هل يمكن أن يكون الجهل مقدسا؟

المفكر الفرنسي أوليفييه روا المختص بالحركات الأصولية في كتاب جديد

غلاف الكتاب
TT

هناك كتب تستحق أن تُقرأ، لأنها تفسر القضايا الكبرى الساخنة بشكل جدي وتلقي عليها أضواء ساطعة. ومن بينها كتاب الباحث الفرنسي، أوليفييه روا، أحد كبار المختصين بالحركات الأصولية المعاصرة، وعنوانه هو: «الجهل المقدس.. عصر التدين المفرغ من كل ثقافة أو فكر».

منذ زمن طويل وأنا أبحث بشكل واع أو لا واع عن مصطلح واحد يلخص المرحلة بأسرها دون أن أجده. كنت أدور حوله وألف دون جدوى. وأخيرا عثرت عليه بالصدفة عند هذا الباحث المتخصص في شؤون كل الحركات الأصولية من يهودية ومسيحية وإسلامية.

هذا المصطلح الذي شفا غليلي وأضاء لي عتمات قلبي هو: «الجهل المقدس». هكذا تلاحظون أنه عن طريق الجهل وصلت إلى مبتغاي؛ فهل يعقل ذلك؟! قبل أن أشرحه وأضيء المرحلة كلها من خلاله سوف أقول إن المفكرين الحقيقيين هم وحدهم الذين يستطيعون التوصل إلى مرحلة بلورة المصطلحات الكبرى التي تضيء بطرفة عين غياهب الظلمات. لن أعظّم في شأن أوليفييه روا أكثر مما يجب، ولن أجعل منه هيدغر العصور الحديثة. ولكن كفاه فخرا أنه توصل أخيرا إلى بلورة هذا المصطلح الفعال والناجح؛ مصطلح واحد يكفي لتخليده، ومعلوم أن المصطلحات الذكية أو العبقرية هي عكازات الفكر. فهو لا يستطيع أن يتقدم إلى الأمام وينير العتمات من دون الاعتماد عليها. فكر من دون مصطلحات دقيقة هو عبارة عن مواضيع إنشاء أو ثرثرات فارغة. إنه إلقاء للكلام على عواهنه لا أكثر ولا أقل. قد تقولون بعد أن يكون قد نفد صبركم: يا أخي، بالله عليك فرّغ ما في جعبتك، وقل لنا أخيرا ما هو هذا «الجهل المقدس» الذي سحرك إلى مثل هذا الحد؟ أنتم تعلمون أيها السادة أن الجهل كلمة سلبية لا إيجابية؛ فما بالكم في أن يصبح مقدسا؟ هل هذا معقول؟ هل يضحك علينا الباحث يا ترى؟ هل يستفزنا؟ هل يقصد مثلا أن الجهل أفضل من العلم؟ هذا المصطلح ينطوي على نظرية كاملة سوف أشرحها لكم ولنفسي على النحو التالي: يرى أوليفييه روا أن العولمة على عكس ما نظن، شجعت على ازدهار الحركات الأصولية، سواء اتخذت هذه الأصولية شكل السلفية الإسلامية أو السلفية البروتستانتية الأميركية، أو السلفية اليهودية الصهيونية أو غير الصهيونية.. إلخ. انظر المواقع الأصولية على الإنترنت فعددها بالمئات إن لم يكن بالآلاف المؤلفة! وهذه الأصوليات السلفية ترى في الثقافة الدنيوية القديمة والحديثة نوعا من الوثنية التي تبعد عن الله. وبالتالي فما يميز الأصوليات المعاصرة ويشكل سمة مشتركة لها كلها هو العداء للثقافة.. لماذا؟ لأنها في رأيهم إما أنها لا تضيف شيئا جديدا إلى الدين، وبالتالي فلا نفع فيها، وهذا في أحسن الحالات، وإما أنها تشكل حجر عثرة أمام أداء الفرائض الدينية، وتبعد عن الله وهذا في أسوأ الحالات. وبالتالي فهي مضيعة للوقت وشر في كل الأحوال. ينتج عن ذلك أن الجهل يصبح لأول مرة قيمة إيجابية بامتياز، بل ويرتفع إلى مرتبة القداسة والتقديس. إنه الجهل بالعلم والعلم بالجهل؛ فالجهل بالسينما والمسرح والموسيقى وكل النظريات الفلسفية والأدبية واللوحات الفنية يصبح غاية الغايات. إنه الجهل المقدس: أي الجهل الذي يحمينا من التلوث بموزار وبيتهوفن ورافائيلو ومايكل أنجلو وفان غوخ وألف ليلة وليلة ونجيب محفوظ وغادة السمان.. إلخ. هذا بالإضافة إلى أفكار أفلاطون وأرسطو وابن سينا والمعري وابن رشد وكانط وهيغل وكل الفكر الحديث. ما أجمل هذا الجهل وما أرقاه وما أعظمه!

