ناقد مصري يحلل «الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية» في كتاب جديد بالقاهرة

لجأوا إليه هربا من الرقابة وللعيش من عائد إبداعاتهم

غلاف كتاب «الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية»
TT

يرصد الكاتب والناقد الأدبي محمود قاسم في كتابه المهم «الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية» مظاهر هذا الأدب وتجلياته على مستوى الرؤى والأفكار، ويناقش علاقته بواقع لغته الأم، ودوافع تخليه عنها واللجوء إلى لغة أخرى للتعبير عن قضاياه وهمومه.

في تقديمه للكتاب يقول قاسم إنه من الصادم كثرة عناوين الكتب الفرنسية التي تناولت الثقافة العربية المكتوبة باللغة الفرنسية، بينما تخلو المكتبة العربية من كتاب واحد يتناول هذا الموضوع في كل الوطن العربي وليس حسب منطقة دون أخرى.

ويضيف أن هؤلاء الكتاب ظُلموا كثيرا في أوطانهم، ولهذا الظلم جوانب كثيرة، منها مقياس حركة الترجمة المتدني، ومنها أيضا النظر إليهم بريبة، كأن هذا الكاتب عميل لدى المستعمر ما دام اتخذ لنفسه لغته ليكتب بها، وأنه ينقل في كتاباته سلبيات المجتمع الذي جاء منه، ويقدم صورة سلبية عنه بنقله أجواء الحارات والأزقة في الأحياء الفقيرة في الوطن العربي، رغم أن هؤلاء أعجبوا بنفس الأجواء في أدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وآخرين.

يصر قاسم على وصف الأدب المكتوب باللغة الفرنسية من كُتّاب عرب، بالأدب العربي، فلم ينحصر همّ الكاتب العربي الذي يكتب بهذه اللغة في الانبهار فقط بالثقافة الأوروبية، بل كان همه الأول هو البيئة العربية بثقافتها القديمة والحديثة. فهو دائما أسير هذا المكان الذي عاش فيه أغلب سنوات طفولته وشبابه، لا يستطيع أن ينزع نفسه منه. وأغلب هؤلاء عرفوا لحظات الإبداع الأولي في بلادهم قبل أن يفكروا في الرحيل إلى أوروبا، بل إن الكثيرين منهم نشروا كتاباتهم الأولى في بلادهم قبل أن يفكروا في الرحيل إلى فرنسا.

وعندما تم الرحيل، وهو غالبا رحيل اختياري، فإن الكاتب ظل ملتصقا بوطنه، ليس فقط من خلال احتفاظه بجنسية الدولة العربية التي جاء منها، بل أيضا في ارتباطه بالأرض النبع. وقد تكون هناك حالات استثنائية غيرت في إبداعاتها الأدبية مثلما حدث مع جويس منصور مثلا، لكن هذه الشاعرة المصرية كانت منذ بدايتها سريالية الاتجاه، حاولت في كل أعمالها تجريد المكان من مدلولاته ورموزه.

ويوضح قاسم أنه كثيرا ما تدفع الهجرة أو المنفى الاختياري الكاتب إلى أن يرتبط أكثر بجذوره التي جاء منها، وبعض هذا الأدب يتحدث عن التباين الذي اكتشفه الكاتب في هذا المجتمع الذي يعامله على أنه عربي أو مواطن من الدرجة الثانية، ولا يسعى الكاتب لنفي هذه الهوية بل يؤكدها، فهو في كلا الجانبين يعتبر غريبا وأجنبيا.

أما عن السمات العامة للأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية، فيرى المؤلف أن هذا الأدب ارتبط في المقام الأول بوجود قوات احتلال فرنسية في بعض البلاد العربية، وقد تنبه الفرنسيون إلى أن اللغة باعتبارها المنطوق الأساسي للبشر يمكن أن تزيد من انتماء المتحدث بها إلى ثقافة هذه الدولة.

ولذا فإن الأدباء العرب الأوائل الذين كتبوا بالفرنسية لم يجدوا أي غرابة في أن تكون كتاباتهم باللغة الفرنسية، مثل كاتب ياسين، ليس لأن الفرنسية هي لغتهم الأولى فقط، بل لأن علاقتهم باللغة العربية كانت واهية ضعيفة وصعبة، ووجد الكثير منهم أنفسهم يمتلكون ناصية اللغة الفرنسية أكثر من غيرها، وأن الكتابة باللغة الفرنسية أفضل لعدة أسباب، منها أن الكاتب يمكن أن يتعيش طيلة حياته من عائد كتاب واحد لو تم نشره في إحدى دور النشر الفرنسية، بينما عائدات الكتب الصادرة في العالم العربي هزيلة للغاية، ومن هذه الأسباب أيضا كثرة المحظورات الرقابية في الوطن العربي أمام الكاتب وانكماش حركة النشر والقراءة، بينما ازدهرت هذه الأمور بشكل كبير في فرنسا.

ويضيف المؤلف أن من سمات هذا الأدب أيضا أنه مرتبط في الغالب بالمهجر، على غرار حركة الهجرة الأولى للكتاب في بداية القرن العشرين التي اتجهت نحو أميركا اللاتينية، وقد شهدت هذه الحركة ازدهارا ملحوظا في الأدب العربي المكتوب خارج حدود الوطن، حيث ظل الأدباء لفترة لا يكتبون إلا باللغة العربية قبل أن يذوبوا وأولادهم وأحفادهم في هذه البلاد.

أما حركة الهجرة الثانية فقد جاءت من شمال المغرب إلى فرنسا، وقد ازدادت بشكل ملحوظ عقب استقلال بلاد المغرب العربي، ووصلت حركة الهجرة إلى أعلى معدلاتها في نهاية الستينات، ويبدو أن القادمين من شمال أفريقيا قد أرادوا أن يردوا الدين لفرنسا فسعوا لاستعمارها مثلما استعمرتهم.

