الروائي المصري محمد ناجي لـ «الشرق الأوسط»: أعايش مرضي بفرح وأصادقه كعابر سبيل

قال إن الكتابة موقف وسلاح في مواجهة تقلبات الحياة

محمد ناجي
TT

قبل أيام من سفره إلى باريس، استعدادا لإجراء جراحة زرع كبد،بعد اصابته بمرض السرطان, وفي بيته بضاحية مدينة نصر بالقاهرة، وتحت لوحة تشكيلية تومض فيها موتيفات من التراث الشعبي الذي يحبه، استقبلني الروائي محمد ناجي بابتسامة مملوءة بالأمل والشجن، وإيمان عميق بأن دورة الحياة لن تنتهي، فقط تعثرت لبعض الوقت، وسوف تبدأ بتفتح جديد.

وقبل أن يبدأ الحوار فاجأني «شاعر الرواية»، صاحب «خافية قمر» و«العايقة بنت الزين» و«مقامات عربية» و«لحن الصباح».. وغيرها، بقوله: «أنا فرح بمرضي.. راض بما قسمه الله.. كل ما يهمني أن لا أحرم من نعمة الكتابة، أن أكون سندا لنفسي وأولادي».

ولم تكد تمضي لحظات من الصمت حتى بادرته: «إذن هيا نبدأ هذه اللحظة، نحاول أن نستشرفها، ونعيد القراءة والتأمل معا».. فعاود ابتسامته الودود كطفل يحبو على مطالع الستينات من العمر.. وكان هذا الحوار:

* حدثني عن مشاعرك وأحاسيسك وأنت تجابه هذه المرض اللعين، خاصة أن هاجس الكتابة تحول إلى هاجس سباق مع الموت ومحاولة تكبيله، أو تعطيله قبل أن يصل إلى الشوط الأخير، وتنغلق دائرة دائما أرادها المبدع مفتوحة على البدايات والنهايات معا.. كيف تحس شكل الكتابة ومعناها ورموزها ودلالتها في مرآة المرض، وهل تغير وجع الكتابة نفسه أو تراجع أمام وجع عدمي - إن صح التعبير - لا لذة أو نشوة فيه؟

- عشت مرات كثيرة ما هو أقسى من هذا المرض وأخطر. بهذه الروح أواجه مرضي الأخير، الذي يقال إنه مرض قاتل. لكن هناك ما هو أقسى من الموت، وهو الاحتياج. أن يساومك أحد باسمه على مبادئك، هذه لحظات تتمنى فيها الموت حتى لا تفعل هذا.. أنا فرح بمرضي - قد تستغرب هذا التعبير - لكنه أوقفني على حافة خطر، أحسست ما لم أحسه من قبل. استجمعت نفسي، وتعرفت عليها في محنتي، تعرفت على إمكاناتي وقدراتي الدفاعية، واختبرت إيماني بأشياء كثيرة. المرض فتح أبوابا خاصة لي، لم يفتح أبواب حزن، طبعا مؤمل النجاة منه، لكن هذا الأمل لا يصاحبه أي يقين ما، غير أنني راض بما يمكن أن يحدث، وفي أي لحظة. وآمل أن أستمر لكي أنجز، ما لم أكتبه، لأنه في هذه السن المتأخرة من الحياة غالبا لا يحركني سوى شيء واحد، هو أن أكتب، وأن أكون سندا لأولادي.

* تعيش هذا الهاجس الخطر، وكأنه شكل من أشكال التفتح على الحياة وعلى الكتابة، كأنه هاجس خلاصة خبرة وحكمة، خلاصة أمل وحلم. هل لأن اليقين والإرادة سلاحان قويان في عالمك الروائي، تفرزهما بحيوية طزاجة عالمك وأسلوبك المتميز، وتلامسك مع موروثات شتى كنوافذ لرؤى وأفكار.. هل فعلا الكتابة لديك فعل إرادة، من دونها سيظل فعل الإبداع معلقا في أهداب حلم وذاكرة فارغين يدوران على نفسيهما؟