أكاد أقول: «اللهم زدنا جهلا على جهل، وظلاما على ظلام! اللهم اعم قلوبنا نهائيا».. قد تضحكون وتقهقهون وتقولون إني ألعب وأتسلى على هواي، وإني لست جادا. لقد أصبحت سفسطائيا. لا، أيها السادة إني جاد كل الجدية. وأكبر دليل على ذلك هو أني أنا شخصيا كنت مفعما بالجهل المقدس في طفولتي الأولى. نعم كنت أصوليا انغلاقيا سلفيا بالمعنى الحرفي للكلمة. وكنت أحلم بهجرة المجتمع والقرية والاختلاء في البراري والقفار، حتى يحين أجلي، فأدخل الجنة بعدئذ طاهرا مطهرا دون أن أكون قد تلوثت بالثقافات الفارغة لهذا العالم الأرضي. من يصدق ذلك؟ أنا نفسي لا أكاد أصدق ما أقول. ومع ذلك فهذه هي الحقيقة. صدقوا أو لا تصدقوا. كان هذا حلمي، مثلي الأعلى آنذاك، قبل أن أكتشف العلم المحرم والثقافة الدنيوية. وقد حصل ذلك على يد اللبنانيين والمصريين، من أمثال نعيمة وجبران والمازني والعقاد والمنفلوطي والنظرات والعبرات والآنسات والسيدات.. هذا ناهيك عن الثقافة الفرنسية والأوروبية لاحقا.

باختصار شديد يقول لنا أوليفييه روا ما معناه: إن الأصوليين السلفيين هم أولئك الذين يفهمون الدين كقطب مضاد للثقافة، أي لكل ما حصل في التاريخ منذ لحظة الأصل التأسيسية وحتى الآن. إنهم يرفضون الثقافة كليا بما فيها الثقافة الدينية نفسها!

وهكذا يختزلون الدين إلى مجرد جملة من الفرائض والشعائر، والمحظورات والممنوعات، والحلال والحرام. إنهم ينظرون إلى الثقافة وكأنها كلها مادية، الحادية، بورنوغرافية، تبعد عن الله، وبالتالي فتحاشيها ضروري للحفاظ على نقاء الإيمان وصفاء العقيدة. يحصل ذلك كما لو أنه كلما ازددت جهلا ازداد إيمانك عظمة! بهذا المعنى يصبح الجهل مقدسا ومطلوبا ومرغوبا. ولكن موقفهم هذا مناقض لموقف كبار العلماء والفلاسفة الذين يقولون لك إن التدين الحقيقي هو ذلك الذي يجمع بين العلم والإيمان، أو بين الدنيا والآخرة. وهذا منصوص عليه في القرآن الكريم نفسه: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، ومنصوص عليه في الحديث النبوي الشريف: «اطلبوا العلم ولو في الصين»، كما أنه موصى به من قبل كل علماء المسلمين الكبار الذين انفتحوا على الثقافات الأجنبية في وقتهم، كالثقافة الهندية والفارسية واليونانية وسواها، وأبدعوا لنا كل هذه المؤلفات التراثية الرائعة التي شكلت مجد العرب إبان العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية. وهي لا تزال تدهشنا حتى الآن بعمقها وجرأتها واستنارتها. وبالتالي فالإسلام الحنيف إذا ما فهمناه على حقيقته، الإسلام الذي أشع على العالم يوما ما، هو إسلام العلم والعقل والنور، لا إسلام الجهل والجهالات.