الثقافة الأميركية مشيدة على خمسة أعمدة ضخمة

حروب ساخنة تدور حولها والعالم مسحور بها

TT

من وقت لآخر، يناقش مثقفون أميركيون ما صارت تعرف بسلسلة «الحروب الثقافية». مثلا، هناك موضوع المهاجرين الأجانب، وخاصة من المكسيك، الذين دخلوا بطرق غير قانونية (يعتقد أن عدد هؤلاء عشرة ملايين شخص). يدور نقاش عن مدى تأثير ثقافتهم الأجنبية على الثقافة الأميركية.

هناك أيضا موضوع المسلمين، وخاصة بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001. يدور النقاش عن «غزو إسلامي» و«بدائية المسلمين» و«حكم الشريعة»، ومدى تأثير ذلك على الثقافة الأميركية.

مثلا هناك نقاش حول التعري والإباحية، خاصة في مسلسلات تلفزيونية جديدة، ونقاش عن تأثير الجنس على المجتمع الأميركي، خاصة بالمقارنة مع الماضي (قبل مائة سنة تقريبا، كانت المرأة الأميركية لا تصوت في الانتخابات، ولا تكشف على غير وجهها وشعر رأسها).

خلال الشهور القليلة الماضية، اشتعلت «حرب ثقافية» جديدة، عن ظاهرة السمنة وسط الأميركيين. كانت المناسبة أن مطاعم «ماكدونالد» للسندوتشات بدأت تبيع سندوتش «ماك ريب» (ضلع)، بالإضافة إلى سندوتشات «ماك تشيكين» (دجاج) و«بيغ ماك».. إلخ.

من جانب، قال مثقفون ليبراليون إن الشركات الرأسمالية تفعل أي شيء لزيادة أرباحها، حتى إذا كان ذلك على حساب صحة الأميركيين. وكتب برنت كاننغهام، رئيس تحرير دورية «كولومبيا جورناليزم ريفيو» (تصدر عن كلية الصحافة في جامعة كولومبيا): «يجب أن نشجع دعاة المواد الغذائية الطازجة والمحلية، بدلا عن المعلبة والمستوردة. إنها أكثر صحية، وأحسن مذاقا، وأفضل أخلاقيا. نعم، للموضوع جانب أخلاقي، وهو أن أرباح الشركات والأغنياء يجب أن لا تدمر الشعب والوطن».

ومن جانب المثقفين اليمينيين، قال راش ليمنو، مقدم برنامج إذاعي يومي (يستمع له نحو عشرين مليون أميركي) إن هناك «حملة صليبية ضد الأغذية السريعة والمصنعة. هذه حرب (النخبة)، لا حرب (الأميركيين الحقيقيين)».

وهكذا، من وقت لآخر، تشتعل في أميركا «حروب ثقافية» عن مختلف جوانب الثقافة الأميركية.

قبل جوانب الثقافة الأميركية، ما هي أعمدتها؟

في آخر كتاب صدر عن الموضوع، «أميركان واييز» (طرق أميركية)، كتب مؤلفه غاري الثين: «مثل ثقافات أخرى، لا تتغير أعمدة الثقافة الأميركية، لكن يتغير محتواها مع الزمن». هذه طبعة جديدة من الكتاب. وكانت الطبعة الأولى صدرت قبل عشر سنوات، ومؤلفه يعرف كثيرا، ليس فقط عن الثقافة الأميركية، ولكن، أيضا، عن شرحها لغير الأميركيين. وذلك لأنه كان، لثلاثين سنة، مستشار الطلاب الأجانب في جامعة أيوا.

قال إن للثقافة الأميركية جذورا، منها:

أولا: الأوروبية، وخاصة البريطانية، من حيث اللغة والأدب والتقاليد.

ثانيا: الأميركية، وخاصة الديمقراطية والرأسمالية وحب العمل؛ فقد أضاف ثلاثة من «الآباء المؤسسين» الأميركيين نكهات للثقافة البريطانية:

أضاف توماس جفرسون، كاتب إعلان الاستقلال وثالث رئيس، نكهة أميركية على الديمقراطية البريطانية، وذلك بالتخلي عن حكم الملوك.

وأضاف ألكسندر هاملتون نكهة أميركية للرأسمالية البريطانية. وكان أول وزير مالية. وهو الذي وضع نظرية فصل الحكومة عن البنوك (حتى لا تنشغل الحكومة بتقديم القروض وتسليم الودائع). وشجع استدانة الحكومة من البنوك. وأضاف بنجامين فرانكلين فلسفة حب العمل والاختراع. وهو صاحب اختراعات عملية كثيرة.

لهذا، يمكن تلخيص الثقافة الأميركية في خمس كلمات:

أول كلمة هي «فريدوم» (الحرية). وهي فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية ودينية. ثاني كلمة هي «انديفيديواليزم» (الفردية). كل إنسان ملك، وكل منزل قلعة وليس قصرا، لأن القلعة في الثقافة الأوروبية ترمز إلى القدرة على الدفاع عن النفس.