- هذا صحيح بالتأكيد، خاصة أن الكتابة لدي ليست مجرد رداء جميل، أريد أن أطلع الناس عليه، وإنما هي رحلة في الداخل، رحلة اكتشاف شخوص وعوالم ورؤى، والفرح بمعايشة ملامحهم وتعليقاتهم وحيواتهم داخل النص، لكن يصاحب هذا دوما نبش في الداخل، وتكتشف أن هذه الشخصيات التي تستعيرها من عالم خارجي، كانوا يعيشون كاحتمالات في داخلك، حتى ولو كانوا أشرارا. فالتعرف على الذات من خلال الكتابة، ثم الشحن الجميل من فرحك بالكتابة، هذا الفرح هو قمة لذة الاكتشاف، لأنه يثير شجنك وأسئلتك بعمق، ويمنحك المقدرة على إعادة نسج وإدراك الأشياء من حولك في أفق جديد. الفرح يمنح الإنسان قوة. من الأشياء التي أحب أن أذكرها هنا أنني في بداية تصاعد هذا المرض، أجريت عملية حرق كبد «للحد من انتشار الخلايا السرطانية». قبل ميعاد العملية بساعتين كنت أعمل في رواية جديدة اسمها «قيس ونيللي»، وجال لي خاطر سأضيفه للرواية، فقمت وأضفته لها. العملية كانت موجعة جدا، ولم أستطع أن أوقف الصراخ الذي انتابني من شدة الألم، كان يفوق طاقة أي بشر. لكن بعد ساعتين وجدتني أمسك القلم، وأكتب «يوميات السرطان»، بمجرد ما شرعت في الكتابة اختفى الألم تماما. كان هناك مريض راقد جنبي في السرير، وثمة شخص آخر ينظر من حين لآخر، يرعاه لكنه مشغول بالكتابة، ملآن بالأمل، ملآن بالرضا، ملآن باليقين والإرادة، ملآن بالفرح، لأن الألم لم يعيقه أو يشل تفكيره عن الكتابة أو يشل عواطفه ومشاعره تجاه أولاده.. الخلاصة هنا أن لكاتب حتى في لحظات مرضه لا بد أن يمتلك شجاعة في مواجهة العالم بأفكاره. هذه الشجاعة يرسخها يقين وثقة بالنفس، وثقة بطهارتها يرسخها وينقيها فعل الكتابة، والامتلاء المتجدد بها كل يوم.

* شخوصك تتنفس في فضاء العمل الفني، وكأنها تكتشف فيه حريتها وشهوتها الأولى، ما هي اللحظة التي تفرض عليك أن توجه شخوصك، حتى وأنت تراقبهم بعين طفل.. ثم لماذا تنفر من فكرة التصنيف، وأنت كاتب مشغول بقضايا الواقع ومنغمس فيه حتى النخاع؟

- أنا لي فهم محدد لمسألة الواقعية، الواقع ليس هو الواقع الاجتماعي والسياسي فحسب، واقع أي شخص هو وضعه في المجتمع وفي نسيجه الاجتماعي، هو أفكاره وأنساقه الثقافية، التي تتضمن تصورات متخيلة، أو واقعا متخيلا. كما أن واقعه الفكري والثقافي ليس بالضرورة أن يكون واقع مثقف مترفع، أقتحمه وأكتب من نفس مكانه، كما أن أي شخص له جنونه وأوهامه وأخطائه، ورؤيته هو لهذه الأخطاء. لذلك أحرص دوما على أن أقدم الشخصية بكل هذه المحمولات. الشخصية المصرية ثرية، لها عمق حضاري وثقافي وميراث متنوع من الفنون والتراث الشعبي، ولها نظرة خاصة للكون، أحيانا يملأ الكون برحمة إله واسع المغفرة، وأحيانا يملأه بتصوراته الشعبية التي قد يختلط فيها السحر بالخرافة. أنا أحرص أن أصور شخصياتي كما هي، وأنا أستكشفها، وأحس بأنني أكتشف الاحتمالات الموجودة في نفسي. الرجل الذي يطارد مسابقات التلفزيون بحثا عن المال، لا يمكن أن تفصل هذا عن واقع اجتماعي يعيشه، به قدر كبير من الحرمان، هذا الأمل نفسه قد ينظر إليه شخص آخر، وكأنه ينتظر أن تفاجئه العفاريت والجن بهدية ما.. كل هذا وغيره موجود في الواقع، لكن أنا ليست مهمتي أن أعلق عليه كروائي بشكل عابر. يلزمه تعليق أشمل من المفكرين والمختصين.. ظواهر مثل التطرف والتعصب ضد الآخر، برأيي نابعة من إحساس المصري بأنه لم يعد كفؤا لحماية الشخصية المصرية، لم يعد كفؤا لحماية تراثها الحضاري ونسقه الثقافي، الذي أصبح معوجا.

