باريس تكرم صاحب الأغنية التي حملت رشيد طه إلى العالمية

بعد 30 سنة من رحيل الفنان الجزائري دحمان الحراشي

الفنان الجزائري الراحل دحمان الحراشي بريشة أحد الفنانين الجزائريين
TT

جمهور كبير يعرف أغنية «يا الرايح وين مسافر» التي أداها الفنان رشيد طه، ولا يعرف صاحبها الفنان الجزائري الراحل دحمان الحراشي، الذي تعود ذكراه من جديد، حيث تكرمه بلدية باريس في 9 مارس (آذار) الحالي.. فعندما أطلق الفنان الجزائري الشهير رشيد طه ألبومه الغنائي «ديوان»، كان عمره 40 سنة، قضى منها 30 سنة في الغربة بفرنسا، التي سافر إليها طفلا في العاشرة من عمره قادما من إحدى مدن الغرب الجزائري. وفي الألبوم عاد إلى تراث بعض المطربين الجزائريين من أمثال الحاج محمد العنقى وآكلي يحياتن والشيخة الريمتي، غير أن القنبلة التي فجرها وصعدت به إلى العالمية هي أغنية «يا الرايح وين مسافر» التي أخذها من تراث المطرب الراحل دحمان الحراشي. وفوجئ الجميع بهذا النجاح الباهر لأغنية كانت معروفة حينها ولم يضف لها رشيد طه إلا بحّته المميزة وبعض التوزيع الموسيقي على لحن لم يغير فيه شيئا. لكن من يعود إلى السياق الزمني حينها، يكشف سر تعلق المهاجرين الجزائريين والمغاربيين عموما بالأغنية، وهو التعلق الذي كان بداية لنجاح عالمي. لقد كانت فرنسا وأوروبا عموما تعج بكثير من الجزائريين الهاربين ساعتها من مجازر الحرب الدموية العنيفة التي كانت الجزائر مسرحا لها وحصدت عشرات الآلاف من الضحايا. إنها تعبير نوستالجي حزين للوطن المفقود، ومع التفكير في العودة إلى الوطن رغم الفاجعة التي مر بها، كان رشيد طه وهو في سن الأربعين يصرخ ببحته المتمردة في وجه الغربة التي جربها ثلاثين سنة من دون انقطاع ويفكر بعقل ناضج في وطن الطفولة.

ومع نجاح الأغنية التي أصبحت تنسب إلى رشيد طه الذي اشتهر بعد ذلك بأغنية «عبد القادر يا بوعلام» برفقة الشاب فضيل والشاب خالد، عاد صاحب الأغنية الأصلي الفنان دحمان الحراشي الذي كان قد غادر عالمنا سنة 1981 إثر حادث مرور مأساوي، واكتشف فيه الناس إمكانيات فنية عالمية بعد أن عاش ومات وهو فنان محلي.

الفنان دحمان الحراشي الذي وصل إلى العالمية من خلال أغنيته تلك، يكرم يوم 9 مارس الحالي بالعاصمة الفرنسية باريس حيث يقوم نجله الفنان كمال الحراشي مع 15 موسيقيا بإحياء حفل تكريمي له بمسرح بلدية باريس، وذلك بمناسبة الذكرى الثلاثين لرحيله المأساوي.

وفي هذا الصدد، قال الناقد الموسيقي رابح مزوان، وهو المكلف بالبرمجة في «معهد العالم العربي» في باريس، إن النوع الموسيقي الذي كان يغنيه دحمان الحراشي «يستلهم الطابع الأندلسي مع الاحتفاظ بالنوع الموسيقي الخاص به»، وقال إن «النصوص التي كان يؤديها تعتمد على أمثال وحكم من الماضي والحاضر تتطرق لواقع الشعب وانشغالاته، في حين تعطي الآلات الموسيقية المستعملة لمسة عصرية». وفي هذا الصدد، يقول الكاتب الصحافي الجزائري مهدي براشد، وهو باحث في هذا التراث، لـ«الشرق الأوسط»: «إذا كان عميد الأغنية الشعبية الحاج محمد العنقى النموذج الأرثوذوكسي لفنان أغنية (الشعبي) بالشكل الذي عرفته العاصمة ونسب إليها، بل ونموذج لابن العاصمة في أصالته وهدوئه وحكمته وفي خضوعه للأطر الأخلاقية التي حددتها القصبة والمدينة، فإن دحمان الحراشي كان نموذج ثورة أخرى على تلك الأطر السائدة آنذاك التي اعتبرت في ما بعد أطرا كلاسيكية جدا؛ بل وبرجوازية».

ويضيف قائلا: «على صعيد المظهر الخارجي لفنان (الشعبي)، كسر دحمان الحراشي القاعدة.. خرج عن الإطار السائد، وانزلق من (الشعبية) التي ثارت على أرستقراطية الأندلسي، إلى الشعبوية القريبة من المسخ. كان هندام فنان (الشعبي)، هنداما قريبا من الهندام التقليدي العاصمي (سروال عربي، البدعية، الحزام، الشاش أو الطربوش، أو ما يعرف بشاشية إسطنبول ذات الأصل التركي، وفي بعض الحالات الجبة والبرنهوس، كما نجد ذلك عند الحاج محمد العنقى)».

ويخلص الباحث مهدي براشد إلى القول إن انسلاخ دحمان الحراشي عن مفهوم الشيخ في الأغنية الشعبية الجزائرية «كان أيضا انسلاخا عن الديوان المغنى المرتبط أصلا بالمدينة والاستقرار فيها، لذلك لم يغنِّ دحمان القصائد المعروفة لشعراء جزائريين أمثال بن خلوف وبن مسايب وبن سهلة ولا لشعراء مغربيين كقدور العلامي والشيخ النجار وبن سليمان والمغراوي. واتجه اهتمامه إلى الطقطوقات الصغيرة التي كان يغنيها اليهود، أو كتابة كلمات تعبر عن واقعه المعيش وتجربته في عالمه الضيق (الصحبة، والوفاء، والغدر، ومعرفة طباع الناس (الفهلوة)، والخمرة، والمفاهيم المسطحة للرجولة)».

والفنان دحمان الحراشي الذي توفي قبل أكثر من ثلاثين سنة، عاش حياة قاسية وعمل إسكافيا ثم بائع تذاكر الترامواي بين حيي الحراش وباب الوادي الشعبيين في العاصمة الجزائرية، وخلف تراثا غنائيا مميزا، ورغم أدائه المميز لأغنية «يا الرايح وين مسافر» فإنها لم تنجح بالقدر الكافي حينها، وربما يعود السبب إلى كون السلطة السياسية الجزائرية أرادت توظيفها ضد ما سمي «الزحف الريفي». وهي الهجرات الجماعية لسكان الريف نحو المدن الكبرى في السنين الأولى من الاستقلال، لكنها نجحت عندما ارتبطت بهجرة أخرى وغربة أكبر عانى منها كثير من الجزائريين في زمن الاقتتال في تسعينات القرن الماضي.