لكن لماذا استخدم بعض الكتاب المصريين اللغة الفرنسية كلغة كتابة رغم أن فرنسا لم تحتل مصر مثلما فعلت في الجزائر، بل كان الاحتلال الإنجليزي هو الأطول، واستمر حتى سبعين عاما؟ ويرجح الكثير من المحللين أن هناك أسبابا كثيرة، منها أن محمد علي توجه إلى فرنسا من خلال مشروعه الحضاري وليس إلى إنجلترا، وكان عليه أن يعمل على تعليم المصريين اللغة الفرنسية، فالخبراء الفرنسيون يريدون أن يتحاوروا مع من يعرف لغتهم، وبذلك كثرت الجاليات الأجنبية في مصر، وأصبحت لهم مدارسهم أيضا التي ارتادها أيضا المصريون الذين يبحثون عن تعليم أفضل لأولادهم.

ورغم أن الحملة الفرنسية تركت في قلوب المصريين كثيرا من المرارة فإن الحملة تركت وراءها كثيرا من الأشياء التي لا يمكن تجاهلها مثل آلات الطباعة ومركز أبحاث ومعهد دراسات.

يعد الشاعر يوسف يعقوب أول عربي يكتب بالفرنسية، وهو مصري من أصل أرمني، مولود بمصر عام 1795، وأول ديوان له بالفرنسية كان اسمه «في مدح مصر»، وقد اشترك في وضع الكتاب الشهير «وصف مصر». كذلك يعقوب آرتين باشا، وهو مصري من أصل أرمني أيضا، ويعتبر أول من دون الحكاية الشعبية وكتبها. والباحثون في الثقافة العربية الناطقة بالفرنسية يرون أن يعقوب آرتين هو باعث الفلكلور المصري.

الغريب - كما يشير المؤلف - أن أحدا لم يذكر اسم يعقوب آرتين في أبحاثه عن أصول الحكايات الشعبية، وبدا أن الكاتب تاهت أعماله لأنها مكتوبة بالفرنسية.

وكشف الكتاب - الصادر حديثا عن وزارة الثقافة المصرية - عن عدد من الكتاب المصريين المنسيين والمهمشين الذين يكتبون بالفرنسية، منهم «نية سليمة» التي أسلمت وعاشت بمصر، والكاتب يوسف بطرس غالي، وألبير عدس، وقوت القلوب الدمرداشية، ونيللي زنانيري، وفوزية أسعد، وجان مسقطلي.

وتناول الفصل الثالث الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية، وجاء فيه أن ظهور أدباء يكتبون بالفرنسية قد بدأ في لبنان قبل المغرب، فإذا كان الجيل الأول من الكتاب الجزائريين العرب الذين يكتبون بالفرنسية قد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، فإن مسرحية «عنتر» التي كتبها شكري غانم قد سبقت مثيلتها في المغرب العربي، وقد حققت نجاحا كبيرا عند عرضها في فرنسا.

وركز المؤلف على نماذج مختلفة من أجيال متلاحقة، منهم جورج شحاتة، ثم الروائي صلاح ستيتة، وفرج الله حايك، وأمين معلوف.

وعلى العكس من ذلك، يوضح المؤلف أن تجربة الكاتب الفلسطيني الذي يعيش في الشتات مختلفة، فهو لم يشأ أن يغير لغته التي تربطه بالوطن الأم، مثل الروائي أفنان القاسم، وإبراهيم الصوص وهو دبلوماسي فلسطيني عمل سكرتيرا عاما لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس طوال سنوات.. أيضا إلياس صنبار المولود في حيفا، وهو يعيش في باريس كمنفى غير محتمل بالنسبة له، وقد حمل فلسطين بداخله أينما ذهب، وكذلك ليلى نابلسي.

وبالنسبة للجزائر يوضح المؤلف أن الحرب العالمية الثانية ولدت في الجزائر حياة أكثر انفتاحا، وقبل أن تنتهي سنوات الأربعينات بدأت الأسماء الجزائرية الحقيقية، ولأول مرة يظهر تعبير الأدب العربي المكتوب بالفرنسية. وكان تعامل الاستعمار مع اللغة العربية في أضيق الحدود، وهكذا وجد الجيل الأول من الأدباء أنفسهم أمام اختيار واحد هو الكتابة بالفرنسية. ومن أبناء هذا الجيل هناك جان حمروش، ومولود معمري ومولود فرعون، ونبيل فارس وهم جميعا من البربر.

أما الأدباء الذين تعد العربية لغتهم الأصلية، فهناك مالك حداد، ومحمد ديب، وكاتب ياسين.. وكذلك رشيد بوجدرة، وآسيا جبار، ورشيد ميموني، والطاهر جاعوت، وغيرهم. ويشير المؤلف إلى أن الكاتبين المغربيين أحمد سفريوي وإدريس شرايبي استطاعا أن يفتتحا الإبداع المغربي المعاصر بالفرنسية في عام 1954 بروايتين شهيرتين هما «علبة العجائب» و«الماضي البسيط». لكن الحضور الفرنسي في الجزائر كان أشد.

يختلف الأمر في تونس.. فلم تكتسح اللغة الفرنسية العربية كما حدث في الجزائر، وكان الأدباء في تونس يفضلون استخدام العربية، حتى الكاتب اليهودي ألبير ميمي فإن لغته العربية كانت متميزة أكثر، لكن في نهاية الستينات تغيرت الموازين، ووجد الأدباء أن فرص النشر في فرنسا أفضل.