غضب الشباب العربي يختمر «فيس بوكيا»

الغربيون يحللون الظاهرة على ضوء الدراسات الاجتماعية وعلم تاريخ الثورات

TT

تغلي صفحات الإنترنت العربية، وموقعا «تويتر» و«فيس بوك» بدعوات احتجاجية وغضب يأتي من كل حدب وصوب. فإضافة إلى المصريين والتونسيين، هناك جزائريون وأردنيون وسودانيون ويمنيون وسوريون، وآخرون، يرون فيما فعله شباب مصر وتونس مصدرا للإلهام. هل كتب للثورات العربية أن تنطلق من الأجهزة الإلكترونية؟ وكيف نظم المصريون أنفسهم إنترنتيا قبل وبعد انطلاق شرارة الاحتجاجات؟ وهو ما يقيس عليه العرب الباقون اليوم لجعل غضبهم الافتراضي واقعا معيشا.

لعب الإنترنتيون دورا أساسيا في التحضير للمظاهرات المصرية في الظل على مدار السنوات القليلة الماضية، قبل أن تتحول من افتراضية إلى مظاهرات على الأرض، وصفت بأنها الأولى من نوعها في تاريخ الشعب المصري. فالموعد الذي ضربه الشباب المصري لبعضه البعض على موقعي «فيس بوك» و«تويتر» وكذلك على المدونات للتظاهر الاحتجاجي يوم «عيد الشرطة» في 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، كان نقطة البدء لمظاهرة شبابية ستجعل العالم كله يرصدها عن قرب، ويعيد حساباته، بدءا من الجيران وصولا إلى الصين التي بادرت بحجب البحث عن مفردة «مصر»، تفاديا لعدوى الغضب التي قد تصيب شبابها. وهذا الموعد الذي عمم لم يكن سوى محطة واحدة لمسار طويل من التواصل الشبابي الإنترنتي الذي لم يترك نقطة إلا وناقشها كما اقترح حلولها، وحضر لوقفات واعتصامات غاضبة عديدة قبل الوصول إلى المظاهرات الأخيرة.

فمعلوم مثلا أن إسراء عبد الفتاح التي باتت تعرف بـ«فتاة الفيس بوك» كانت قد دعت إلى إضراب 6 أبريل (نيسان) 2008 عبر موقع «الفيس بوك» احتجاجا على الغلاء وقمع الحريات. وبعد أن وجدت دعوتها صدى عند آلاف الناشطين الإلكترونيين وتظاهروا في الشارع، ألقي القبض عليها 3 مرات منذ ذلك التاريخ وأخلي سبيلها لتكون عبرة لغيرها. ومع ذلك شاركت إسراء الصحافية والناشطة بزخم في المظاهرات المصرية، ولم يتوقف نضالها التواصلي مع الغاضبين من أمثالها.

ولكن لماذا يتمكن هؤلاء الشبان من التفاعل الإلكتروني فيما كان يشكو الجيل الذي سبقهم من أي عمل جماعي متماسك حتى ولو توافرت لهم اجتماعات علنية يتناقشون خلالها؟ تجيب المدونة نوارة نجم ابنة النجمين المعروفين أحمد فؤاد نجم وصافيناز كاظم على النحو التالي: «لأننا تحت نظام قمعي، وفي قانون طوارئ منذ 30 سنة، الأمن يتحكم في كل شيء.. في التعليم، في الدين، في الأحزاب». وتضيف نوارة: «بطبيعة الحال لا نستطيع النزول إلى الشارع بسهولة، فكانت الإنترنت المنفذ الوحيد لنتصل ببعضنا البعض. كل مواطن كان يحاول التعبير عن غضبه عبر الوسيط الإلكتروني فتلاقينا وعرفنا أن الألم المصري واحد. كل واحد كان يظن نفسه وحده وأن ألمه شخصي». وتكمل: «لكن اتضح ان ده ألم شعبي، والديكتاتورية تحمل عناصر تدميرها بداخلها».

إحصاءات رسمية تشير إلى أن 23 مليون مصري، يدخلون بشكل منتظم أو شبه منتظم على شبكة الإنترنت، مما يعني أن ربع سكان البلاد يتواصلون افتراضيا بشكل دائم ويتبادلون المعلومات والتعليقات. لكن كيف تمكن هؤلاء الشباب من التشبيك بعباراتهم القصيرة المختزلة، ولغتهم التي غالبا ما تبقى في إطار العامية؟

عودة إلى المدونات توضح أن الناشطين كانوا يعرفون تماما ما يريدون، وأنهم كما اهتموا بالسياسة، تحاوروا حول أزمة الخبز والماء والتعليم والبطالة. يوم 25 يناير كان محاولة إضافية للاحتجاج. كثيرون ربما لم يكونوا يصدقون أن المسألة ستنتهي بهم إلى هذه المظاهرة الكبرى.

