الأدب الغائب والتاريخ المفقود

في رواية «الإمبراطور الصغير» لمحمد عبد الملك

TT

رواية «الإمبراطور الصغير»، رواية للكاتب البحريني محمد عبد الملك، تثير الكثير من التساؤلات، من حيث دقة تصنيفها كرواية، فهي تتناول موضوعا تاريخيا بشيء من التفصيل والتطويل. فهل هي رواية تاريخية؟ أم هي تاريخ بثوب روائي؟ أم هي لا هذا ولا ذاك؟

والحقيقة أنه من الصعب اعتبار «الإمبراطور الصغير» رواية ضمن الشروط الإبداعية التي تحقق المتعة للقارئ، حيث خلت أو كادت من المعالجات العميقة والمقدرة اللغوية والمتعة الأدبية وعناصر التشويق. وفي ذات الوقت فإنها تاريخ دون تاريخ، تاريخ مُعوّم غير واضح الملامح، يقدم وجبة تاريخية دون ملح أو بهارات أو مقبلات، فلا يستنتج القارئ إلا أنه كان يوجد حركة شعبية تطالب بمجلس تشريعي ونقابة لعمال المناجم وبعض المطالب الثانوية الأخرى، أما من هم؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ فلا يوجد شيء يسعف القارئ المهتم.

الملاحظة الأخرى تتعلق بغياب الأسماء الكامل عن العمل، فنحن نتعامل مع أشخاص هلاميين، أو أشباح، أو نكرات، مما زاد من وحشة القارئ وغربة العمل وابتعاده عن الواقع، فتحول إلى عمل تجريدي أصم. وكان الأجدر بالكاتب أن يبعث الحياة لشخوص الرواية عبر الأسماء، فالشخص دون اسم لا وجود له، فلا يكفي ذكر ألقاب لا حميمية لها ولا رونق (الإمبراطور، المندوب السامي، الزعيم، ممثل إدارة المستعمرات، رئيس إدارة المستعمرات، الصقور، الحمام، القاضي،...)، وحتى الأماكن ظلت نكرات دون أسماء تدل عليها، مما يضع القارئ في حيرة من أمره، فلا يدري عن أي بلد يقرأ، وهل ما يقرؤه حقيقة أم خيال، وهل هو أدب أم تاريخ؟ فالعمل جاف، جامد، مغطى بالصلصال.

«الإمبراطور الصغير» عمل طويل ويلف ويدور في الموضوع نفسه، وكان بالإمكان اختصار العمل إلى النصف، دون أن يفقد من قيمته شيئا، فهناك إطالة مملة أحيانا لأعمال حدثت وتكررت دون إضافة جديدة تبرر تكرارها، بل إنّ القارئ يشعر أحيانا أنه يقرأ النص مرة أخرى.

الفصل الأول (1) يبدو كخلاصة لأحداث الرواية، وبقية فصول الرواية تفصيل لهذا الفصل المجمل. وبغض النظر عن الشرعية الأدبية لهذه الخلاصة التي لا تبدو مناسبة، فإنّها قد تحرق الرواية أمام القارئ، وقد تثيره، حسب نوعية القارئ وطبيعته.

موضوع الاسترجاع أو التذكر يحتاج إلى إشارة توحي بذلك حتى لا يقع القارئ في حيرة وبلبلة لعدم تسلسل الأحداث، وكان الأفضل أن يحرص الكاتب على التسلسل ما دام يتناول موضوعا تاريخيا في ثوب روائي، أو على الأقل وضع مقدمات تساعد القارئ على تتبع الأحداث والمحافظة على تسلسلها المنطقي. ومن الأمثلة على ذلك: فصل (38)، وفصل (39).

الرواية تبدو مفككة في مواضع كثيرة، لا روابط بينها، بل إنّ بعض فصولها أشبه بفقرات مقالة عادية، وقد يكون مردّ ذلك أنّ الرواية ربما كتبت على فترات متباعدة متقطعة، مما أدى إلى تفككها، والإخلال الواضح بتماسكها ووحدتها.

والمتتبع يلحظ التناقض أحيانا في بعض المعلومات والأحداث، مثل:

- «أرسل الزعيم رسالة إلى المندوب السامي وقال فيها... نريدكم أن تفهموا هذه المطالبات السلمية لتأسيس مجلس تشريعي... ولقد منيتمونا بإقامة مجلس تشريعي، وإقامة نقابة عمال المناجم» (54)، وفي مكان آخر يقول: «الزعيم أرسل رسالة أخرى للمندوب السامي... ارتفع منسوب المطالبة في هذه الرسالة السرية. وبعد أن كانت المطالب تقف عند حدود رفع الأجور، وتحسين الأوضاع المعيشية، تجاوزت ذلك إلى المجلس التشريعي والنقابات» (56).

وكما نلاحظ أنّ مطلبي المجلس التشريعي والنقابات كانا ضمن الرسالتين، ولم يرتفع منسوب المطالبة شيئا.