* كتابك الأخير «تسابيح النسيان»، نص ينتمي لقصيدة النثر بامتياز.. لكنك رفضت تصنيفه تحت أي مسمى، ما يهمني فنيا، أنك في هذا الكتاب تقف عاريا أمام مرآة ذاتك.. أنت راوي نفسك، وفي مقام الصوفي، بعيدا عن حيل ومماحكات السرد الروائي.. ما رأيك؟

- هذا صحيح، وهو راجع لطبيعة التجربة نفسها، هي تجربة مرض وتأمل في قضايا الحياة والموت، وهذا يستدعي تأملك لحياتك الشخصية، وفهمك للتاريخ والكون وأفكارك السياسية وأحلامك في الكتابة. هي بالفعل لحظة خطر تعايشها وتسكنك، حتى لو استقبلتها بفرح، أو بشكل طيب، أو بابتسامة عريضة، حتى لو تلمست فيها إضافة جديدة للحياة، وعطية من أعطياتها، لكن مع ذلك يصاحبها إحساس بالخطر، وأنه في أي لحظة، قد تتوقف تماما عن كل هذه التجربة بشكل مباشر. أنا في هذا الكتاب، القارئ على مسافة أقرب مني، لا أراوغه، ولا أصدر له شخصيات أتخفى وراءها، ولا انتزع له سياقا اجتماعيا، لكي أقول له شكرا من بعيد، إنما عليه أن يكون جنبي على السرير. ولأنه قارئ حميم جدا، أردت أن يتلمس أفكاري بشكل مباشر، بلا أقنعة أو تورية، بل في سياق من التفاعل والمكاشفة والصراحة، وأن أبصره بلحظة قد يواجهها. لذلك محتاج لأدنى درجة من الاقتراب، والشفافية الصوفية التي تنفتح فيه الروح بتلقائية على العالم. وكنت فرحا جدا وأنا أكتب هذا النص بأن مشاعري لم تلتبس علي ولا على القارئ. حتى وأنا أتحدث عن لحظات زيف في علاقتي بمحبوبة، أو في علاقتي بنفسي، وجدت أنني أكتشف مناطق منسية في ذاتي. هي لحظة حميمة جدا، لذلك خرجت بهذه التلقائية.

* لك بعض الأفكار وكأنها تلخيص لعالمك الروائي، أو حكمة الكتابة، من قبيل «الكتابة صنعة قلق»، وليست تمردا.. كيف ترى نفسك، والعالم من حولك في سياق هذا القلق؟

- أعتقد أنها ستظل كذلك، وأن أي كاتب ينتج نصا جيدا لا يستطيع إلا أن يكون تحت هذه المظلة «الكتاب صنعة قلق». بمعنى أن كل سطر تقرأه يحركك معرفيا، كل منظر تراه، كل تذوق لفن، كل موقف في الحياة يحركك ويضيف لك، فأنت في هذا اللحظة غير التي فاتت، تتغير والعالم من حولك أيضا. ونحن طلعنا ككتاب في فترة صعبة سقطت فيها آيديولوجيات وقناعات فكرية زلزلت العالم، بعدما كان مستقرا في معسكرين مختلفين ومتصارعين آيديولوجيا. كلاهما له أفكاره ومقولاته المستقرة في السياسة والاقتصاد والفكر والأدب والفن، وله تحيزاته في الأخلاق. الآن خلا العالم من هذا النمط من التعايش، وأصبح قطب واحد أناني ينفرد بقيادته، وتزييف شعارات خصومه الذين انكسروا أو انسحبوا من أمامه بحكم عوامل تاريخية، وتزييف شعاراته هو نفسه، فعندما يكون هناك حديث عن الحرية وعن حقوق الإنسان، ثم وتحت هذه الشعارات تزهق مئات الآلاف من الأرواح، أنا هنا أمام شعارات مزيفة وملتبسة، ويجب أن نعيد فحصها من جديد. العالم انهد آيديولوجيا، لذا علينا أن نطرح الأسئلة من جديد، الأسئلة في عموميتها، وفي ما يخصنا نحن، علينا أن نعيد فحص ما نحن عليه في شتى مكونات الحياة، وأن ننظر للمستقبل بأشكال واقعية.