ثالث كلمة هي «براكتيكاليتي» (العملية)، مثلما فسر بنجامين فرانكلين، أبو الاختراعات، وأبو الإبداع الأميركي. وهو الذي ركز على أن العمل فضيلة دينية.

رابع كلمة هي «باتريوتيزم» (الوطنية). يمكن القول إن الأميركيين من أكثر الشعوب وطنية. لكن، تنتقدهم شعوب أخرى بأنهم يبالغون في وطنيتهم لأنهم الأقوى والأغنى في العالم، وليس لأنهم أكثر حبا لأوطانهم من غيرهم.

خامس كلمة هي «دايفيرسيتي» (التنوع). وسبب ذلك هو وجود الأفارقة السود منذ قبل استقلال أميركا، على الرغم من سيطرة البيض عليهم، ثم موجات المهاجرين، وتعدد الأعراق والأديان والثقافات.

كتب بن بلاونت، أستاذ علم الاجتماع في جامعة جورجيا، في كتابه «اللغة والثقافة والمجتمع» أن اللغة هي أساس الثقافة. وعلى الرغم من أن أميركا ليست لها لغة رسمية، ظلت الإنجليزية هي لغتها. لكن، مع زيادة موجات المهاجرين، وخاصة عشرات الملايين الذين يتكلمون اللغة الإسبانية، ظهرت «هسبانيفوبيا» (الخوف منها). ومؤخرا، أجازت أكثر من ثلاثين ولاية قوانين تجعل الإنجليزية لغة رسمية.

وفي «حرب اللغات» في الثقافة الأميركية، يوجد فريقان:

الأول: المتشائمون: الخائفون من اللغة الإسبانية (مع عدم ارتياح للمهاجرين اللاتينيين).

الثاني: المتفائلون الذين يقولون إن اللغة الإنجليزية أكبر وأقوى. وإن المستقبل لها. ويشير هؤلاء إلى ما حدث خلال ربع القرن الماضي، عندما انتشرت التلفزيونات الفضائية، والمسلسلات والأفلام الأميركية، والإنترنت.

ومؤخرا، كتب إدوارد كودي، مراسل صحيفة «واشنطن بوست» في تعليق على موضوع اللغة الإنجليزية، أنه خلال زياراته الأخيرة لمصر، لاحظ شيئين: أولا: الجيل الجديد من المصريين يجيد اللغة الإنجليزية (انتهى عهد الترجمان). ثانيا: يتكلمونها بلكنة أميركية (بسبب تأثير الأفلام والمسلسلات التلفزيونية).

وللأدب صلة باللغة في الثقافة الأميركية. وللاثنين صلة بالأدب الأوروبي، وخاصة البريطاني. ومثلما طور الأميركيون جوانب أخرى للثقافة البريطانية، طورا أدبها: ناثانيال هوثورن، إدغار الآن بو، هنرى ثورو، مارك توين، والت ويتمان، إيميلي ديكسون، فرجينيا وولف، سكوتز فتزجيرالد، ارنست همنغواي، تي إس إليوت، وليام فولكنار، توني موريسون.. إلخ.

وأشار كتاب «اللغة والثقافة والمجتمع» إلى أنها ليست صدفة أن اثني عشرة أميركيا وأميركية فازوا بجائزة نوبل في الأدب (بالمقارنة مع ثلاثة بريطانيين)، وأن آخرهم هي السوداء توني موريسون، أول سوداء حازت على الجائزة.

وصار واضحا أن الثقافة الأدبية الأميركية استفادت من الخلطة العرقية، بدءا برواية مارك توين «هيكيلبيري فين» (عن أسود رقيق)، وليس انتهاء برواية توني موريسون «أغنية النبي سليمان» (عن أسود حر).

واستفادت من الاكتشافات والتوسعات الجغرافية لنشر «سبيريت أوف أميركا» (روح أميركا)، وليس للغزو والقتل من أجل الغزو والقتل. وظهر ذلك في كتاب جون سولوفان «مانفيست ديستيني» (وثيقة القدر) في القرن التاسع عشر. غير أن ناقدين يقولون إن الضحايا كانوا الهنود الحمر (ثم ضحايا غزوات أميركا الخارجية، حتى اليوم).

واستفادت من أفكار الحرية. وظهر ذلك في روايات رالف هنري ثورو (الذي ركز على الفردية والاستقلالية). وفي روايات رالف أميرسون (الذي ركز على التحرر من تفسيرات رجال الدين المتشددة).

ولا يمكن تقليل أهمية الدين في الثقافة الأميركية.

قبل ثلاث سنوات، أصدر مركز «بيو» للأبحاث والاستفتاءات، في واشنطن العاصمة، تقرير «نحن وحيدون في حب الدين». وجاء فيه أن الأميركيين أكثر الشعوب الغربية تدينا. وللموضوع صلة باكتشاف الدنيا الجديدة على أيدي مسيحيين هربوا من سيطرة رجال الدين والأباطرة والملوك في أوروبا القديمة. قبل ذلك، عندما اكتشف كريستوفر كولومبس العالم الجديد, جاء لينشر المسيحية، مثلما جاء بحثا عن طريق بهارات بحري قصير من أوروبا إلى الهند.

