الكاريكاتير.. من صفحات الجرائد إلى الوسائد والستائر

علي فرزات: الإبداع نصفه فكر ونصفه نشر

علي فرزات في أحد معارضه (أ.ف.ب)
TT

فن الكاريكاتير لم يعد حبيس الصحف والورق. الفنان المعروف علي فرزات وجد الحل بعد أن كُتم صوته وأغلقت صحيفته، فقد باتت رسومه الكاريكاتيرية في كل مكان، تجدها مطبوعة على الفناجين والإكسسوارات النسائية والمحارم، كما أنها زينة للوسائد والستائر، ومختلف أنواع الهدايا. الفنان يجب أن يصل إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس، وإخراج الرسوم من حيزها التقليدي الضيق وجعلها متوفرة على حاجياتك اليومية أفضل السبل لتحرير الفنان.

عندما تدخل إلى صالة «علي فرزات» في حي الصالحية وسط دمشق، سيطالعك فنان الكاريكاتير الشهير بضحكته ذاتها الممزوجة بالود والسخرية معا. ومن الصعب أن تراه دون أن يثير في داخلك، في كل مرة هذه المشاعر، خاصة أنك تعيد التأمل في شخوص رسمها من وحي الواقع العربي. وإن كان ينفي أنه يرتد للوراء، قائلا باستهزاء: «نحن لا نعود للوراء لأنه لو كان هذا صحيحا لوصلنا إلى أوغاريت (عاصمة الفينيقيين مهد أول أبجدية في التاريخ) إننا ننزلق إلى الدرك الأسفل في الحضيض».

شخصيات علي فرزات ما زالت مثابرة على الحضور في أعماله الجديدة؛ فالواقع البائس هو ذاته لم يتغير. والمواطن العربي ما زال نحيلا من الجوع ولحيته طويلة، والمسؤول العربي بدينا ضخم الجثة متمترسا وراء نظارته السوداء، مدججا بخواتم ذهبية وملابس فخمة، ويمج سيجاره بتعجرف. ورجل الاستخبارات يتدلى من ملابسه مسدس وينظر في كل الاتجاهات. من خلال هذه الشخصيات وضع فرزات معادلة التحايل على الرقابة للوصول إلى القارئ: «أنا والقارئ نفهم بعضنا جيدا». ولأنه يعتقد بهذا انهمك قبل عشر سنوات مع فريق عمل صحافي في رسم هوية أول جريدة سورية خاصة ساخرة تعتمد على الكاريكاتير بعد أربعة عقود على منع الصحافة الخاصة. كان ذلك حلما انتظره السوريون بلهفة وشوق كبيرين، ومن المؤسف أن جريدة «الدومري» لم تتمكن من الصمود، وجرى إيقافها بقرار من السلطات السورية، بعد عامين على ولادتها، ليجد فرزات نفسه يبحث من جديد عن وسائل تمكنه من إيصال رسومه إلى أعرض شريحة ممكنة من الناس، لأن الإبداع في رأيه «نصفه فكر ونصفه نشر»، مع أنه لم يتوقف عن العمل، واستمر بالنشر في الصحافة العربية والعالمية، وانخرط في مشاريع كثيرة مع مؤسسات ثقافية وإعلامية غربية، حيث أنتج للمركز الثقافي البريطاني تسعة أفلام من الرسوم المتحركة، تتناول مواضيع اجتماعية، مثل حقوق المرأة والطفل والبطالة... إلخ.

عرضت هذه النتاجات في مختلف أنحاء العالم، كما اعتبره مهرجان «مورج» في سويسرا من بين أفضل خمسة رسامين في العالم، وسبق لفرزات أن نال كثيرا من الجوائز العالمية، منها جائزة الأمير كلاوس الهولندية عام 2002، ومؤخرا صدر له كتاب «قلم من الفولاذ الدمشقي» عن دار النشر العالمية «Cune»، ضمّ أكثر من 350 لوحة من أعماله. كل هذا الحضور العربي والعالمي لم يُغنه عن التواصل المباشر مع الجمهور الذي يتيحه النشر الصحافي.

أخيرا يبدو أنه اهتدى إلى وسائل جديدة مبتكرة ورائدة في العالم العربي، بعدما حول مكتبه إلى صالة عرض تُعنى بفن الكاريكاتير، وطباعة رسوماته الساخرة على هدايا تذكارية، عبارة عن لوحات قماشية وأوشحة ووسائد وستائر مفارش طاولات وفناجين قهوة وعلب زينة وإكسسوارات نسائية؛ أساور وأقراط، وفناجين، بالإضافة إلى تحويل بعض الأعمال إلى تماثيل وروليفات من الجص أو مواد أخرى.

