السيرة الحياتية، وكأنه نوع من استعادة الشخصية، نوع من الحضور المفارق للواقع المفروض، أو هو المشاركة الحقيقية في استعادة الذات المضيعة في الهويات المزورة أو المرفوضة، وقد استطاعت بالفعل أن تعيد خلق ذاتها من رماد الحكاية، وإذا كان الفعل الاجتماعي، لا يزال غير متوافر، بسبب بعدها الجغرافي عن أرض الوطن، فإن بوسعها أن تستعيض عن ذلك باللجوء إلى الحقائق الجديدة في حياتها، كالحمل مثلا، الذي سوف تغنيه رمزيا بأمنيتها أن يحمل المولود ملامح أبيه الشامية. إضافة إلى أن تلك الأمنية تثري النص بالحنين الذي افتقده أثناء السرد المتتالي لسيرة الحياة المليئة بالخسائر. تتمكن غالية قباني، بفضل التقنيات التي اختارت أن تكتب نصها بها، من اللعب بالزمن، فإذا كانت الرواية سيرة الشخصية، فإن حضور المنفى بما فيه من اختلافات جوهرية عن الماضي يتيح لها أمرين، الأول: إظهار الفارق الجوهري بين الخيارات المتاحة للفرد، والثاني: كسر الرتابة المحتملة في السرد الاستعادي. أشير أيضا إلى تقنية الأشرطة التي منحت الكتابة جواز مرور إلى المباشرة من دون أن تبدو تقريرية أو خطابية. تقنية الأشرطة قربت الرواية من أن تكون مشروعا سينمائيا، وهذا ما أباح لها ألا تقترب من العوالم الداخلية للشخصيات، إلا عبر بوح أو شهادة انتصار الشماع، ومع ذلك فإننا، كما في السينما، نتمكن من التعرف على بسام وكندة وويتني وألفة وواسيني والعميد رسلان الغائب وناصر وتميم بواسطة المشاهد.

تنتزع الرواية من ألفة الشماع أمومتها الحقيقة، أي ما تعنيه الأم من النواحي الإنسانية والأخلاقية والتربوية. يتأكد هذا الأمر في الفصل الأخير حين ترفض انتصار الشماع أن تفصح عن مشاعرها تجاه ألفة، على الرغم من أن الأخيرة تبدت في أقصى حالات الضعف والهشاشة. فما بين انتصار وألفة هوة لا يمكن ردمها بالمشاعر؛ إذ عملت ألفة، طوال الزمن الفائت، على تحطيم أو تدمير المشترك والحميم والمتشابه بينهما، وإذا عممنا النموذج هنا فقد يقال إن ألفة وأمثالها يمثلن، أو يمثلون، نماذج من أبناء المرحلة الذين اضطروا للتأقلم معها بسبب ضرورات العيش، وهي فكرة قدرية تعفي البشر من المسؤولية عن اختياراتهم. ليست الأم هنا رمزا بأي حال، وإنما هي علاقة بيولوجية بين فردين، وبالتالي فإن ألفة الشماع لا تشبه الأمهات، ولكن الأم تستطيع أن تتحول إلى رمز أيضا، حين قد نتحدث عن أن أمنا باعت نفسها من أجل المكاسب اليومية، أو من أجل العابر الذي لا يشبهها، أو تستطيع أن تكون نموذجا، أو نمطا يكرر نماذج الآلاف من النساء، والرجال الذين انحازوا إلى السلطة من أجل تلك المكاسب.

تعمل العناوين عمل الكشاف، أو العامل المساعد الذي يسهم في إلقاء الضوء على ما لم يقله السرد، وبفضل التقنية السينمائية التي تقدم الصور، أرى أن بالوسع توظيفها في عمليات المونتاج. أفكر الآن أننا أمام معالجة أدبية لمشروع سينمائي، أي أن الرواية كسرت الحاجز بين الحقلين واستفادت من تقنياتهما معا من أجل خدمة غرضها في القول، بحيث أنتجت لنا نصا أدبيا، وظفت فيه إنجازات السينما بامتياز.