ولم تكن صدفة أن سفينته كان اسمها «سانت ماريا» (القديسة مريم) وكان اسم الثانية «سانت كلارا» (القديسة كلارا).

لكن، بقدر ما يؤثر الدين على الثقافة الأميركية، ينص الدستور الأميركي على فصله عن السياسة. وعكس ما يقول البعض، يفصل الدستور الدين عن الحكومة، ولا يفصله عن الدولة. وذلك لأن الدولة الأميركية تشمل الحكومة والمجتمع والثقافة. هذا بالإضافة إلى أن الدستور نفسه أشار إلى «الخالق» الذي خلق الأميركيين الذين كتبوا الدستور. و«الخالق» يدعو، أول ما يدعو، للحرية.

لكن، نص هذا الدستور على أن الكونغرس «يجب أن لا يصدر أي قانون عن الدين». في نفس الوقت، تشمل الحرية الدينية عدم الاعتراف بالدين، بل ونقده (لأن الكتب الدينية آراء، سواء بشرية أو ربانية).

وتعكس أعياد الأميركيين ثقافتهم:

أولا: «ثانكزغيفنغ» (عيد الشكر). أساسه وصول المهاجرين الأوائل إلى السواحل الأميركية، وطبخ وليمة شكرا لله على سلامة وصولهم. ويعتبر مناسبة ليجتمع أفراد العائلة. ولهذا، يشهد سفرا بالطائرات مثلما لا يشهده أي يوم آخر. وتركز الأفلام والمسلسلات التلفزيونية على العلاقات العائلية بجوانبها الإيجابية والسلبية.

ثانيا: «فورث أوف جولاي» (الرابع من يوليو، تموز) عيد الاستقلال. وبسبب الوطنية الأميركية (ربما المبالغ فيها) ترفع الأعلام الأميركية في كل مكان تقريبا. وتتنافس شركات أميركية في رفع أكبر علم، أو أعلى علم. ويرتدي أميركيون وأميركيات العلم الوطني كملابس خارجية، وملابس داخلية، وحتى مايوهات سباحة.

ثالثا: يوم مارتن لوثر كينغ، الزعيم الأسود الذي قاد حركة الحقوق المدنية قبل نصف قرن تقريبا. وهو يوم جديد، ويوضح رغبة الأميركيين في نسيان ماضي تجارة الرقيق واستغلال الزنوج. ويتوقع في العيد المقبل أن يُرفع الستار عن تمثال عملاق له في واشنطن العاصمة. ويتوقع أن تكون المناسبة ثقافية أيضا؛ عن ثقافة السود وإسهاماتها في الثقافة الأميركية.

رابعا: يوم المحاربين القدماء. ويخلد فيه الأميركيون ذكرى ضحايا الحرب الأهلية، والحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب كوريا وحرب فيتنام وحرب العراق وحرب أفغانستان. لهذا، يمكن القول إن الحروب صارت جزءا من الثقافة الأميركية بسبب أفلامها ورواياتها وكتبها ومسرحياتها. وعلى الرغم من أن حرب فيتنام لم تكن انتصارا أميركيا، يتحاشى الأميركيون هذا الجانب، ويرون أن الضحايا الأميركيين، على كل حال، ضحوا في سبيل وطنهم.

خامسا: يوم كريستوفر كولومبس، مكتشف الدنيا الجديدة. في الماضي، كان عيدا للمهاجرين من إيطاليا (وطن كريستوفر الأصلي). لكن في وقت لاحق، صار يوما للمهاجرين من كل مكان. ويظهر ذلك في احتفال نيويورك السنوي حيث تسير مواكب جاليات مختلفة (أكثر من نصف سكانها مهاجرون).

وهناك الثقافة الشعبية الأميركية. مثلما صار الأميركيون أمة من المهاجرين، صار طعامهم خليطا من أطعمة شعوب أخرى: أمركوا «بيتزا» إيطاليا، وينشرونها في العالم. أمركوا «تاكو» المكسيك، وينشرونها في العالم. أمركوا «فرنش فرايز» (بطاطس فرنسية مقلية)، وينشرونها في العالم. ومؤخرا، أمركت شركة «ستارباك» المقاهي الشعبية، وتنشرها في العالم، وحتى في اليمن، حيث افتتح لهذا المقهى فرع.

وهناك الألعاب الرياضية التي أخذت قليلا من ألعاب أوروبا، وخاصة بريطانيا، مثل كرة القدم. لكن طور الأميركيون رياضات خاصة بهم، مثل «فوتبول» (كرة القدم التي هي كرة يد أكثر منها كرة قدم)، و«بيسبول» (كرة القواعد). وأسهم السود في نشر «باسكتبول» (كرة السلة).

ولا تذكر الثقافة الشعبية الأميركية إلا وتذكر المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية الأميركية طبعا، استفادوا من الاختراع، فصار هذا يعكس ثقافتهم، ثم ينشرها. واخترعوا الكومبيوترات والإنترنت، ثم صارت هذه تعكس ثقافتهم، ثم صارت تنشرها.