مواقف في شأن النهضة العربية

«ضد التوفيقية» لمحمد كامل الخطيب

TT

ينبني هذا الكتاب على مقولتين وضعهما محمد كامل الخطيب، من بين بضع مقبوسات في البداية، هما لكل من الشاعر وليم بليك، والكاتب محمد كرد علي، تقول الأولى: «لا تقدم من دون الأضداد» وتقول الثانية: «لا قيام لأمرنا بغير الأخذ من مدنية أوروبا». وفيه يحاول المؤلف أن يعرض، وينقد في الحقيقة، واحدا من التيارات الفكرية العربية، هو تيار أو مدرسة التوفيق والوسطية، كما يسعى إلى عرض تيار آخر وقف ضد التوفيقية، وسمي بتيار أو مدرسة التحرر الكامل، التي حاولت أن تؤكد على مقولات الحداثة والجديد، العقلانية، ضد الغيبية والصوفية والعرفانية، أي ضد التفكير الغيبي والنقلي عامة. أما الأساس الفكري الذي ينهض عليه هذا الكتاب، فهو دراسة الخطاب العربي الحديث، في موضوع العلاقة مع الغرب، كما أنه الكتاب يضمن الإشارة إلى تيار ثالث، هو الاتجاه السلفي الذي يرفض التوفيقية، مثلما يرفض أيضا اتجاه مدرسة التحرر الكامل.

ما هي التوفيقية أولا؟ إنها المسعى الفلسفي للتوفيق بين الدين والفلسفة، وقد تطور في العصر الحديث، وفي الفكر العربي المعاصر للتوفيق بين العقل والقلب، العلم والإيمان، المادية والروحية، وقد سماها أنطون سعادة «المدرحية»، الاشتراكية والعدالة، الشورى والديمقراطية، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، التراث والثورة، وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين برز مسعى جديد للتوفيق بين الشرق والغرب، وقد لاقى هذا الاتجاه قبولا لافتا، وشكل مناخا فكريا شبه شامل، وانعكس في الحركات والتيارات السياسية، مثل البعث والناصرية، والقوميين العرب، والقوميين السوريين.

يعلن فرنسيس المراش منذ القرن التاسع عشر انحيازه الكامل إلى المدنية الغربية، ويدعو إلى الأخذ بهذه المدنية لأنها تمكنت من جعل العقل في أولويات الأسس التي قامت عليها، وقبل المراش دعا الدكتور شبلي الشميل إلى الأخذ بنظرية التطور، بالتزامن مع انتشارها في أوروبا، وعمل على محاولة إثبات أن المرأة لا تختلف عن الرجل إلا تشريحيا، وانحاز إلى الاشتراكية، ودعا إليها.

كما يدعو سلامة موسى إلى السير على منهج التقدم الذي سارت عليه أوروبا فتمكنت من سبق العالم، مثلما يدعو إلى التخلي عن الشرق القديم وقيمه ونمط حياته وآليات مجتمعه، دون أن يكون منبهرا به، بل بالعكس، لم يكن غافلا عن تناقضات المثال الأوروبي في النهضة.

لكن لماذا يختار سلامة موسى أوروبا دون غيرها، على الرغم من أنها أنتجت الاستعمار إلى جانب الحضارة؟ الجواب الذي يرتئيه الكتاب، هو أنه لم يكن في العالم كله مثال متحقق في الواقع سوى المثال الأوروبي.

ولهذا وجدنا سلامة موسى يدعو إلى السير على منهج التقدم الذي سارت عليه أوروبا. يمكن الإشارة هنا إلى شكيب أرسلان الذي وضع كتابا بعنوان «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» ومن الواضح أن المعني بغير المسلمين هنا، إنما هي أوروبا. وقد أجاب عن سؤاله بالقول: إنما ينهض المسلمون بما نهض به غيرهم، وليس في هذا أي هدم للشخصية والعقيدة التاريخية، كما يشير أرسلان، إنما هو «إعادة بناء» حسب مقتضيات الزمن والمستجدات. وكان عبد الله النديم من قبله، قد كتب: «بم تقدموا وتأخرنا والخلق واحد» منطلقا من المثال الأوروبي أيضا، وداعيا إلى النهضة. بل إن كلمة النهضة التي استخدمت لأول مرة في ثمانينات القرن التاسع عشر، في مجلة «المقتطف»، كانت تعني الإجراءات والمشاريع ذات الطابع الأوروبي التي قام بها محمد علي وخلفاؤه في مصر، وخصوصا في مجال التعليم والصناعة والجيش. ومن المعروف أن هذا الموضوع هو النقطة المركزية في كتاب طه حسين: «مستقبل الثقافة في مصر». ولكن إذا كان مشروع النهضة الأوروبي عالميا، فإن تجاوز النهضة الأوروبية هو مشروع عالمي أيضا.

النموذج الآخر الذي يختاره الخطيب ممثلا لمدرسة التحرر الكامل، التي وقفت ضد التوفيقية، هو إسماعيل أدهم، وقد عاش إسماعيل أدهم حياة قصيرة، 1911- 1940، كتب خلالها في معظم المجلات التي كانت تصدر آنئذ، مثل الحديث والعصور والجديد والدهور والثقافة والرسالة والطليعة، وأصدر كتابا هاما عنوانه: «من مصادر التاريخ الإسلامي». كان إسماعيل أدهم أحد أبرز ممثلي مدرسة التحرر، وقد خاض العديد من النقاشات حول أفكاره، منها نقاشه مع فليكس فارس، كان فارس من أنصار القول بأن العقل للغرب والقلب للشرق بينما كان إسماعيل أدهم يرى أن هناك تضافرا ما بين العلم والرؤية الفكرية والثقافية والأخلاقية في التطور التاريخي والاجتماعي للإنسان.