تقرأ على إحدى المدونات أن الدعوة للتظاهر جاءت كالتالي: «لو خايف على مصر.. لو فعلا عايز تطالب بحقك.. شارك وكفاية سكوت. لو جوه مصر انزل للشارع وشارك يوم 25 يناير، لو بره مصر ادعو كل أصحابك وأقاربك للمشاركة معنا في أي من الوقفات الاحتجاجية، لو موجودين في نيويورك أو واشنطن أو تورونتو أو لندن، شارك، وبعدها تتوالى الاحتجاجات من المصريين حول العالم. لازم تحضر اليوم ده للأهمية القصوى».

ويحدد هذا المدون كما هو حال مدونين آخرين غيره، مكان الاحتجاج في مصر وفي العواصم المذكورة مع مواعيدها. لقد انتشرت الدعوة لتتجاوز 75 ألف شخص، وتوالت التعليقات عليها والنصائح التي يتداولها الشباب على صفحاتهم وخلال إبحارهم، خاصة أن عددا من صفحات «تويتر» و«فيس بوك» خصصت لهذه الغاية. فهناك صفحة «كلنا خالد سعيد» التي باتت أشهر من نار على علم، وصفحات للبرادعي وأخرى لشباب «6 أبريل». هذا غير الفنانين من أمثال خالد الصاوي الذين استغلوا نجوميتهم وصفحاتهم لجذب الناس.

ويقول المعارض المصري المعروف، الحاصل على جائزة نوبل للسلام محمد البرادعي، إنه عاد إلى مصر بدعوة إنترنتية وجهها إليه مجموعة من الشباب يطالبونه بالوقوف إلى جانبهم وقيادة حركتهم المعارضة، وإنه لم يرد على الرسالة حينها. إلا أنه في إحدى مقابلاته التلفزيونية ذكر هذه الرسالة، فشعر الشباب حين سمعوا كلامه بالأمل، وعاودوا الاتصال به.

وبصرف النظر عن السبب الحقيقي لعودة البرادعي، فإن الشباب المصري لم يكن وحده على الشبكة، بل كان على تواصل مع التونسيين الذين سبقوه إلى التظاهر، وكذلك غيرهم من العرب الذين يقاسمونه المعاناة. وبمجرد أن عرف الشباب التونسيون بما يحضر له المصريون انهالوا عليهم بسيل من خبراتهم. وهنا عينة من النصائح التي أرسلت للمتظاهرين من إخوانهم الفخورين بما حققوه بعد رحيل رئيسهم زين العابدين بن علي.

«إخواننا في مصر لنجاح ثورتكم عليكم بما يلي: المظاهرات تكون ليلا وهذه لها عدة فوائد، تقللون من فرص القبض عليكم ومن فرص معرفة هوياتكم، تستطيعون النجاة من عمليات التصوير، ترهقون قوات مكافحة الشغب. فأنتم تثورون ليلا وتنامون نهارا. وهم في حالة طوارئ قصوى ولا يستطيعون النوم ومن ثم يكونون ضعفاء. وهكذا تمنعون عمليات الخطف وزوار الفجر. إياكم وعمليات الانتحار فإذا كان مصيرك الموت فليكن برصاص طاغية. استغلوا الإعلام لتبليغ صوتكم فالضغط الخارجي رهيب جدا. هااااام بالله عليكم، من تونس الشقيقة إلى كل إخواننا الثوار في مصر: استخدموا (الاسبراي) الأسود أو البويا لتغطية زجاج السيارات المصفحة لتشلوا حركتها». وتضيف النصيحة التونسية: «ملاحظة هامة: غسل الوجه بالكوكاكولا يزيل فورا مفعول القنابل المسيلة للدموع.. جربنا هذا في تونس حتى باتت قنابلهم بلا جدوى.. الله معكم يا مصريون».

