فرنسا تكمل خمسين عاما من حربها لأجل «سينما مستقلة»

دور عرض «فن ونص» أمام الاختبار الأصعب

TT

الحرب شرسة، والأفلام التجارية ذات الميزانيات الضخمة تأكل الأخضر واليابس، ومع ذلك ففرنسا لن تيأس. أكثر من خمسين عاما مضت وهي ما تزال تدافع عن «سينما مغايرة» ومستقلة. تدفع فرنسا الميزانيات، توفر القاعات، تقر القوانين الحمائية، تحمس التلاميذ الصغار لتربية جيل مرهف الحس، يؤمن بأفلام صغيرة لكنها تثقيفية وموهوبة تستحق عناء التنقل لمشاهدتها. أين وصلت فرنسا في حربها من أجل الدفاع عن «سينما مستقلة»؟ هذا ما يتحدث عنه التحقيق التالي.

المتفرج الذي يقصد قاعة عرض «أرلوكان» الباريسية لن يلحظ للوهلة الأولى الفرق بينها وبين قاعات العرض الأخرى، فالهندسة المعمارية والديكورات الداخلية لا تختلف عن غيرها من الدور ولكن الاختلاف موجود بل وجوهري، وهو يبدأ من سعر التذكرة المنخفض نسبيا إلى برنامج العرض المختلف تماما عن العروض الكلاسيكية. ففي الوقت الذي تعرض فيه الصالات الأخرى «هاري بوتر» و«عالم نارنيا» والإنتاجات الهوليوودية ذات الميزانيات الضخمة التي تحقق الإيرادات السريعة والمضمونة، تهتم «أرلوكان» وغيرها من دور العرض الصغيرة بالأفلام محدودة التكاليف المتميزة بتقديمها لمحتويات إبداعية أكثر حرية ورقيا. وهذه الإنتاجات غالبا ما تعتمد على الرؤى الفنية لمخرجيها وعلى مواقف إنسانية وقضايا مجتمعية أكثر من اعتمادها على نجوم الشّباك وحسابات السوق ومعاييره. فعلى شاشة قاعة «أرلوكان» بوسع المتفرج مشاهدة الفيلم الوثائقي «فيكس مي» أو «ثبتني» وهو يعالج مسألة حق الفرد الفلسطيني وشرعية قضيته عبر شخصية المخرج رائد عندوني الذي يصور رحلة علاجه من صداع مزمن داخل أسوار رام الله. علما بأن هذا العمل لم يكن ليرى النور لولا الممثلة الفرنسية جولي غايي التي تحمست لفكرة الفيلم وقررت إنتاجه وحاز على التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج الأخير. أما «إنسايد جوب» الذي تعرضه قاعة «أتوبيا» ويغوص في كواليس البنوك الكبيرة في محاولة لفهم معضلة الأزمة المالية الأخيرة، فهو من إخراج تشارل فيرغسون المتعود على مكافآت مهرجان «سوندانز» للسينما المستقلة.

هذه النوعية من الأعمال التي غالبا ما تحصد الجوائز في المهرجانات العالمية لقيمتها الفنية العالية، لا تحقق لأصحابها الكثير من المكاسب المادية بل إنها تطرح إشكالية الأزمة التي تعيشها السينما المستقلّة منذ سنوات. ففي الوقت الذي تكشف فيه الأرقام الجديدة للمركز الوطني للسينما الفرنسية (سي إن سي) عن انتعاش منقطع النظير للسينما الفرنسية بـ206 ملايين تذكرة بيعت سنة 2010 أي بزيادة 2.7 في المائة عن سنة 2009، يواصل قطاع السينما البديلة تراجعه، حتى إن إنتاجاته لم تعد تمثل اليوم أكثر من 25 في المائة من حصيلة سوق الفن السابع بينما تستحوذ السينما التجارية على الثلاثة أرباع الباقية. وهو ما يجعل خمسة أو ستة أفلام أميركية كبيرة تحتل 70 في المائة من عرض الشاشات الذهبية، كفيلم «هاري بوتر وآثار الموت» أو فيلم «إنسبشن» اللذين حصدا في فرنسا وحدها عشرة ملايين تذكرة، أي أكثر ما حققته ثمانية أفلام فرنسية مجتمعة.

