الله أعطى أميركا دورا خاصا في تاريخ البشرية

نظرية يدعمها «حزب الشاي» وتقرها «واشنطن بوست»

TT

ثقافة الاستعلاء والإحساس بالتمايز ليست جديدة على الأميركيين، لكن الوضع يتفاقم بعد أن أخذ «حزب الشاي» يشدد على هذه المقولة، ويبتكر حولها المصطلحات، ويؤلف أعضاؤه الكتب التي تدعمها. وكشفت دراسة أجريت مؤخرا أن 60% من الأميركيين يعتبرون أن الله أعطى أميركا دورا خاصا في تاريخ البشرية. ما هي جذور فكرة أن الأميركيين هم شعب الله المختار؟ وكيف تتجلى أعراضها على المصابين بها؟

يمكن القول إن كلمة «اكسبشناليزم» (الاستثنائية) جديدة في النقاش وسط المثقفين الأميركيين، لأنها ظهرت خلال الشهور القليلة الماضية، مع ظهور حزب الشاي (الجناح اليميني في الحزب الجمهوري). ومعناها، كما يفسره مثقفون يمينيون، هو أن الثقافة الأميركية هي الأعلى والأحسن، ليس ذلك فقط، بل إنها يجب ألا تقارن مع الثقافات الأخرى، لأنها «اكسبشنال» (حالة استثنائية)، وكل أميركي يقول غير ذلك «خائن»، وكل أجنبي يقول غير ذلك «جاهل».

لكن الحقيقة هي أن هذه الاستثنائية الأميركية ليست نظرية ثقافية جديدة، وعمرها عمر الولايات المتحدة، بل وقبل تأسيس الولايات المتحدة.

في الوقت الحاضر، يرفع شعار الاستثنائية خليط من مثقفين وسياسيين يمينيين. وهم محظوظون لأن:

أولا: سيطر الجناح اليميني على الحزب الجمهوري.

ثانيا: سيطر الحزب الجمهوري على مجلس النواب.

ويخطط الحزب ليس فقط لمعارضة الرئيس باراك أوباما، ولكن، أيضا، لإسقاطه في انتخابات الرئاسة بعد سنتين.

وهكذا، تظهر على الساحة الأميركية «حرب ثقافية» جديدة، هي ضمن سلسلة مستمرة من الحروب دارت خلال الثلاثين سنة الأخيرة، منها:

أولا: «حرب» الثقافة الأميركية والسود (مناقشات بقايا تجارة الرقيق والتفرقة العنصرية).

ثانيا: «حرب» الثقافة الأميركية واللاتينيين (مناقشات المهاجرين من المكسيك وغيرها).

ثالثا: «حرب» الثقافة الأميركية والإسلام (مناقشات هجوم 11 سبتمبر/ أيلول والحرب ضد الإرهاب).

لكن الحرب الجديدة لها انعكاسات عالمية، سياسية وثقافية، لأن فكرتها، كما قالت صحيفة «واشنطن بوست» في تقرير عن الموضوع، هي أن «الولايات المتحدة أرفع من بقية شعوب العالم، وأن هذا شيء طبيعي».

يعني هذا أن الأميركيين يجب حتى ألا يتناقشوا في الموضوع، ناهيك عن الشعوب الأخرى. وعن هذا صدرت أخيرا أربعة كتب:

الأول: كتاب حاكم ولاية ماساشوستس السابق، ميت رومني: «لا اعتذار: دفاع عن العظمة الأميركية». وقال في مقدمته «كل من يحاول تغيير الاستثنائية الأميركية مضلل ومفلس».

الثاني: كتاب مايك بانس، عضو الكونغرس من ولاية إنديانا «استعادة الاستثنائية الأميركية: الطريق نحو نمو اقتصادي وازدهار».

الثالث: كتاب سارة بالين، حاكمة ولاية ألاسكا السابقة، وكانت ترشحت نائبة لرئيس الجمهورية «أميركية من القلب». وفيه فصل عنوانه «أميركا الاستثنائية».

الرابع: كتاب نيوت غينغرتش، زعيم مجلس النواب السابق «التغيير الحقيقي: قتال من أجل مستقبل أميركا»، وفيه فصل عن «الاستثنائية في ماضي أميركا».

صحيح أن كل هؤلاء سياسيون، ومن الحزب الجمهوري، وبعضهم من الجناح اليميني في الحزب، لكنهم يرون أنفسهم مثقفين أيضا. ولهذا يتعمدون إصدار كتب.

