رحيل رموز وميلاد دور نشر شبابية وسرقة «زهرة الخشخاش»

المشهد الثقافي المصري في عام 2010

TT

تميزت السنة الماضية برحيل شخصيات كبيرة احتلت المواقع الأبرز في الثقافة العربية المعاصرة، وربما سنحتاج إلى أمد طويل لنعوض غيابها المفجع عن الساحة الفكرية والثقافية. وقد تقاسمت البلدان العربية حجم الخسارة برحيلها وهي في أوج عطائها، بعدما ملأت فراغات كبيرة بالجدل والنقاش الفكري، والعطاء الأدبي، وأعادت شيئا من «العصر الذهبي»، الذي عرفته الثقافة العربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ففي مصر، رحل فجأة نصر حامد أبو زيد، المفكر السجالي البارز، والشاعر محمد عفيفي مطر، «الأب الروحي» لشعراء السبعينات في مصر، وأسامة أنور عكاشة، الذي أحدث ثورة في الدراما التلفزيونية العربية، والفنان التشكيلي عدلي رزق الله، والفنان محيي الدين اللباد، رائد فن الأغلفة، والروائي النوبي إدريس علي. وفي السعودية، رحل الشاعر والروائي غازي القصيبي، صاحب «العصفورية» و«شقة الحرية» وغيرهما من الأعمال الأدبية التي كرسته رائدا في بلده، واسما بارزا في الثقافة العربية، إضافة إلى مساهماته الدبلوماسية والوزارية.

أما في المغرب، فقد فقدت الثقافة المغربية والعربية محمد عابد الجابري، صاحب «نقد العقل العربي»، الذي أحدث ما يشبه الزلزال في الثقافة العربية حين صدوره، وغيره من الأعمال البحثية والفكرية، وكذلك فقدت أحمد عبد السلام البقالي، أحد الرواد في أدب الخيال العلمي، والكاتب إدمون عمران المليح، أحد أعلام الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. وفي الجزائر، رحل أحد أكبر الروائيين وهو الطاهر وطار، صاحب «اللاز» و«الزلزال» وغيرهما من الأعمال التي أسست لفن الرواية المكتوبة بالعربية في هذا البلد.

لكن عام الفواجع هذا، لم يخل من إنجازات مفرحة، ونشاطات نوعية، وإنجازات روائية بشكل خاص، نتعرف عليها في هذا التحقيق عن أهم الأحداث الثقافية في مصر، ولبنان، والسعودية، والمغرب.

البحث عن التغيير، وعودة التجمعات الأدبية، وبروز دور نشر شبابية خاصة، وسرقة لوحة «زهرة الخشاش» للفنان العالمي فان جوخ من متحف محمود خليل، وخسارة عدد من رموز الإبداع والفن الثقافة رحلوا خلال هذا العام.. خمسة ملامح أساسية تميز المشهد الثقافي المصري خلال عام 2010.. ففي الملمح الأول تطل ملامح جديدة في الرواية والشعر والفن التشكيلي، لا تكترث بالمسميات الأدبية والفنية الغربية الدارجة كالحداثة وما بعدها، وإنما تستند إلى طاقة التغيير في الواقع الحي، وتراهن عليها باعتبارها رافدا أساسيا في صقل خصوصية المنتج الأدبي والفني، كما تشكل في الوقت نفسه محاولة لاستكشاف الواقع من جديد، وإعادة قراءته وتأمله بمعطيات اللحظة الراهنة وحاجة الإبداع نفسه إلى التغيير. وربما كان من ثمرة هذا وصول روايتين مصريتين تنتميان لتيار الكتابة الجديدة إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، هما رواية «بروكلين هايتس» لميرال الطحاوي، وقد حصدت جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية بالقاهرة لهذا العام، ورواية خالد البري «رقصة شرقية» فيما لم يستطع الوصول لهذه القائمة أعمال أخرى لكتاب مصريين مخضرمين دخلوا مضمار المنافسة على «البوكر».

