مجامع اللغة العربية تنهض من غفوتها

لجان تدرس مفردات تخص الملابس والأدوات المنزلية كما المعلوماتية

TT

لم تمت مجامع اللغة العربية كما يتصور البعض، بل لم تتوقف عن العمل، لكن الزمن سبقها. أبو المجامع العربية في دمشق يقوم بخطوات خاصة، فهو يعقد المؤتمرات، ويشرك العلماء، كما يشكل اللجان من أجل وضع مفردات جديدة لمحاربة الألفاظ الأجنبية في المنازل والجامعات، وعلى قارعة الطرقات. ماذا يحدث في مجمع اللغة العربية في دمشق؟ هنا تحقيق من داخل المجمع.

المبنى المهاب الذي يشغله مجمع اللغة العربية في أحد أرقى أحياء مدينة دمشق يعبر عن المكانة التاريخية التي يتمتع بها المجمع في الذاكرة السورية. ولعل الهندسة الداخلية المستمدة من روح التراث الإسلامي تضفي على الهدوء المخيم على المكان شعورا بالسكينة والأمان المشابه لذلك الشعور الذي ينتاب المرء وهو يطأ عتبة المتاحف، أو الأماكن المقدسة خارج أوقات الصلاة. فثمة رهبة مشوبة بالخشوع لماض تليد ليس لنا سوى الاعتزاز به، لنتحايل على بؤس الحاضر. وحسبنا سماع الدكتور محمد مكي الحسني الجزائري، أمين مجمع اللغة العربية، وهو يلخص أهم المشكلات التي تعاني منها لغة الضاد من ناحية «تردي مستوى التعليم والأداء اللغوي واستخفاف المتعلمين بلغتنا الوطنية»، لنتساءل: ماذا يتبقى من الهوية الثقافية إذا كانت النخبة المتعلمة لا تحترم اللغة الوطنية؟

لا يذكر مجمع دمشق، أقدم مجامع اللغة في البلاد العربية، إلا ويذكر فضله الكبير في تعريب مؤسسات وهيئات الدولة وتعريب التعليم وإنشاء المدارس الأولى في سورية والدول العربية. فقد عاش هذا المجمع في طور نشأته منذ عام 1919 فترة ذهبية حين كانت نخبة المثقفين والعلماء العرب تجاهد من أجل استنهاض الهوية القومية كأحد أهم مقومات التحرر والاستقلال. وإذا صح أن النهوض السياسي يستدعي نهوضا ثقافيا، فإن الانتكاس السياسي للمشروع القومي أدى إلى انتكاس ثقافي تمثل في دور المجمع الذي عممت تجربته الناجحة في كثير من الدول العربية، وتحول اليوم إلى مؤسسة هرمة بالكاد يلحظ الإعلام وجودها. لذا عندما طرحت نائب رئيس الجمهورية الدكتورة نجاح العطار منذ نحو أربع سنوات ضرورة تفعيل دور مجمع اللغة العربية في دمشق، كان هناك من رأى في ذلك استحالة تشبه إعادة الروح للميت مع الأمل بمعجزة هي أشبه بمن «يحيي العظام وهي رميم».

فالمجمع الذي ترأسه عبر تاريخه عدد من أعلام وعلماء سورية أولهم محمد كرد علي (1919 - 1953) وخليل مردم بك (1953 - 1959) ومصطفى الشهابي (1959 - 1968) وحسني سبح (1968 - 1986) وشاكر الفحام (1986 - 2008) ومروان المحاسني (2008) تراجع حضوره في العقود الثلاثة الأخيرة، مع أنه استمر في إصدار مجلة فصلية تعنى بشؤون اللغة، وأخبار اتحاد مجامع اللغة العربية، وإقامة ندوات ومحاضرات، ووضع مصطلحات جديدة معاصرة.