وإنصافا لهم، بعضهم يمكن اعتباره مثقفا، مثل غينغرتش الذي كان أستاذ تاريخ قبل أن يصبح سياسيا، والآن وهو خارج الكونغرس، عاد يدرس التاريخ. لكن، إنصافا للمثقفين الحقيقيين (في أميركا وفي كل العالم) يجب أن يكون هناك حاجز من نوع ما، مثل ترجيح صفة المثقف (الذي يفكر) على السياسي (الذي يحكم).

شيء آخر يتعمده هؤلاء السياسيون لينظر إليهم الناس وكأنهم مثقفون، وهو الكتابة عن المواضيع النظرية والعقائدية. لهذا، وضعوا شعار «استثنائية أميركا» في قالب فلسفي. وقالوا إنهم لا يختلفون مع الرئيس أوباما وقادة الحزب الديمقراطي لأسباب سياسية فقط، لكن لأسباب عقائدية.

كتب رومني «أوباما اشتراكي، والاشتراكية لا مكان لها في أميركا». وكتب حاكم ولاية أركانساس السابق، مايك هاكابي «تختلف نظرة أوباما إلى العالم عن أي رئيس قبله، ديمقراطي أو جمهوري. إنه، ويا للويل، ينفي الاستثناء الأميركي، الذي هو قلب وروح هذه الأمة».

وهكذا يبدو أن «الاستثنائية» لم تأت صدفة بعد أن صار لأميركا أول رئيس أسود. طبعا، لا يقدر هؤلاء على انتقاد أوباما لأنه أسود. لكنهم، بطريقة خفية وغير مباشرة، يعبرون عن إحساس تاريخي وعميق وسط الأغلبية البيضاء التي تسيطر على السياسة والاقتصاد والثقافة.

وعن هذا قال وليام غالستون، خبير في الشؤون الثقافية الأميركية في معهد «بروكنغز» في واشنطن «هذه طريقة محترمة للتساؤل عما إذا كان أوباما واحدا منا».

وربما أسهم أوباما نفسه في جلب هذه المصائب على نفسه. فقبل سنتين، خلال زيارة إلى بريطانيا، سأله مراسل صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية «هل أنت من مدرسة الاستثناء الأميركي؟ هل ترى أن أميركا مؤهلة على نحو فريد لقيادة العالم؟»، وكان واضحا أن الصحافي البريطاني له مآرب أخرى من وراء سؤاله. أجاب أوباما «أؤمن بالاستثنائية الأميركية، مثلما أن البريطانيين يؤمنون بالاستثنائية البريطانية، واليونانيين يؤمنون باستثنائية يونانية».

رغم أن «استثنائية» أوباما كانت معتدلة، وهي أن كل شعب يرى نفسه «استثنائيا»، كانت سارة بالين من أوائل الذين سارعوا وانتقدوا أوباما، وكتبت «أوباما يقول إنه، في نهاية المباراة، يجب أن ينال كل لاعب جائزة حتى لا نؤذي مشاعر الذين لا يستحقون جائزة. أنا أقول: نعطي الجائزة للأحسن».

لكن، كان جيمس ويلسون، وهو مثقف مرموق، أقل تطرفا. وكتب «الذنب ليس ذنب أوباما. الذنب ذنب الرئيس السابق بوش الابن الذي استخدم القوة لنشر المبادئ الأميركية الاستثنائية». ويعنى كلامه شيئين:

أولا: إذا كان الفكر الأميركي استثنائيا حقيقة، لا يحتاج للقوة لنشره.

ثانيا: يجب ألا تكون القوة جزءا من الفكر الأميركي.

وقال الرأي نفسه تقريبا مثقف أميركي مرموق آخر، هو مارتن ليبست الذي كتب «ثقافة الأمة خمس كلمات: حرية، فردية، مساواة، وطنية، وعدم التدخل في شؤون الآخرين حتى لا يتدخلوا في شؤوننا».

لكن، لا يمكن التقليل من إحساس «الاستثنائية» وسط الشعب الأميركي. ومؤخرا، أوضحت دراسة أجراها قسم الدين والمعتقدات في معهد «بروكنغز» في واشنطن أن ستين في المائة من الأميركيين أجابوا بالإيجاب عن الجملة الآتية «الله أعطى أميركا دورا خاصا في تاريخ البشرية».