انتشرت الرسالة التونسية على نطاق واسع، عمل المتظاهرون ببعضها وأهملوا البعض الآخر. فلكل تجربته وظروفه. لم يتوقع المصريون أن تقطع خدمة الإنترنت كما التليفونات الجوالة بشكل كامل، راهنوا على «البروكسي» الذي يمكنهم من دخول الصفحات المحجوبة. الانقطاع الكامل أو ما يشبه الكامل للخدمة، جعل صفحات الإنترنت خالية من النشاط المصري منذ يوم 27 يناير، وكأنما الشباب غادروا إلى مكان آخر، وبقيت كلماتهم التي سجلوها آخر مرة معلقة بانتظار عودتهم ليكتبوا صفحات جديدة. وكان بمقدورك أن تقرأ آخر عبارات كتبوها، ونداءات حضروها لمظاهراتهم: «مش مهم مين الريس، المهم نعيش كويس»، و«هو المجلس مجلس مين مجلس نهب المصريين»، و«قول للأمن يقتل فينا لا حا يخرسنا ولا ينفينا». ويعلق أحدهم على «الفيس بوك»: «إذا أردنا نجاح هذه الثورة فعلينا بقطع رأس الأفعى، لا بد من التوجه في ثورة بالملايين ومحاصرة مبنى وزارة الداخلية وكل الإدارات التابعة لها حتى يتم شل عمل الوزارة، بعد ذلك علينا بمناداة الجيش للتدخل لحماية الشعب. فثورة تونس لم يعلن انتصارها وهرب الرئيس إلا بعد محاصرة الوزارة». خطة مكملة مقترحة من شابة مصرية: «يوم الجمعة نستمر في المظاهرات حتى يستجيبوا للمطالب.. حل مجلسي الشعب والشورى، وإلغاء قانون الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين. فإذا لم تستجب الحكومة فسنستمر حتى الجمعة التالي ولكن عندها لن نرضى إلا بإسقاط النظام تماما.. وعلينا أن نجهز قائمة بأعضاء الحكومة المؤقتة التي نطالب بها حتى لا نقع في مأزق تونس».

قد لا تكون مصادفة أن نرى أن ما حدث على الأرض بعد ذلك مشابه لما خطط له على الشبكة العنكبوتية. فالشباب أنفسهم الذين كانوا ينشطون افتراضيا ذهبوا ليتظاهروا. انقطاع خدمة الإنترنت لا بد أربكهم، وأخذ من يتمكن من التسلل إلى الشبكة يحاول أن يعطي نصائحه بطريقة اختراقها طالبا من الآخرين أن يحذو حذوه. لكن الانقطاع كان بالفعل كبيرا، وتم رصد انخفاض في دخول الشبكة من قبل المصريين وصل إلى 97 في المائة. وفي اليوم الخامس عادت الخدمة، ورجع الشباب لتسجيل رسائلهم، ما بين فرح حتى الإحساس بأن الثمرة قد باتت طازجة لقطفها، وآخر متحسب مما قد يسفر عنه كل هذا المخاض العسير، فيما رصدت في هذا اليوم حركة قوية للمؤيدين للرئيس المصري يحذرون من استمرار التظاهر خوفا من انزلاق مصر إلى المجهول.

ولا بد من الإشارة إلى أن الجزائريين بمجرد أن سمعوا عن نية رئيسهم برفع حالة الطوارئ، بينما كانت مصر لا تزال تتظاهر غاضبة، بدأوا يتحدثون عن حقهم هم أيضا في رفع الصوت من جديد بعد مظاهرات أخمدت.

ظاهرة تحضير الثورات الشبابية على الإنترنت، أثارت فضول الصحف الغربية التي استنطقت محلليها الاجتماعيين والنفسيين كما المؤرخين لفهم ما يدور في العالم العربي.

كاترين لاكور أستول، وهي متخصصة في التاريخ الحديث، شرحت لصحيفة «لو فيغارو» الفرنسية، في معرض محاولتها تفسير هذه الظاهرة العربية، على ضوء ما حدث في ثورات أخرى في العالم قبل زمن الإنترنت. وقالت أستول إنه بالتأكيد ثمة عوامل عديدة تتفاعل لتجعل شعبا ما يصل إلى حد الانفجار. والناس في مثل هذه الحالات يتواصلون لينظموا تفكيرهم ثم ليدبروا خطواتهم التنفيذية، وما كان يفعله الثوار الأوروبيون أثناء الحربين العالميتين هو توثيق عرى التواصل فيما بينهم عبر العائلة والمعارف والأصدقاء حتى تكبر الحلقة، وهو ما يستعيض عنه الشبان العرب اليوم بالإنترنت.

وتقول أستول: «التواصل يسمح بكسر عزلة الفرد. فقادة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال عام 1940-1941 كان يساورهم الشك. كل منهم كان يسأل نفسه: هل أنا وحدي من أحلل الوضع بهذه الطريقة؟ هل وحدي من أشعر برغبة في التحرك وفعل شيء ما؟ كان التقاء المقاومين مع بعضهم البعض سببا رئيسيا لقتل الشكوك حول صحة ما يفكرون فيه. الإنترنت الآن هي التي سمحت بكسر عزلة الأفراد، ووصول كل منهم إلى الإجابة التالية: أنا لست وحيدا، وها هم الآخرون مثلي ومعي».