الكتاب السعوديون يلجأون للسيرة الذاتية في أعمالهم الروائية

60 إصدارا خلال نصف القرن غابت عنها النساء

د. غازي القصيبي وعبده خال وعبد الحفيظ الشمري
TT

تعد السيرة الذاتية من أكثر الأجناس الأدبية التصاقا بذات الأديب، وتعبيرا عن انفعالاته وشعوره تجاه ما يحدث من حوله، وهو ما يجعل جنس «السيرة الذاتية» مرتبطا بقضية «الصدق»، وهو العقبة التي تواجه الأديب الذي ينتمي إلى مجتمع محافظ لا يقبل منه البوح ببعض الجوانب الحياتية التي تدخل ضمن دائرة «المحظور» أو المسكوت عنه.

في المجتمع السعودي لجأ كثير من الأدباء لكتابة السيرة الذاتية مع غياب بارز للأديبات السعوديات اللاتي وجدن في الرواية ملاذا آمنا، وحجابا حاجزا للكشف عن سيرهن الذاتية بأسلوب غير مباشر.

«الشرق الأوسط» استطلعت آراء عدد من الأكاديميين والأدباء حول «السيرة الذاتية السعودية»، في جوانب متعددة، يأتي أبرزها، عدد الأعمال التي أنتجت، وقيمة تلك المؤلفات الأدبية، والآليات النقدية التي تقرأ من خلالها، بالإضافة إلى تشخيص الحالة النفسية للكاتب، وغيرها من القضايا التي تكتنف جنس السيرة الذاتية.

* الحيدري: السيرة أرّخت للنهضة

* الدكتور عبد الله الحيدري، أستاذ الأدب المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كشف لـ«الشرق الأوسط»، عن أن عدد الأعمال المنتجة في هذا المجال من قبل أدباء سعوديين منذ أكثر من نصف القرن (1954 – 2010)، بلغ 60 عملا فقط، لم يكن للمرأة السعودية نصيب منها، سوى مذكرات مرام مكاوي «على ضفاف بحيرة الهايد بارك»، الذي لا يعد سيرة بقدر ما هو نواة للسيرة الذاتية، مؤكدا أن الأعمال السعودية السيرية لا تتجاوز الخمسة أعمال سنويا، ويرى ذلك طبيعيا، لأن السيرة الذاتية، كما يقول، «عمل شاق، وليس من السهل إنجازه، وكثير من الأشخاص يحاولون التواضع ونكران الذات، دون البوح والكتابة في هذا اللون من الأدب».

واعتبر الحيدري «أيامي» لأحمد السباعي، و«حياتي مع الجوع والحب والحرب» لعزيز ضياء، و«سيرة شعرية» لغازي القصيبي، و«حكاية الفتى مفتاح» لعبد الفتاح أبو مدين، و«السنوات الأولى»، ترجمة حياة لمحمد حسن فقي، و«ما لم تقله الوظيفة: صفحات من حياتي» لمنصور الخريجي، و«مكاشفات السيف والوردة» لعبد العزيز مشري، و«غربة المكان: صفحات من السيرة الذاتية» لإبراهيم الناصر الحميدان، و«عشت سعيدا» لعبد الله السعدون، أبرز الأعمال التي قدمت في الأدب السعودي في مجال السيرة الذاتية.

ويضيف الحيدري: «تكشف هذه السير الذاتية أن أصحابها - في الجملة - من كبار الأدباء والمثقفين في السعودية، ومن الفاعلين في الحركة الأدبية، ففيهم شعراء، وقاصون، وروائيون، وصحافيون، ونقاد.

ومن خلال الاطلاع على هذه الأعمال، وتأمل أحداثها تتكشف بجلاء عصاميتهم وصراعهم مع الحياة، ودورهم المهم في التعليم والإصلاح والتنوير».

وعن احتضان المؤسسات الأدبية لمثل هذا الجنس من الإبداع، قال الحيدري: «في عام 2008 خصص نادي جدة الأدبي الثقافي ملتقى قراءة النص تحت عنوان (السيرة الذاتية في الأدب السعودي)، وشارك فيه عدد من الباحثين والباحثات، من بينهم عدد من المشتغلين في حقل السيرة الذاتية. وقد أصدر النادي أيضا على هامش ذلك الملتقى كتابا من إعداده عنوانه (السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية: ببليوغرافيا)، عرف فيه بـ48 عملا إبداعيا في جنس السيرة الذاتية في السعودية، وجميع الأعمال لرجال باستثناء مذكرات مرام مكاوي. ونفس الكاتب يظهر في الكثير من الأجناس الأدبية التي يكتب من خلالها، وأظهرها (المقالة الذاتية) التي يمكن تطويرها وتدخل في نسيج السيرة الذاتية، والرواية الأولى للكاتب التي في الغالب لا تنفصل كثيرا عن السياق ذاته، ومما يمكن التمثيل به (عيون الثعالب)، وهي رواية للكاتبة ليلى الأحيدب وتدخل في إطار رواية السيرة الذاتية»، كما يقول.