ربما أن التأييد سيكون أقل لو كان السؤال عن «استثنائية» أو «استعلاء» أو «استكبار». وذلك لأن هذه كلمات قوية، ولأن الأميركي، ربما مثل أي شخص آخر، يريد أن يفتخر بنفسه، من دون أن يؤذي مشاعر الآخرين. لهذا، تبدو كلمة «دور خاص» أقل إساءة إلى الآخرين.

لكن، تظل كلمات مثل «استثنائية» و«استعلاء» و«استكبار» تعيش وتنمو وتمرح وتفتخر وتنشد وتغني في أعماق الشعب الأميركي، لأنهم يرون وطنهم أكثر بلاد العالم حضارة، ولأنهم يفسرون الحضارة بأنها: أولا: التعليم، وثانيا: العلم، وثالثا: الحرية، ورابعا: العدل.

كتب مارتن ليبست «تطور الفكر في أميركا على أسس: الحرية والمساواة والوطنية والفردية». ويرجع هذا التعريف إلى ألكسيس دي توكفيل، أول من وصف الولايات المتحدة بأنها «استثنائية»، مشيرا إلى مفكر بريطاني زار الولايات المتحدة في بداية القرن التاسع عشر، وعاد وكتب، في سنة 1840، كتاب «الديمقراطية في أميركا».

ومن المفارقات أن «الاستثنائية» نفسها استعملها شيوعيون أميركيون في سنة 1920، بعد نجاح الثورة الشيوعية في روسيا، وانتقال الفكر الشيوعي إلى أميركا. وكان هدفهم أن «استثنائية» أميركا تجعلها أفضل مكان لنشر الشيوعية. وكتب ألبرت فرايد في كتابه «الشيوعية في أميركا»: «أشار أفراد من الحزب الشيوعي الأميركي إلى دولة عذراء، وإلى مواردها الطبيعية وقدرتها الصناعية، وعدم وجود فوارق طبقية جامدة».

لكن، قبل ذلك بثلاثمائة سنة، كتب واحد من أوائل المثقفين الأميركيين، جون ونثروب، في سنة 1630، عن «مدينة تطل على التل». كان مثقفا وكان رجل دين. وكان يقول، قبل مائة وثلاثين سنة من استقلال أميركا، إن أميركا يجب أن تكون «مدينة تطل على التل». هذه عبارة من الإنجيل، منسوبة إلى عيسى المسيح، أشار إليها في «خطبته الدينية على التل»، في آخر أيامه.

وكتب ليبست أن هناك ثلاثة تيارات تحمل لواء «الاستثنائية الأميركية».

أولا.. الديني: الذي يرى من الحلم الأميركي ترجمة لحلم عيسى بن مريم بمدينة على التل يعم فيها السلام والخير.

ثانيا.. العرقي: الذي يعتمد على اعتقاد الأنغلوساكسونيين (الأغلبية المسيحية البيضاء) بأن أفضل عرق أولى بتطبيق أفضل هدف.

ثالثا.. التاريخي: الذي يقول إن أميركا هي تطور منطقي للتطور الحضاري في أوروبا.

لكن، قدم مايكل ايغناتييف، مؤلف كتاب «الاستثناء الأميركي وحقوق الإنسان»، تفسيرا أقل مسيحية، وأقل عنصرية. وهو أن الشعب الأميركي يختلف عن الشعوب الأخرى، لأنه «خليط من كل الشعوب. من أناس جاءوا من جميع أنحاء العالم، يبحثون عن الحرية، والحقوق الطبيعية، وسيادة القانون، والفضائل الأخلاقية، والصالح العام، والتعامل النظيف، والملكية الخاصة، والحكومة الدستورية».

وأخيرا، ربما يبدو أن التفسير الأخير هو الأكثر قبولا، لأنه لا يرتكز على دين معين أو عرق معين. لكن، كما أوضح ظهور حزب الشاي، من وقت لآخر، يظهر وسط الشعب الأميركي من يريد أن يركز على دين معين أو عرق معين، علنا أو ضمنا.

لهذا، فإن «الاستثنائية الأميركية» يمكن أن تكون رمزا لشعب يريد الحرية والعدالة له، ولغيره، ويؤمن بأن له «دورا خاصا» لتحقيق ذلك. ويمكن أن تكون رمزا لشعب يرفع راية «الاستعلاء».