مئوية جان جينيه..حدث ثقافي بامتياز في فرنسا

صاحب «أسير عاشق»: انحاز للعرب فأنكروه

جان جينيه ولد منذ مائة سنة («الشرق الأوسط»)
TT

في حوار، يعود إلى ثمانينات القرن الماضي مع الكاتب والمسرحي الفرنسي جان جينيه، نشرته مجلة «الكرمل» التي أسسها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. وهو حوار شيق وقاس أجراه الراحل سعد الله ونّوس، عبّر فيه جينيه عن سخريته من أوهام العرب ومن انبهارهم المَرَضي بالغرب وثقافته المخادعة، بما فيها «وهْم الرأي العام الدولي». وقد كان جان جينيه صادقا في موقفه المناصر للقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ولعل كتابه «أربع ساعات في شاتيلا»، وأيضا «أسير عاشق»، دليل على هذا التعلق، الذي عمَّدَهُ بوصيته (التي تم تنفيذها) في دفنه في مدينة العرائش المغربية.

وقد جاءت الذكرى المئوية الأولى لولادة الكاتب والشاعر والمؤلف المسرحي اللعين (19 ديسمبر/كانون الأول 1910)، في شبه صمت عربي مدوّ. شِبْه صمت، لأن بعض الفعاليات الثقافية في المغرب تذكرته، وخصوصا في مدينة العرائش حيث يوجد الراحل دفينا في مقبرتها الأوروبية المطلة على المحيط الأطلسي، وكان التذكّر حميميّا ومتواضعا.

وليس هو الحال في فرنسا، حيث كرست معظم المجلات الثقافية صفحاتها الأولى وملفاتها لهذا الكاتب المتفرد. وكانت فرصة لإطلاق العديد من التظاهرات واللقاءات، لعل أكثرها أهمية وعمقا، الأنشطة المتنوعة التي أقامها مسرح «الأوديون»، حيث تم تقديمه، لأول مرة، لأن اليمين الفرنسي القوي (الخارج من هزائم فرنسية كبرى، الهند الصينية والجزائر وأفريقيا) كان يعارض بقوة عرض مسرحيات هذا الكاتب الذي لم يُخفِ قط تلذذه بكل المصائب التي تصيب الدول الاستعمارية والغربية، وتصيب البورجوازية. هذا المسرح الذي شهد عرض بدايات مسرحيات جينيه، والتي لاقت معارضة كبيرة من اليمين العنصري الفرنسي، وخصوصا مسرحية «الستائر» سنة 1966 من إخراج روجيه بلين، يوم كانت القضية الجزائرية محتدمة في الأذهان، وقسم من الفرنسيين لا يزال يبكي ضياع الجزائر.

من هذا المنطلق لم تشذّ مجلة «ماغازين ليترير» عن القاعدة. ومن هنا كرست الملف الأكبر في عدد شهر ديسمبر 2010 لهذا الكاتب اللانمطي. وابتدأ مدير التحرير جوزيف ماسي - سكارون، بالكتابة عن جينيه في افتتاحيته، بعنوان: «جينيه، خارج الأسوار». يكتب: «القليل من الكتّاب جرّب الحاجة الشديدة في ألاّ يخضع للإقامة الجبرية. وجود جينيه وبشكل مستمر - حرفيا، وبكل المعاني - خارج ذاته، في حين كان سيلين (الروائي لويس فيرديناند)، يحاول، في كل لحظة، تطويع قارئه وتملّكه وإقناعه وجرّه معه. القارئ في نظر سيلين مخبول، ولكن المُؤلّف والقارئ ينتميان إلى نفس النوع. القضية مع جينيه، وكما يقول فيليب سوليرز، لا تشبه ذلك، فلا يوجد تواطؤ مع القارئ، ولا توجد حميمية. القارئ هو ذلك البعيد، الذي يوجد دائما من الجهة الأخرى للسور الذي يستحيل تسلقه». ويواصل الكاتب تبيان خصوصية جان جينيه: «مثل ديوجين، يعيش جينيه ويتنقل وينتشر خارج الأسوار. مظهره الخارجي يشبه شحاذا أرضيا أكثر مما هو سماوي، (يشير الطاهر بن جلون في كتابه: جان جينيه، الكذّاب السامي، مرات عديدة إلى سروال جينيه الأصحر الذي لم يكن نظيفا، وإلى سترته المتعبة المصنوعة من جلد الأيل وسيجاراته الكريهة) يذكّرنا بالفيلسوف أوجييراس (فرانسوا)، وهو شحاذ آخر في الأدب.

والجدير بالذكر أن إصدار الطاهر بن جلون، لكتابه عن جينيه: «جان جينيه، كذّابٌ سامٍ»، عن «دار غاليمار» الفرنسية. ليس غريبا، وإن كانت مناسبته وتوقيته ظاهرين، فقد كان قريبا منه، حتى وفاته، وضمن ما يورده الطاهر بن جلون في كتابه، بالإضافة إلى كشف 12 سنة من فترة تعارفهما، رصد اللحظات الأخيرة من حياة جينيه، والتي يجهلها الكثيرون وخصوصا لحظات مرضه الشديد وهشاشته، التي لم تشغله، عن بذل جهود خارقة لإتمام كتابه عشية موته: «أسير عاشق». هذا الكتاب الذي سيتجرأ الباحث والأكاديمي الفرنسي إيريك مارتي (أحد أهم المتخصصين في كتابات جان بول سارتر ورولان بارت) على وصفه بـ«معاداة السامية».

جان جينيه يحتاج إلى أكثر من هذا. إنه يحتاج إلى اعتراف وعرفان، لكن من يتحدث، الآن، عن القضية الفلسطينية؟!