واعتبر الحيدري أن جنس السيرة الذاتية لا يناسب المرأة، ولذلك تلجأ كثيرا إلى لعبة فنية فتكتب أحداثا ربما تكون واقعية ومن وحي تجاربها وحياتها في قالب رواية.

* الغامدي: السيرة في طريقها للازدهار

* الدكتور صالح معيض الغامدي، رئيس قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود بالرياض، اعتبر السيرة الذاتية متصلة بشكل وثيق بأي إنتاج إبداعي يؤلفه الأديب، ولا بد أن يلقي البعد الذاتي بظلاله على السلوك الإنساني، وتأتي الكتابة الفنية على هرمه. وقال: «الأديب يعبر عن عواطفه وانفعالاته ومشاعره في كل الأجناس التي ينتجها، والحد الذي يفصل السيرة عن غيرها هي (المقصدية) الكائنة في اللحظة التي يقرر الأديب خلالها كتابة سيرته الذاتية، وأن يطلق عليها اسم سيرة، وما عدا ذلك فإن الأديب يستحضر تجربته الحياتية في إبداعه، سواء كانت عملية التضمين واعية أم غير واعية».

وأشار الغامدي إلى أن السيرة الذاتية قابلة لأن تقرأ بطرق متعددة، فكل منطلق نظري تحليلي ينظر للعمل الأدبي من زاوية مغايرة عن غيره، و«مفهوم الحقيقة» هو ما يميز جنس السيرة الذاتية عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، وهو الميثاق الذي يلتزم به الأديب قبل الشروع في كتابة سيرته، وبعض النقاد يسلم للمصداقية التي يظهرها الأديب أثناء تقديمه لسيرته الذاتية، وينطلق من مبدأ الصدق الفني للتعبير عن التجربة، والبعض الآخر يذهب لاستشارة مراجع خارجية أخرى.

وبين الغامدي أن انتشار ما يسمى بـ«رواية السيرة الذاتية»، التي يسعى من خلالها الأديب، الذي لا يملك الجرأة على كتابة سيرته الذاتية، إلى عرضها للمتلقي على هيئة عمل روائي. ويظهر هذا السلوك جليا في الأدب السعودي، مما يعني استخدام بعض الأديبات والأدباء، للرواية كقناع لكتابة سيرهم الذاتية، وعلى الرغم من شيوع هذه النظرة لدى بعض النقاد، فإنها قراءة غير مشروعة، بحسب رأيه، وعلى الناقد الالتزام بالجنس الأدبي الذي ارتضاه الأديب لإنتاجه، وجعله معنونا في غلاف كتابه، معتبرا أن البعض من النقاد قد يلجأ لهذا النوع من القراءات النقدية نظرا لسهولتها وسطحيتها في تناول العمل الإبداعي.

وأوضح الغامدي أن إنتاج الأدباء السعوديين في السيرة الذاتية لا بأس به، في ظل غياب العنصر النسائي الذي تقنع بالرواية للتعبير عن تجربته الحياتية، مشددا على أن «تدوين السيرة بحاجة إلى جرأة وتجربة حياتية تستحق أن يكتب عنها، وهي غير مرتبطة بمكانة الشخص الاجتماعية، فالمتسول الذي عانى في الأزقة والطرقات بإمكانه أن يقدم عملا جميلا لأن حياته باتت مادة ثرية».

وتوقع الغامدي، أن تشهد الساحة الأدبية السعودية خلال السنوات القليلة المقبلة بعض السير الذاتية النسائية، لا سيما أن هذا الجنس الأدبي يغري الكثير من القراء الذين لديهم حب استطلاع؛ لمعرفة ما يحدث في حياة الآخرين، «وستصبح السيرة من أكثر الأجناس حضورا في الأدب السعودي خلال السنوات المقبلة».

وشدد الغامدي على «ضرورة تحلي السيرة الذاتية بقدر من الخيال، فالأعمال الإبداعية التي تأتي من ضمنها السيرة الذاتية لا تخلو من العنصر التخيلي؛ لأن الرجل الستيني عندما يريد استذكار مواقفه التي عاشها وهو ابن العاشرة، لن يتأتى له ذلك دون أن يعمل مخيلته للربط بين التجارب الحياتية، فيضطر لأن ينفصل عن ذاته الماضية، ويتعامل معها بصفة مستقلة، وكأنه يكتب عن شخص آخر، ويستحيل أن تسلم السيرة الذاتية من الاختلاق، إلا أنها تعد أكثر الأجناس الأدبية مصداقية وتعبيرا عن الذات».