وتتنوع الرسوم بين الكاريكاتير الساخر ورسوم الغرافيك لصور أماكن أو أشخاص لها نكهة تراثية. معظم هذه الأعمال رسمها فرزات بعد أن تعطلت «الدومري»، وصار زبونا مواظبا على ارتياد مقهى البرازيل في فندق الشام، حيث كان يجلس لساعات يرسم ما يخطر بباله على محارم المائدة (المناديل الورقية) بقلم حبر (فلوماستر) عريض، من الصعب جدا استعماله على ورق المحارم الهش، لتفشي الحبر على شكل بقع، مما يتطلب رشاقة ودقة في الرسم السريع لا يمكن فيه العودة عن الخطأ.

رسوم جاءت في الوقت الضائع لكنها لم تذهب سدى، إذ كانت مجالا للتجريب واكتشاف عفوية قلم الحبر الأسود على المحارم البيضاء: «المادة التي أرسم عليها تخلق لدي إحساسا بالخط؛ فالورق يعطي خطا متجانسا، بينما المحرمة تعطي نقاطا متفشية تفلت بعفوية تُظهر مهارة الفنان في ضبط هذا الإحساس».

رسم فرزات عشرات الاسكتشات بقياس 10 × 10 سم على المحارم، لتغدو اليوم مخزونا غنيا للطباعة على القماش والأواني، تتوالد منها عشرات الأعمال بأحاسيس مختلفة: «عندما كبّرت هذه الرسوم بدت مثل اكتشاف حالة فنية أثرية بعيدة عن تكلف الصنعة، تلقائية في عفويتها سجلت الحالة التي كنت أعيشها من دون رتوش، أو أي تدخل لتعديلها وتشذيبها».

أجاد فرزات استثمار الرسوم الصغيرة وأعاد تشكيلها على مفارش كبيرة ولوحات قماشية بتأثيرات أقرب إلى الزنكوغراف، فمن لوحة لفلاحات على ضفاف نهر الفرات إلى راقصة يحيط بها عازفو التخت الشرقي، وليس انتهاء بأشكال زخرفية تحاكي الفنون السورية القديمة. أشياء وأشكال احتلت كافة أرجاء الصالة إلى جانب اللوحات الأصلية، لاقت استحسانا كبيرا من الجمهور الذي حضر بكثافة لافتتاح الصالة الشهر الماضي، وشجع النجاح الذي حققه فرزات على نقل المعرض إلى مدينة حمص الأسبوع الماضي.. وحظي بطلبات كثيرة لإرسال المزيد وطلبات أخرى لطباعة الرسوم على قمصان قطنية، وهدايا خاصة مع اقتراب موسم الأعياد.

«الأفكار» هي ما أعجب الجمهور وليس الأشياء، فيقول: «الطلب كان بالدرجة الأولى على اللوحات القماشية، ومن ثم الفناجين، وبالدرجة الثالثة الإكسسوارات النسائية، ولاحظت أن الرسوم التي تحمل أفكارا تتعلق بقضايا وهموم اجتماعية إنسانية هي المفضلة لدى غالبية زوار المعرض، وكذلك الأعمال التي تحتمل التأويل بمنحى إنساني عام أو سياسي».

«المشروع ما زال في بدايته» يقول علي فرزات لـ«الشرق الأوسط»، «ويعتمد على تقريب الفن من حياة الناس قدر الإمكان، ويجعل الأشياء تحمل فنا فيه فكر وليس فقط شكلا جماليا، ومن خلال طريقة عرض مبتكرة».

علي فرزات مهموم بإيصال أفكاره وفنه إلى الناس، لإيمانه العميق بأن «الشخص الذي يتعامل مع الفن والإبداع مهمته إيصال رسالة هي أمانة أودعت لديه عبر الموهبة»، وقد وجد في طباعة أعماله على الهدايا والأشياء المنزلية وسيلة فاعلة. فالهدف من المشروع: «إدخال لوحتي إلى جزئيات حياة الناس من خلال طباعتها على الأشياء التي يستخدمونها في بيوتهم وحياتهم، مما يحول البيت وأشياءه إلى حامل للأفكار والمضامين وليس فقط للزينة»، و«الكاريكاتير كفن يتصل بحياة وهموم الإنسان بشكل مباشر يمكن أن يتقبل الجمهور طباعته على الوسائد والستائر والأواني.. إلخ، دون أن ينتقص ذلك من قيمته، لأن المهم هو الفكرة، وكلما اتصلت بالهم الإنساني العام امتلكت أسباب بقائها طازجة».

ويقول إن «اللوحة التشكيلية عموما إذا لم تحمل فكرة قادرة على التجدد يخف بريقها مع الزمن ويصبح مثلها مثل الجدار الذي يحملها».