- ويقول: «بعد عودته إلى البلاد كان الزعيم يعرف أنه ليس في نزهة وأمان فغادر إلى الخارج» (77)، ثم يقول في مكان آخر: «وعندما وصل إلى بلاد الأرخبيل بدأت مراقبته» (77)، فالزعيم حسب الكاتب تخلى عن النضال فغادر بلاده لأنه عرف أنه ليس في نزهة، ومتى كانت المقاومة للظلم والاستبداد نزهة وأمانا؟! ثم عاد الزعيم إلى البلاد مرة أخرى مع أن الأوضاع لم تتغير، ووقع القارئ في حيرة، فالزعيم عاد وخرج ثم وصل دون تمهيد أو توضيح، مما يجعل من خروجه عملا معترضا لا معنى له.

- «كان الإمبراطور يقابل الزعيم باستمرار» (87)، وهذا لا يتفق مع سياق الرواية والعداء المستحكم بين الطرفين، وترصّد الإمبراطور للزعيم والقضاء عليه عندما تحين الفرصة المناسبة كما أشار إلى ذلك المؤلف في أكثر من مكان.

- «أرسل الإمبراطور رسالة خطية إلى الزعيم يدعو إلى مغادرة البلاد... ظن الزعيم أن نفيه سيكون طارئا فامتنع عن إبلاغ الجمعية والأهالي حتى لا يغضبوا ويقوموا بأشياء عنيفة» (90). وفي هذا من المثالية التي لا تتفق مع طباع الإمبراطور الذي يلجأ إلى الرسائل الخطية لطلب المغادرة من الزعيم، ولا يتفق مع الدور المنوط بالزعيم المعارض المناضل الذي يفترض أن تكون الجمعية على اطلاع بكل تحركاته وتصرفاته وقراراته.

ومما يؤخذ على الرواية أيضا ركاكة بعض الصياغات والجمل، ومن ذلك:

- «ويدفع خلفها أمامها. ويتحرك أمامها بسرعة ليهيئ مساحات لخلفها» (75).

- «انشغل الإمبراطور والأهالي في هذا الوجل الذي لا يعرف وجهته أحد» (87).

- «ستندمون على استمرار الاستبداد الذي لا يقبله أطفال المدارس» (102).

- «ستذهب مصالح الإمبراطورية إلى سلة الأقذار» (147).

- «قطعت عليهم حبل تنفيذ حكمتهم» (177).

- «إنه إعلان لحرب راحت تلهث في الأفق. بدأت الشرارة تطل، والكون يغلي» (143).

- «كان التعليم يتلكأ ويتثاءب وينام» (145).

ومن المثالب التي لا يمكن تجاهلها: عدم تناسق الألفاظ أو توظيفها بشكل غير سليم، مثل:

- «أهل جهنم يحترقون وجلودهم تتشظى» (38)، فهل يكون التشظي للجلد أم للعظام؟

- «لا زالت الهبة صلصالا وعجينا» (52)، فكيف يجتمع الصلصال (الطين الجاف) مع العجين؟

- «اعتقد الإمبراطور أن الزعيم قد يهيئ مأدبة مخضبة بالسموم، فوجلوا وبحثوا عنه». (78)، فالخضاب للدم وليس للسم، ثم متى كان الأعداء يثق بعضهم ببعض؟

- «بعد أسابيع طفا الزعيم فوق الماء» (96)، هل كان الزعيم مختبئا خائفا؟ وهل هو فارغ إلى درجة أن يطفو فوق الماء؟

- «هذا يبدو واضحا في تفكير الأهالي الذين يريدون إفساد أفكار الناس» (98)، ويبدو أن المؤلف خانه التعبير هنا، إذ لا فرق بين الأهالي والناس.

- «هذه القرارات السمجة» (100)، فمتى كانت السماجة صفة للقرارات؟

- «لينجزوا أهدافا يعتبرونها هادئة ومسالمة» (101)، وكيف تكون الأهداف هادئة ومسالمة؟

- «اكتشفت أن الإمبراطور يرجح رغبته مستندا إلى التقارير الماجنة» (107)، وأظنه يقصد التقارير المزيفة، أو المفبركة، أو المخادعة.

- المبعوث يخاطب الزعيم: «ربما جاءتكم هذه الفكرة من روث بعض الزعماء العرب المتهورين والثوار الفلسطينيين وشعارات هبة الجزائر» (122). لو استخدم لفظة «خزعبلات» أو «ترهات» أو «سخافات» لكان أفضل من لفظة «روث» التي لا تفي بالغرض، ولا تناسب المقام أساسا.

- «رأت الجمعية أن هذا المقترح الذي وضعه الإمبراطور... وليس بوسعهم إلا فضه وبوسائل دامغة وشديدة اللهجة» (144). المقترح يدحض ويفند ولا يفض، وبأدلة دامغة وليست وسائل.

- «والقولون يتهادن مع الظروف للقضاء عليه» (245)، والأصح أن القولون يتواطأ.

ويلاحظ القارئ أنّ ثمّة حشوا وإقحاما لمقاطع في مستهل بعض الفصول لا تخدم النص، بل هي بمثابة صخرة تشده إلى أسفل، وتقلل من قيمته الفنية من مثل ما ورد في مقدمة الفصول الآتية: (8)، (33)، (35)، (42)، فاللجوء إلى مقدمات تنظيرية يفاقم من ضعف العمل، ويؤدي إلى خلخلته، وخروجه عن هدفه الرئيسي.

* «الإمبراطور الصغير».

- المؤلف: محمد عبد الملك.

- الناشر: «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» بالتعاون مع وزارة الثقافة والتراث الوطني في البحرين.