* هناك من يرى أن الكتابة فعل ذاتي، وأنه لا ضرورة لأن ينغمس الكاتب في واقع فاسد، لأنه معني أساسا بواقع متخيل أو مغاير.. كيف ترى ذلك؟

- للأسف تحت مظلة مثل هذه المقولات تم فصل الشعر، فصل الكتابة، فصل الفن والأدب عن الواقع.. وفي تصوري هي محاولات متعسفة وغير إنسانية. أنا أكتب إذن أنا أنتظر قارئا، أنتظر أن يحبني، وأحزن لو أشاح بوجهه عني. في المقولات النقدية ممكن الكلام عن موت المؤلف، لأنه زاد في نقصه حتى اختفى، لكن لا يستطيع أحد أن يغامر بالحديث عن موت القارئ، لأن ذلك يعني أنك تعدم الكاتب قبل أن يبدأ الكتابة.

* بل تعدم الكتابة نفسها!

- نعم، فنحن أبناء الواقع حتى لو سبحنا في أجواء فانتازية.. يعني «الجوعان يحلم بسوق العيش». هذا المثل المصري البليغ، بجعل الحلم ابن الواقع.

* تنوع عالمك الروائي راجع لتنوع الحياة والعوالم التي ترصدها، أم لاختلاف الصراع، صراع الفرد مع واقعه، صراع المجموع مع السلطة.. وفي كل هذا تصر على استعارة مكان متخيل، وأن اللعبة ليست لعبة قناع؟

- في ما يتعلق بقضية المكان، أحاول دائما أن أخلق مكانا يلائم واقعي، وليس نصا يلائم واقع المكان. لأن الواقع إذا رفضته في اللحظة التي أراه فيها ليس هو الواقع الروائي، أنا أري هذا الواقع، في هذه اللحظة الساكنة والافتراضية تماما، وهي لحظة يتراكب فيها البشر الذين يعيشونه، لكن في هذه اللحظة نفسها ثمة واقع آخر ينهض، ناتج من إحساسهم بالتاريخ، هناك أيضا واقع أحلامهم، فلا بد أن أحرك المكان، أوهم بأنه حقيقي، لكن لكي أجعله مكانا حقيقيا بالمعنى الجغرافي، سأفقد النص كثيرا من أبعاده. أنا أخلق المكان وفقا لواقع الرواية، من إحساسي الواقعي بالبشر، لذلك يتبدل المكان، وأنا أترك لشخوصي مهمة أن تبني المكان بالطريقة التي تناسبها، حتى يكون ملعبا حيا لأفكارها، لأحاسيسها بالماضي، لإحباطاتها ومشاعرها الداخلية، ولنظرتها للمستقبل. لذلك يهمني أولا في عملية بناء الشخصية أن أسبر أغوارها الداخلية العميقة، ثم أضفر هذا في شبكة العلاقات الاجتماعية الخاصة، التي يعيشونها، ثم في واقعهم الاجتماعي والسياسي، فاللحظة الحميمة والواقع النفسي المتصور لدى الشخص وأحاسيسه الذاتية ليست منفجرة أو متولدة من فراغ، ليست انعكاسا لضوء الشمس، وإنما هي لحظة واقعية واجتماعية يصنعها نمط سائد في الاقتصاد والسياسة والثقافة، يجعل المجتمع على هذا النحو، لذا كي أبادره وأقنع به لا بد أن أراه من هذا المكان.

* لكنك أحيانا تتعامل مع المكان وكأنه أثر أو ظل لشخص عابر أو قناع؟

- نعم.. ساعات أشتغل على شخوص لهم رؤى، وأحب أن تتماس مع رؤى تخصني، أو مشترك قد يتمثل في الميل السياسي، في التصورات والأهواء الفكرية. لذلك ألجأ لأشياء أو علامات محددة في النص، تدل على ما أريد أن أقوله. فمثلا ممكن أن أسهر ليلة في صك وتجويد عبارة ما، على لسان أحد هؤلاء الشخوص، لكي تدل علي بصورة غير مباشرة وربما ماكرة. الكاتب صاحب تحيزات، وليس كالسياسي لو ابتعد عن معترك السياسة سينطفئ ويذبل. الكاتب صاحب موقف ورؤية، وإلا فماذا تكتب، لماذا تضيع وقت القارئ في حدوتة، ليست فيها حميمية هذه العلاقة؟ لذلك أحرص عندما أستعير شخصية بسيطة، على أن تكون قادرة بكل ما تحمله من أنساق وأطياف، على أن تقول شيئا. ومن ثم، القناع مجرد شارة وفضاء للمراوغة والحرية، يمكن أن أوصل من خلاله شيئا للقارئ، لكنه ليس محتوى للعمل ككل، وهذا متجسد مع «عباس الأكتع»، بطل «لحن الصباح» أو«نوفل» في الرواية نفسها أو «حسن الأنتيكا»، أو «الأفندي». هناك بعض المقولات البسيطة التي تصدر على ألسنة الفقراء، أرى فيها حكمة لم تمنحني إياها الكتب، لذلك أضعها على لسانهم في النص.