ويرفض الغامدي الربط بين نجاح السيرة الذاتية واحتوائها على مواقف فاضحة تصطدم بما اعتاد عليه المجتمع. ويقول: «بإمكان الأديب التعبير عن تجربته بأسلوب فني رفيع، متى ما كان لديه الأدوات الجيدة التي تعينه على الكتابة الإبداعية لمعظم تجاربه. لكننا ننفي وجود بعض العوائق الاجتماعية التي سيتكفل الزمن بحلها، لكن ذلك لا يعني أننا لن نرى أعمالا في السيرة الذاتية تمتاز بالجرأة والتنوع».

* الشمري: السيرة الذاتية وفن الرواية

* من ناحيته قال الروائي السعودي عبد الحفيظ الشمري: «ليس من الخطأ أن يضمن الكاتب ما يحسبه جديرا بالاهتمام والدهشة مما يمتلكه من تجارب حياتية يستشعر فيها أفق الإبداع وطرافة الفكرة وتجليات الذات النازفة بالحكاية البكر والمواقف المعبرة، وذلك بكتابتها على هيئة شهادة إنسانية أو بناء سيرة ذاتية تعمد إلى التدوين والتتبع والاستقصاء لكل مسارب حياة الكاتب لسيرته أو المنقولة عن تجربته. وبما أن العمل القصصي والروائي يتكئ عادة على الحكاية، والحديث للشمري، فلا بأس أن ينهل الكاتب من جب تجاربه بعض الأحداث والصور المفعمة بالعذوبة والفرادة، إلا أن ما يمكن أن يحتكم إليه هو عدم الانزلاق في مهاوي الإسهاب، والتمادي اللفظي في شرح كل شاردة أو واردة أو السعي إلى حب التظاهر والتعالم على نحو ما يفعله بعض من يدعي كتابة الرواية حينما يمجد ذاته حتى يلمح القارئ أنه أمام كاتب مريض مصاب بداء الأنانية وحب الظهور والظن بأن ما لديه من تجربة جدير بأن يطالعه القارئ». وفيما يتعلق بتجربته الشخصية، أوضح الشمري أنه حرص في تجربته القصصية والروائية على مدى ثلاثة عقود على أن تكون التجربة الذاتية ضيفا خفيفا على المشهد السردي في أي عمل، وقال: «إنني أقدم ذاتي - أحيانا - شاهدا على بعض الحقائق وأتحاشى مطلقا أن أجعلها متمادية في انتشائها وتطاولها على الشخصيات المرسومة في العمل، فكلما حضرت السيرة الذاتية لدي تكون بالضرورة شارحة باقتضاب لحالة الوضع الإنساني المفعم بالألم ومعبرة عن حجم الواقع الذي يعيشه الشخوص، دونما تكلف أو إطراء زائف».

أما عن أبرز العقبات التي تحول دون إقدام الأديب لكتابة سيرته الذاتية، فقال الشمري: «من أراد أن يكتب السيرة الذاتية له أن يبين هوية ما يكتبه ليحمل هاجس التوثيق والتتبع والاستقصاء وتدوين حكاية الإنسان في التجربة الحياتية، وليس هناك ما يعوق أن يضمن الكاتب الروائي سيرته بما يكتب، طالما أن هناك تقنينا لحضورها بمعنى انتقاء ما يصلح من مواقف وما يجد من طرائف في حياة الكاتب لا أن تكون مديحا مجانيا للذات وتعاليا على القارئ ومحاولة لبناء رغبة (حب الظهور) التي لا تقدم أو تؤخر في التجربة».

ويعتقد الشمري أن «السيرة الذاتية ربما تكتب بطريقة مشاهدات يومية عابرة لا يكون للإبداع فيها حضور لافت، نظرا لأنها محطات في حياة قابلة لأن تجد القبول أو الرفض عند البعض، ناهيك عن أن التجارب الحديثة باتت لا ترقى إلى مستوى الطريف أو المعبر، ربما لتبدل البنية الاجتماعية وتحولها من أسلوب التعاضد والاندماج إلى أسلوب التنائي والانكفاء على الذات، فلم تعد الحياة الاجتماعية مشبعة بالطرائف والغرائب. ربما لا أجد في السيرة الذاتية سوى بعدها الحكائي، الذي يمكن للروائي تقديمه للقارئ في حدود ضيقة، كأن يجعل من شخصيته شاهدا على بعض المواقف الحياتية، لكن بأسلوب حذر وبطريقة مقننة لا تمجد الذات أو تصنع منها بعض النماذج المتعالمة».