لكن متاعب قطاع السينما المستقّلة لا تكمن في صعوبة إيجاد التمويلات فقط كما قد يحسب البعض بل هي متعلقة أكثر بصعوبة التوزيع وبالتالي وصول هذه النوعية من الأفلام للجمهور العريض. فكثير من هذه الأفلام تنجح في الخروج إلى النور، لكنها تتعثر حين يتعلق الأمر بتنظيم حملات دعائية وإيجاد موزعين وقاعات للعرض. تكاليف الحملات الإعلانية لوحدها عرفت ارتفاعا مذهلا في السنوات الأخيرة، حيث وصلت إلى 25 مرة ضعف ما كانت علية في ظرف ثماني سنوات فقط. وهو ما يجعل عرض بعض الأفلام الصغيرة المستقّلة حدثا غائبا تماما عن وسائل الإعلام. فرصة تعرف الجمهور على هذه الأعمال تقّلصت أيضا مع تقّلص مدة عرض الأفلام في القاعات التي أصبحت لا تتعدى الآن الخمسة أسابيع مقابل اثني عشر شهرا في السنوات السابقة. فلا يكاد المتفرج يسمع عن عرض فيلم جديد حتى يختفي هذا الأخير من القاعات.

صعوبة وصول نتاجات المخرجين الأحرار للجمهور العريض يجعل مهام قاعة «أرلوكان» و«بلزاك» و«أوتوبيا» و«إسباس سان ميشال» وغيرها من القاعات المتحرّرة من سيطرة المجموعات التجارية أساسية. فهي تعتبر اليوم عماد السينما المستّقلة في فرنسا والوحيدة التي تجازف بعرضها لمثل هذه النوعية من الأفلام الجريئة الهادفة، ويصل عددها إلى 1065. وهي تبيع سنويا ما يعادل 50 مليون تذكرة نصفها لأعمال سينمائية فرنسية والنصف الآخر أوروبي وأجنبي، وهو ما يمثل ربع ما يباع في جميع دور السينما الفرنسية التي يصل تعدادها اليوم إلى 5400. معظم هذه الدور يحمل علامة «سينما آر إي إيسي» أو «سينما فن ونص»، وهي العلامة التي ظهرت بإيحاء من الكاتب والوزير الراحل أندريه مارلو عام 1959 لتمييز ومكافأة القاعات التي تساهم في تعريف الجمهور بأعمال السينما المستّقلة. لكن منح هذه العلامة يبقى مشروطا بقرار لجنة من السينمائيين وطاقم من وزارة الثقافة بعد تأكدهم من التزام هذه الأخيرة بعرض أعمال هادفة وشرائط وثائقية ذات قيمة علمية أو تاريخية مهمة وابتعادها نهائيا عن الأفلام التجارية. اللّجنة المختّصة تقيم أيضا مدى مساهمة هذه الدور السينمائية في إثراء الحياة الثقافية والاجتماعية على المستوى المحلي. فهي إضافة لعرض الأفلام، تتميز بكونها فضاءات ثقافية ترفيهية حيّة تدب فيها الحركة النشيطة على مدار الأسبوع، حيث تنظم فيها دوريا لقاءات مع مخرجين وممثلين ونقاد لمناقشة الأعمال المعروضة مع جمهور القاعة، وأسابيع خاصّة لتكريم مبدعين من سينما الأبيض والأسود أو سينما الواقع، وأحيانا كثيرة تقام فيها حفلات وعروض موسيقية وحتى موائد عشاء للاحتفال بمناسبات خاصة.

بعض هذه القاعات الحاملة لعلامة «جمهور الصغار» أو «جون بوبلك» أضافت لائحة نشاطاتها مهمة تكوين ثقافة سينمائية لدى جمهور الصغار والمراهقين الذين يعتبرون جمهور الغد. فلدى قاعة «أتوبيا» مثلا عدة معاهدات شراكة مع مدارس وثانويات لاستقبال جمهور من التلاميذ في عروض خاصة بهم، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك حين خصّصت في سابقة طريفة عروضا خاصة تجمع آباء مع أطفالهم الرضّع.

ورغم البعد الثقافي والاجتماعي الذي يميز نشاط هذه القاعات عن دور السينما الأخرى، فإن المشكلات التي تعترض طريقها كثيرة أهمها المنافسة الشديدة التي تتعرض لها من قبل القاعات التابعة للمجموعات الكبيرة، فـ«أوجي سي»، «باتي غومون» و«أم كا2»، تحتكر السوق وتملك شبكة واسعة من القاعات الفاخرة المريحة الواقعة معظمها داخل المراكز التجارية. وهي تستقطب جمهورا غفيرا بعروض مغرية. «باتي غومون» و«أوجي سي» تقترح بطاقة اشتراك سنوية ثمنها 180 يورو مقابل عروض غير محدودة العدد، كما أن معظمها تتوفر على مواقف سيارات مجانية وموزع تذاكر أوتوماتيكي.