وعلى غرار التجمعات الأدبية الخاصة التي كانت سمة لافتة في مرحلتي الستينات والسبعينات، شهد هذا العام ظهور عدد من هذه التجمعات، كان من أبرزها تجمعات لقصيدة النثر، تدافع عن شرعية وجودها، باعتبارها معول الحرية البديلة، لزحزحة جمود النص الشعري التقليدي، وانفتاحه على قضايا الهامش، ونثريات الواقع والحياة. يعضد هذه التجمعات اتساع ظاهرة دور النشر الشبابية الخاصة على يد مجموعة من المثقفين والكتاب الشباب من أمثال: «شباب بوكس»، «صفصافة»، «أرابيسك»، «فكرة»، «وصال»، « صرح»، «المصري».. وغيرها. الطريف أن إحجام دور النشر الشهيرة عن نشر أدب كتاب شباب غير معروفين كان قاسما مشتركا وراء فكرة إنشاء هذه الدور. الأمر الذي دفعها إلى احتضانهم والاحتفاء بإبداعهم، ونشره بالمجان من دون مقابل مادي من المبدع - كما تفعل أغلب الدور الشهيرة - وأرست الدور الشبابية معايير لافتة لعملية النشر، بتشكيل لجان من الأدباء الشباب لقراءة الأعمال وتقييمها، ومناقشة المبدع في أوجه النقص أو الالتباس التي يرونها في العمل، كما تحرص هذه الدور على تسويق الإبداع بشكل جيد، بداية من حملات الدعاية على «فيس بوك» والمواقع الإلكترونية، وإقامة حفلات توقيع، وندوات أدبية للمبدع.

وكعادته لم يخل المشهد المصري من أزمة ثقافية صادمة، تجسدت هذا العام في فضيحة سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» الشهيرة للفنان العالمي فان جوخ، في 23 أغسطس (آب) الماضي، بعد إخراجها من إطارها وفي وضح الظهيرة، من متحف محمود خليل وحرمه بالجيزة، مما جعل النائب العام المصري المستشار عبد المجيد محمود يسارع بزيارة المتحف ومعاينة الحجرة المخصصة لعرض اللوحة، وأمر بحبس الفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية وكيل أول وزارة الثقافة، المسؤول عن المتحف، إضافة إلى عشرة من العاملين والمسؤولين بالمتحف وتقديمهم إلى المحاكمة. فيما قضت محكمة أول درجة بمعاقبتهم بالحبس مع الشغل لمدة 3 سنوات، بتهمة الإهمال والتقصير والإخلال في أداء واجباتهم الوظيفية، ثم أفرج عنهم بكفالة مالية 10 آلاف جنيه لحين نظر محكمة الاستئناف في الحكم.

الطريف في أمر لوحة «زهرة الخشخاش»، الذي يأتي في سياق مسلسل النهايات المأساوية لقيادات وزارة الثقافة، وبعد أن شغل الرأي العام في حينه، دخل في أدراج النسيان، ولم يبق من ماراثون الجدل والاتهامات المتبادلة بين شعلان وفاروق حسني وزير الثقافة سوى محاولة تدبير وضع آمن لمعاش شعلان الشهري، بعد أن بلغ سن التقاعد الوظيفي، واستحالة عودته للعمل قانونا، حتى كان استقبال الوزير له بعد خروجه من السجن مفاجأة في الواقع الثقافي، ازداد وقعها بعد محاولة الوزارة مراضاة شعلان بتعيينه مستشارا له من الفئة الأولى (أ).. وسط كل هذا الغبار لم يعد أحد يسأل عن مصير اللوحة، وماذا تم بشأنها. رغم أن اللوحة نفسها سرقت بشكل غامض عام 1978، وأعيدت بعد فترة قليلة إلى المتحف، لكن بطريقة أكثر غموضا، مما أحدث ضجة حول كونها أصلية أم مزيفة، إلى أن حسمت لجنة علمية دولية أصليتها، وربما أغرى ذلك اللصوص بمعاودة سرقتها مجددا.