المجمع لم يتغير، لكن العالم من حوله يتطور بسرعة تجعله يقف عاجزا عن ممارسة دوره. لذلك تنبه السوريون في العقد الأخير إلى ضرورة تفعيل دور المجمع ضمن عدة مشاريع تهدف إلى تمكين العربية، وفي المؤتمر التاسع للمجمع الذي عقد منذ نحو شهرين تحت عنوان «الكتابة العلمية باللغة العربية»، لوحظت مشاركة جيدة لمجامع اللغة العربية في الدول المجاورة، وتفعيل للأعضاء المراسلين في دول عربية وأجنبية. فإذا اعتبرنا ذلك مؤشرا على بدء تدفق الدماء في عروق هذه المؤسسة، فما الرؤية التي تحكم ذلك؟ رئيس مجمع دمشق الدكتور مروان محاسني قال في لقاء مع «الشرق الأوسط» إنه قبل أن يكون رئيسا للمجمع كان عضوا فيه منذ عام 1975 وأصبح نائبا لرئيسه الدكتور شاكر الفحام عام 2007، وحينها تقدم بمذكرات بما يعرفه عن «طاقات المجمع التي لم تظهر لجمهور الناس وللمثقفين على اعتبار أن الظروف التي أحاطت بالمجمع في السنوات الأخيرة لم تكن مشجعة على إنتاج كبير»، مشيرا إلى أن أهم ما لفت نظره حين كان نائبا للرئيس أن «المجمع يعمل كلجان مستقلة والروابط بينها شكلية حيث تقر في اجتماع المجلس السياسة العامة والتوصيات الإدارية». ويقول محاسني «تمنيت في ذلك الوقت أن ينقلب مجلس المجمع مجلسا علميا لا يتدخل في الأمور الإدارية وإنما يوجه سياسة المجمع اللغوية والإعلامية ويحدد بالتفصيل المجالات التي يجب تنشيطها والمجالات الأخرى التي يجب إدخالها. وحين تسلمت رئاسة المجمع في ديسمبر (كانون الأول) 2008 توليت هذه المهمة ناظرا إلى التوسع في العلاقة بين المجمع وجمهور الناطقين بالعربية على اعتبار أن المجمع يجب أن يبقى مرجعا للنظر في القضايا المطروحة، وخاصة الصعوبات التي تواجه تعليم وتعلم اللغة».

لكن ما علاقة المجمع بالتعليم والتعلم؟ يرد الدكتور محاسني: «المجمع ليس له دور تعليمي لكن مجمعنا له أن يوجه التعليم ويؤمن الوسائل المسهلة والمشجعة على تعلم العربية» مؤكدا على أن «هذا ما دعانا إلى الانفتاح على علوم جديدة»، موضحا أنه بعدما «أصدر رئيس الجمهورية مرسوما زاد فيه عدد المجمعيين من عشرين إلى خمسة وعشرين وكان هناك شواغر «لجأنا إلى انتخاب أعضاء جدد وكان عددهم ثمانية، ولم نقتصر في انتقائنا لهم على علماء العربية بل انفتحنا على العلوم الحديثة التي تكتب الآن بلغة عربية تقريبية لم يتفرغ أحد لوضع الأساليب اللازمة لكتابتها مثل المعلوماتية واللسانيات والبيولوجيا وعلم الجينات ودراسات الأدب المقارن، كلها علوم لم يتطرق لها التراث العربي. ولا بد للمجمع أن يقوم بالعمل على إرساء قواعد عربية لتكتب هذه العلوم وتدرس باللغة العربية».

لكن هناك شكوى من صعوبة بعض المصطلحات التي ينحتها المجمع، وبالأخص في مجال المعلوماتية. وهناك من يرى فيها طرافة غير مستحبة؟ رأي يدحضه الدكتور محاسني بالقول إنه في «عام 38 للهجرة دونت في بلاد الشام أول مخطوطة للكيمياء في اللغة العربية». ومع أنها ترجمت عن اليونانية لكنها تؤكد على أن «اللغة العربية التي كانت حتى ذلك الحين لغة القرآن الكريم والحديث النبوي والشعر المروي أثبتت بسرعة أنها لغة العلوم أيضا». وهذا يأتي على الضد مما يقال عن أن اللغة العربية فقدت صلتها بالعلوم بعد انطفاء جذوة الحضارة العربية الإسلامية بسقوط الأندلس. ويشير إلى تجربته منذ الستينات حين شارك مع رئيس المجمع في ذلك الوقت الدكتور حسني سبح والدكتور هيثم الخياط عضو المجمع في وضع معجم طبي موحد، قامت بتأليفه لجنة من مجموع البلاد العربية (مصر سورية العراق تونس المغرب الجزائر الأردن) الغرض منه توحيد المصطلحات الطبية. ويقول: «كان مجهودنا في وضع المصطلحات العلمية الطبية بشكل يقبله المتكلمون قياسا على ما يجري في جامعة دمشق التي بدأت في تدريس الطب باللغة العربية 1920». فذلك المعجم كان متابعة لتطوير اللغة العربية الذي بدأ حينها واللحاق بالمستجدات العلمية، ومعظم المصطلحات كانت تأخذ من التراث العربي الطبي. ويوضح محاسني: «المجمع ينظر في المصطلحات على مستويين، مستوى العلوم ومضطر أن يأخذها من اللغة الأجنبية ويضع مقابلات عربية بما يستسيغه المتكلمون ولا يكون معقدا، مثلا في الطب الشريان الرئيسي في الجسم ورد في الكتب العربية القديمة باسم الأورطى وهو نقل حرفي لما هو موجود باليونانية، عدنا إلى كتب عربية أخرى ووجدنا أن كلمة أبهر تعطي نفس المعنى فاصطلحنا على الأبهر».