وعن تقييمه لتعاطي النقاد مع أعمال السيرة الذاتية، أوضح الشمري أن السيرة الذاتية «ربما كانت تجربة أخرى للعمل الأدبي، وربما هناك من سعى إلى دمجها في العمل الروائي بغية إضفاء بعد تشويقي، أو ربما منحها شرعية ما، لعلها تخرج من كونها مجرد حكاية صرفة إلى مضان العمل الروائي بفنياته التي تتجسد في حضور عناصر الفن السردي الذي لا يغلب فيها أي عنصر على الآخر».

ولم يجد الشمري، على حد قوله، أي حضور للنقد الأدبي في هذا الشأن على الرغم من محاولات البعض مجرد التنويه أو التعاطي مع ما يكتب من قبيل الاهتمام الآني، مشيرا إلى الخلط بين فن الرواية بشكله الواضح والصريح والسيرة الذاتية التي تعتمد على سرد المواقف وتجميع الأحداث وبث الحكايات بطريقة عفوية بما لا يرقى إلى أن تكون من قبيل الفن الروائي، الذي يمكن لنا أن نحتكم إليه.

* الخضري: مرض نفسي

* وفي السياق ذاته، أوضح الباحث والكاتب السعودي خالد محمد الخضري، المتخصص في علم النفس، أن الكاتب الذي يتعمد كتابة سيرته الذاتية، لديه بعد من أبعاد المرض النفسي، وهو ضمن إحدى ثلاث حالات، الحالة الأولى يكون فيها الكاتب مريضا نفسيا حقيقيا أو حتى قريبا من حافة الجنون، حيث يجد سلوانه في كتابة سيرته الذاتية ويمتلك قدرات إبداعية فائقة لتقديمها في عمل روائي فني مميز، وهي حالة نادرة الوجود. ويمثل هذه الحالة القاص زكريا تامر في قصة «صهيل الخيول»، وكذلك الروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف في قصة «حب مجوسية»، ويمثل هذه الحالة عالميا الأديب بروست.

ويعتقد الخضري أن هذه النماذج استطاعت أن تقدم أعمالا روائية، مثلت حقيقة النفس البشرية، وكشفت جوهر طبيعة الإنسان على ما هو عليه دون تزييف أو نفاق اجتماعي، يضطر لممارسته عند مواجهته للمجتمع، مبينا أن مثل هذه الأعمال يصطدم بالمجتمعات العربية، بحكم أن حالة الوعي تتضاءل في هذه المجتمعات تجاه رسالة الأعمال الإبداعية، باعتبار أنها لغة غير مباشرة في نسقها الكتابي وفي جوهرها المضموني، الذي لا يعترف بالمباشرة عندما يقدم أنماطا بشرية تسير في حياتنا اليومية من الأشخاص المهمشين والعاديين، الذين يعاني جزء منهم من مصائب الحياة وويلات الخوف من المجهول.

الحالة الثانية، بحسب الخضري، تعتري نوعية من المبدعين الذين يبحثون عن الشهرة من خلال سيرهم الذاتية، وهؤلاء في رأي الخضري كثر على مستوى الكتاب السعوديين، موضحا أنهم يتعمدون الكتابة الفضائحية من أجل شغل الرأي العام ولفت أنظار الآخرين إلى إنتاجهم، مبينا أن عددا كبيرا منهم لا يمتلك قدرات وأدوات وفنيات الكتابة، متكئين على كسر التابوهات والحديث عن المسكوت عنه.

ويرى الخضري أن هذا الصنف في السعودية تتغلب فيه الروائيات على الروائيين عددا وإنتاجا، لأنها، كما يعتقد، لا تخرج عن كونها «حكاوي نسائية» شوهت صورة الرواية السعودية، مضيفا أن انسياقهم في هذا الاتجاه يكون لخدمة أغراضهم الخاصة.

وأضاف الخضري: «إن من بين هذا الصنف مبدعون حقيقيون ولكنهم مالوا للكتابة الفضائحية»، وهناك، كما يستدرك، «من مال لاستعمال بعض إسقاطاته الخاصة التي حدثت في مرحلة من مراحل حياته، ممثلا لذلك بالروائي عبده خال في بعض أعماله»، مشيرا إلى جلاء هذه الحالة عند الكاتب المغربي محمد شكري خاصة في قصته «خبز الحافي».

وأما الحالة الثالثة، في رأي الخضري، فيمثلها عدد قليل من الكتاب، الذين اتصفوا بدرجة عالية من الوعي، غير أن هذا الوعي في اعتقاده يصطدم بشكل مباشر مع حقيقة واقع المجتمع العربي الذي يعيشون فيه، مشيرا إلى أن هذه المجتمعات لا تقبل هذا القدر الكبير من الصراحة، باعتبارها نوعا من الكشف الفضائحي غير المقبول.