* بالمناسبة.. تنامي الدراما في الكثير من أعمالك، والاقتصاد اللغوي في الحوار والسرد، هل له علاقة بالتعامل مع المكان، كخشبة مسرح مفتوحة ومتنوعة.. وربما يبرر هذا أحيانا الولع بلعبة الظلال، لعبة الخفاء والتجلي في بناء الشخصية.. كيف ترى؟

- هذا صحيح، ويكشف عن الكثير، مما لم أستطع أن أوضحه. أنا حين ألخص المكان وأبدل وأحور فيه، أتعامل مع خشبة مسرح، تظهر عليها شخوص. وقد أثر هذا على طريقة الوصف، حتى للشخوص، فهناك بعض شخصيات رئيسية في أعمالي لم أهتم بوصفها جسديا، طويلة ولا عريضة، أو لون شعره وبشرته. وصفت فقد لون عيني «حبيب الله الأفندي» بأنهما خضراوان في رواية «الأفندي»، لأن لونهما دال في الرواية، خاصة في ما يتعلق بالتشكيك في أبوته، وفي كلام حبيبته له، كما أن تحول لون العينين من الأخضر إلى الأحمر، يدعم فكرة تكثيف الدلالة في النص. وأنا تعلمت هذا التلخيص من الشعر، لأن بدايتي كانت شعرية، والشعر فن حذف، يكتسب قوته وعظمته من قدرته على أن يقول المعاني الكبيرة في أقل الألفاظ، وأن أرى أن الكتابة الجميلة يجب أن تكون محكمة ليس فيها حرف زائد. لذلك أحرص على هذه الروح في رواياتي. علمني هذا أيضا شغلي في الصحافة، كمحرر أخبار، فالجملة التي لا تفيد ولا تعرفك ليس لها ضرورة. من هنا حرصي على شخصياتي، وألا أذكر عنها إلا ما يفيد النص. وهذا لا يخل بالشخصية، أو يبعدها عن القارئ، بل على العكس أفاجأ بأنه يعرفها جيدا، لكنه يستكمل تصوراته عنها على ضوء خياله، وأنا أريد أن أشرك خيال القارئ معي في بناء هذه الشخصية.. حينما رصدت شخصية «عباس الأكتع» لم أصف أي شيء فيه، لا له ذقن أو شارب، أو لون شعره كذا، هو فقط مجرد شخص أقصت الحرب أطرافه، قطعت رجليه، وطيرت راحة يديه، أبقت له فقط على أصبع وحيد في اليد اليسرى. هذا هو «عباس الأكتع»، الذي أردت أن يركبه القارئ كيفما يشاء على أي وجه يصادفه في الشارع.. فما يهمني هنا هو الحالة.

* هل يرجع هذا لروح الحميمية والمعايشة لأبطالك، حتى إنك أحيانا تتبادل معهم الأدوار، وهل لأنك تكتب عما تحبه وتحسه بالفعل، بعيدا عن عباءة الأفكار المحددة سلفا أو التي ترد في سياق آيديولوجيا ما.. وعلى ذلك دعني أسالك هل لديك أو في مخيلتك تصورات عن كتابة ما بعد إجراء الجراحة بنجاح إن شاء الله؟

- أنا لست مشغولا حاليا بما سأكتبه، لو أفلت من قبضة هذا المرض الخطير، أو هذا القدر الذي يعمل حسابه. لكني مشغول بما يمكن أن أكتبه قبل أن أدخل غرفة العمليات، لأن في دماغي كتابات كثيرة. فعلى سبيل المثال، لا يزال لدي حلم بأن أكتب رواية عن حرب أكتوبر (تشرين الأول) التي عايشتها، وأرصد نبض قلب الجندي البسيط على الجبهة، في تلك اللحظة الحاسمة من التاريخ.. أيضا يهمني أن أكتب عن تحولات المشاعر في المجتمع المصري.. جيلنا انكساراته كبيرة، وأحلامه أيضا، جيل ابن نكسة.. أنا مشغول بكتابة رواية عن «سمنود» بلدي، وكانت عاصمة لمصر القديمة في أحد العصور الفرعونية. مورثونا غني وخصب.. صدقني الأحلام كثيرة يا صديقي، واللحظة نفسها التي أعيشها مليئة بتفاصيل كثيرة.. أتمنى أن يمن علي بالوقت لكي أكتبها.