فكرة طباعة الرسوم على القماش وخامات أخرى واتته بعدما رأت لوحاته فنانة إيطالية صديقة لابنته جاءت إلى دمشق لعرض أعمالها، التي هي عبارة عن إكسسوارات ولوحات من البلاستيك ومواد أخرى، تعتمد في تصميمها على الفن التشكيلي وتنفذ بالليزر.

وقد وجدت في رسومات فرزات ما يغني عملها، معتبرة أن «الإكسسوار أو الهدية التي تحمل رسما ذا قيمة فنية وفكرية أفضل من الأشياء التقليدية». ويقول علي إن هذه الفكرة «نبهته إلى تفاصيل في أعماله كان غافلا عنها»؛ فـ«الفن تفاعل يخلق نوعا من التواصل مع الآخرين، وما قد أسهو عن معانيه واحتمالاته وأنا أرسمه قد يراه الآخر.. إذ لا توجد وسيلة أرقى من الفن في خلق التفاعل مع الآخر».

التواصل مع الجمهور هو ما ظل يؤرق علي فرزات بعد تعطيل «الدومري»، فوجد نفسه مضطرا للتعامل مع الكومبيوتر والتواصل عبر شبكة التواصل الاجتماعي «فيس بوك»؛ فهو لم يحب يوما هذه التقنيات، لكنه اكتشف متأخرا أنها «وسيلة يمكن السيطرة عليها إذا عرفنا ماذا نريد منها دون الغرق في العالم الافتراضي».

لاحظ ذلك عندما دخل الناس، وفوجئ، حسب قوله: «بتواصل الناس معي بحرارة، ووجدت نفسي أوصل إليهم المخزون الذي تراكم داخلي طيلة فترة تعطل الجريدة، وخلق بيني وبينهم تفاعلا دفعني إلى إنشاء موقع إلكتروني».

الموقع الذي يحمل اسم «علي فرزات» وينشر فيه رسومه يتضمن أبوابا كثيرة، منها كاريكاتير «خط أحمر» وفيه الرسوم التي مُنعت من النشر في سورية والبلدان العربية، وباب «حوار الأسبوع» في صالون «الدومري» وهو مخصص لطرح قضية عامة يشارك فيها القراء بآرائهم، وباب لأصحاب المواهب الشابة تتيح لهم المشاركة في مسابقة شهرية لرسم الكاريكاتير، تمنح جائزة للعمل الفائز وتعرضه في الصالة.

وكذلك هناك باب لمقترحات أفكار يرسمها بريشته، وباب لصور المعروضات في الصالة، كما يتضمن الموقع بابا لأفلام الرسوم المتحركة، وكل أسبوع هناك فيلم جديد. الموقع ينطوي على «مغامرة مثل مغامرة الدومري لكنها غير انتحارية»؛ يضحك علي ويقول «دائما أؤكد أنه على الفدائي أن يطيل عمره ليستمر في عمله، لا أن يموت».

ويرى فرزات أن الموقع بالفعل ليس له، بل لأصدقائه في «فيس بوك»؛ فهم أصحاب الفكرة، وهم اقترحوا أبوابا معينة، مثلا: «كثيرون طلبوا رسم أفكارهم لأنهم لا يجيدون الرسم، لذا أنشأت بابا لنشر رسوم مأخوذة عن أفكارهم. لقد استفدت منهم واستفادوا مني، وهذا يترجم إلى ثقة وحب ويدفعني لمزيد من التواصل معهم؛ فالموقع يسجل نسبة دخول وتفاعل عالية جدا». يقطع علي فرزات كلامه ليتابع ساخرا: «أخشى من الحديث عن نجاح الموقع قبل وضع خرزة زرقاء لمنع الحجب أو التعطيل»!!

ربما يكون علي فرزات محقا في تطيره، وإذا كان يذكر ذلك بسخرية، فهو، ومنذ بدأ التواصل مع معجبيه الكثيرين من خلال «فيس بوك»، وإطلاقه ما سماه «فيس بوكيات علي فرزات» لاقت صفحته تفاعلا غير مسبوق من متصفحي الموقع والشبكة. فهو، وبمجرد كتابة أي جملة على حائطه، تنهال عليها عشرات التعليقات؛ فماذا لو تعطل موقعه وأغلقت الصالة؟ خاصة أن دائرة حواراته تتوسع لتلامس خطوطا حمراء في كثير من الأحيان؟! يجيب على هذا الاحتمال: «لقد سئلت سابقا عن هذا، فقلت أنزل إلى شارع الحمراء وآتي بحمام زاجل، وكل يوم أعلق في رجله رسما جديدا وأطيره».