أما المستوى الثاني فيتعلق بألفاظ الحضارة، أي ما يتعلق بالمهن والحرف ولوازم المنزل والنقل. ويقول: «اضطررنا للتدخل انطلاقا من السؤال لماذا تحتفظ اللوازم المنزلية على سبيل المثال بمسمياتها الأجنبية التي يوجد لها مقابلات عربية؟!».

وباشرت لجنة في مجمع دمشق من ضمن 16 لجنة بالعمل على وضع «معجم ألفاظ الحضارة» في العربية مع ما يقابله في الإنجليزية والفرنسية، ويتضمن ثلاثة أقسام «المهن والحرف» و«ملاحق الملابس والمنزل»، و«لوازم المنزل والحرف» وقد طرح المشروع على المؤتمر التاسع حيث تمت مناقشته مع ممثلي المجامع العربية بهدف التنسيق للوصول إلى معجم موحد يراعي اختلاف الألفاظ ومعانيها بين بلد عربي وآخر. ويرى الدكتور محاسني أن «معجم ألفاظ الحضارة» يمكن أن يكون على ثلاثة مستويات: ما هو للاستعمال اليومي، وما هو للثقافة العامة، وما هو للترجمة.

وفيما يتعلق بالمجالات العلمية والأدبية الجديدة كالمعلوماتية واللسانيات والتجهيزات والتقانات التي لا يوجد لها مقابلات! يقول الدكتور محاسني إن المجمع يقوم بدعوة «أكبر عدد من الخبراء الممارسين لهذه العلوم حتى نستخلص من خبرتهم ما يمكن أن يطلق على هذه المكونات العلمية وعلى المفاهيم الموجودة في هذه العلوم». ومهما كانت المشاريع التي يطرحها مجمع دمشق طموحة فلا يمكن التفاؤل بتحقيق نتائج سريعة لها، كون العمل يجري ببطء لسببين، الأول طبيعة العمل البحثي والتنقيب في التراث اللغوي، وثانيا وهو الأهم ضعف التمويل. فمثلا المشروع المهم الذي أطلقه اتحاد المجامع العربية وهو وضع معجم تاريخي للغة العربية يدرس تطور الألفاظ لملاحظة اختلاف المعنى ودخوله في المجالات المجازية أو تغير الدلالة بتأثير الحضارة الحديثة، هو مشروع ضخم جدا ويتطلب إمكانيات مادية وبشرية كبيرة. وقد تم توزيع العمل فيه بين المجامع وفق التسلسل التاريخي حيث تولى مجمع دمشق وضع القسم الخاص بالعصر الجاهلي، وتم البدء بالعمل به ولا يتوقع أن يظهر شيء منه قبل عامين أو ثلاثة. ويقول مروان محاسني «لدينا مشكلة تمويل، ميزانية المجمع لا تكفي لإنجاز هكذا مشروع يتطلب الكثير وقد بدأنا العمل ونحن نعرف أن إنجازه يتطلب تمويلا من خارج ميزانيات المجامع ولكننا الآن نتحرك ضمن الإمكانيات».

الإمكانيات الضئيلة تعكس مدى اهتمام الحكومات العربية بالالتفات إلى النهوض باللغة العربية ودعم المؤسسات المعنية بحمايتها وفي مقدمها مجامع اللغة في سورية ومصر والعراق والأردن ودول المغرب العربي. ومن المنتظر انعقاد اجتماع اتحاد المجامع في القاهرة شهر أبريل (نيسان) القادم للتخطيط لشؤون اللغة العربية التي من ضمنها عمل المجامع بما يتعلق بالمعاجم واللغة والمصطلحات وما تحتاجه اللغة العربية من تطوير. فهل سيمر كأي اجتماع سنوي روتيني أم نتفاءل بترجمة القرار السياسي العربي إلى واقع يتيح تنفيذ مشاريع مثل الذي طرحه مجمع الجزائر الهادف إلى إدخال أكبر عدد ممكن من النصوص التراثية والحديثة إلى شبكة الإنترنت؟ ومشروع النهوض باللغة العربية الذي أطلق في سورية لمعالجة المشكلات التي ترتبت على اللغة العربية منذ دخولها عالم المعلوماتية؟