في المقابل تتعرض قاعات «فن ونص» لمشكلات مادية كبيرة، إيرادات ضعيفة وديون جعلت الكثير منها توقف نشاطها، وصل عددها حسب جريدة «لوموند» إلى أكثر من عشرة منذ عام 2006. فمعظم مديري هذه القاعات يستطيعون بالكّاد تغطية مصاريف تشغيل قاعاتهم. جان جاك سبوليونسكي مدير وصاحب قاعة «لوبلزاك» الواقعة في جادة الشانزيليزيه الشهيرة يقول: «أكافح منذ ست وثلاثين سنة لكي تبقى قاعاتي مفتوحة للجمهور الذي بات رهينة الأفلام التجارية، ولن أتوقف عند هذا الحّد. فالسينما يجب أن تبقي مكانا (حيا) يلتقي فيه الناس ليتعارفوا ويشاطروا بعضهم بعضا متعة مشاهدة عمل جيد». وكانت سينما «لو بلزاك» التي ورثّها جان جاك عن والده قد بدأت تتعرض لمنافسة شرسّة من قبل مجموعة «أوجي سي» التي تملك معظم القاعات المنتشرة على جادة الشانزيليزيه، حتى نزل عدد متفرجيها إلى 190 ألفا بعد أن كان يصل إلى 400 ألف متفرج في أواخر الستينات.

وكان معظم مديري هذه القاعات قد لجأوا إلى تطوير أساليب خاصة لتحسين عائداتهم المادية. فمدير قاعة «لو بلزاك» مثلا يلجأ إلى تأجير قاعاته للشركات ورجال الأعمال وهو ما يعود عليه سنويا بنحو 216 ألف يورو ويسمح بتسديد إيجار القاعة. أما الحفلات الموسيقية التي ينظمها كل سبت قبل بداية العرض فهي تحقق له سنويا ما يقارب 18 ألف يورو. قاعة «أوتوبيا» وقاعة «الحمراء» وجدتا حلا آخر يتمثل في السماح لمن يريد من المتفرجين بتحميل مواد سينمائية قديمة خارجة عن دائرة «حقوق المؤلف» مقابل مبلغ مالي صغير يتراوح ما بين 5 إلى 10 يوروات واقتراح اشتراكات سنوية للزوار أفرادا أو مجموعات مقابل مبلغ 50 يورو.

لكن إضافة لمداخيلها يبقى الجزء الأكبر من الأموال الذي يسمح لقاعات سينما فن ونص بالاستمرار في نشاطها هو ما تمنحه لها الحكومة. فالمركز الوطني للسينما (سي إن سي) يعطي لهذه القاعات سنويا 50 ألف يورو، كما يمنح نحو 64 ألف يورو لتلك التي تقع في محيط تشّتد فيه المنافسة وتنتشر فيه الصالات التابعة للمجموعات الكبيرة. أما القاعات التي تخصّص جزءا من عروضها للأفلام الأوروبية فبإمكانها الاستفادة من هبة مالية تقدمها شبكة «أوروبا سينما» تصّل إلى 30 ألف يورو. بلدية باريس تمنح أيضا للصّالات الواقعة في دائرتها مساعدة مالية تصل إلى 47 ألف يورو في إطار سياسة خاصة لدعم قطاع السينما المستّقلة. والواقع أن السياسات التي وضعتها الحكومات الفرنسية المتتالية لم تبخل على قطاع السينما المستقلة بشيء. فقد أنشأت منذ 1946 «المركز الوطني للسينما» الذي يعتبر بمثابة طوق النجاة والقناة الداعمة والممّولة للمشاريع السينماتوغرافية الممّيزة. بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذالك حين وضعت قطاع السينما تحت وصاية وزارة الثقافة مباشرة سنة 1959 لتؤكد بذلك كم الطموحات الثقافية التي تعلقها على هذا القطاع الحيوي.

وعملا بالمثل الذي يقول «في الاتحاد قوة» عمد أصحاب هذه القاعات لمواجهة منافسة دور العرض التجارية إلى تنظيم أنفسهم في إطار جمعيات مختلفة يصل عددها إلى العشرين أهمها «الجمعية الفرنسية لسينما فن ونص»، أبرز مهامها الضغط على أصحاب القرار السياسي لإعفاء هذه القاعات من الضرائب والرسوم، تمديد مدة العروض وتحديد عدد نسخ الأفلام التجارية التي تنزل للسوق لتخفيف منافستها للأفلام المستّقلة. للتذكير فإن بعض الأفلام كـ«أفاتار» لجيمس كاميرون قد تم توزيعها بعدد نسخ يفوق الـ900 نسخة بينما لم يوزع الشريط الوثائقي الشيقّ «كابوس دروين» بأكثر من 25 نسخة فقط.

غالبا ما توصف الأفلام المستقّلة بالنخبوية والمعقدة، لكن هذا لم يمنع بعض روادها العالميين مثل وودي آلن وكان لوش من تحقيق النجاحات التجارية أيضا. لكن المهمة الثقافية الاجتماعية التي تؤديها قاعات «فن ونص» من خلال دعمها للسينما المستقلة وتعريف الجمهور بالأعمال الراقية يبقى أساسيا، وهو ما سمح في فرنسا بصمود هذا القطاع الهشّ في وجه المجموعات الكبيرة.