دمعة أخرى ساخنة ذرفها بأسى وألم المشهد الثقافي المصري خلال هذا العام، حيث فوجئ برحيل عدد من رموزه الكبار في شتى مناحي الإبداع، من بينهم الشاعر محمد عفيفي مطر، الذي يعد «الأب الروحي» لتيار شعراء السبعينات في مصر والعالم العربي، والشاعر محمد صالح أحد المتميزين في خضم هذا التيار. كما ترك مكانه شاغرا الكاتب الساخر «الولد الشقي» محمود السعدني، ولحقه أحد نجوم كتاب الدراما التلفزيونية أسامه أنور عكاشة، صاحب «ليالي الحلمية» و«الشهد والدموع» و«زيزينيا» و«أرابيسك»، كما غادر مقعده الفنان التشكيلي عدلي رزق الله، أحد رواد التصوير المائي، والفنان محيي الدين اللباد، رائد فن الأغلفة، والفنان مصطفى مشعل، صاحب التيمات الشعبية في الفن التشكيلي، ولحق بهم الروائي إدريس علي، الذي أعاد النوبة بتراثها الثقافي والإنساني إلى المشهد الروائي في عدد من الأعمال المتميزة.. وكان لافتا أن يغادر تحت عباءة هذا العام المفكران اللدودان المثيران للجدل نصر حامد أبو زيد صاحب الكتاب الإشكالي «مفهوم النص - دراسة في علوم القرآن» بعد صراع مع مرض فيروسي عجز الأطباء عن تشخيصه، وعبد الصبور شاهين صاحب كتاب «أبي آدم» بعد صراع مع أمراض الشيخوخة، وفي غضون أسابيع قليلة من رحيل أبو زيد.

وربما كان لافتا في سوق النشر عودة الروح إلى الأدب الساخر، خاصة في عدد من الإصدارات الشابة، وعلى مواقع الإنترنت، لكن هذه العودة لم ترسخ بعد دلالات وسمات خاصة بها، بقدر ما تتقاطع وتحيل دوما إلى منتج الكتاب الرواد في هذا المجال، وربما تحتاج مسافة من الوقت لبلورة واكتشاف هذه السمات، من رحم الواقع الراهن نفسه، وليس من تراث الماضي.

إيجابيا كان انعقاد ملتقى القاهرة الخامس للرواية - رغم اكتظاظ أجندته النقدية والفكرية - حدثا ثقافيا يضاف إلى الومضات المهمة واللافتة في هذا المشهد، كما كان حصول الروائي الليبي إبراهيم الكوني على جائزة الملتقى استحقاقا أصيلا لمشروعه الروائي الكبير الذي أضاف لرصيد الرواية العربية، وأعاد إليها فكرة اكتشاف الصحراء كفضاء سردي متنوع الرؤى والملامح الإنسانية والجمالية.. كما شكلت الدورة الثالثة لسمبوزيوم الأقصر الدولي في التصوير، الذي شارك فيه 25 فنانا مصريا وعربيا وأجنبيا منعطفا مهما في سياق الأعمال الجماعية التشكيلية في مصر، بحسب آراء الكثير من النقاد والفنانين التشكيليين.. وخفت أيضا الانتقادات الموجهة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في الدورات السابقة، واتسمت دورة هذا العام بدرجة من التوازن الفني، كان من ثمرتها فوز الفيلم المصري «الشوق» بجائزة أحسن فيلم في المهرجان.. وكان لاسترداد مصر عشرات القطع الأثرية المهربة للخارج بفضل جهود هيئة الآثار بقيادة الأثري زاهي حواس صدى طيب في أوساط المثقفين، كما شكل افتتاح «متحف الفن الإسلامي» بعد إعادة ترميمه وتزويده بأحدث نظم العرض، عتبة مهمة، تحفز على تطوير عدد من المتاحف الأخرى في البلاد.