الثقافة وحدها تبقى في نهاية المطاف

المفكر الفرنسي جان دورميسون يتذكر الماضي الجميل

«عطر الزمن» المؤلف: جان دورميسون
TT

أعجبني عنوان هذا الكتاب، فبعد أن قرأته رحت أتساءل: هل للزمن عطر يا ترى؟ هل له رائحة؟ أقصد الزمن العابر، الزمن المسروق من عمرنا سرقة. لقد كبرنا دون أن ندري. من الذي غدر بنا يا ترى؟ من الذي يتآمر علينا؟ أقصد الزمن الهارب من بين أصابعنا غصبا عنا، الذي يبعدنا عن أحبتنا، عن أنفسنا، عن وجودنا..

مؤلف هذا الكتاب هو الأديب والمفكر جان دورميسون صاحب الكتب المعروفة التي تباع بمئات الألوف في فرنسا. وهو عضو الأكاديمية الفرنسية وأحد كبار منظري اليمين الفرنسي المعتدل ذي الحساسية الديغولية. وهذا الكتاب هو عبارة عن تجميع لمقالاته الثقافية التي نشرها في الجرائد الفرنسية على مدار ربع القرن الماضي. من هنا عنوان الكتاب: إنه عبارة عن تذكر حنون للزمن الغابر، للعمر الماضي. ولكنه استبعد منه مقالاته السياسية. على اعتبار أن الثقافة هي وحدها التي تبقى في نهاية المطاف، أما المقالات السياسية فمرهونة بوقتها وتذهب أدراج الرياح. يتحدث جان دورميسون في هذا الكتاب عن معظم الأدباء والفلاسفة الذين تعرف عليهم عن كثب من أمثال: ريمون آرون الذي كان معلمه في جريدة «الفيغارو»، وجان بول سارتر الذي كان زعيم المعسكر المضاد له، وفيليب سوليرز، وميشال فوكو، وألبير كامو، وفرانسوا مورياك، وفيرنان بروديل، وجورج ديموزيل، وعشرات المشاهير الآخرين. وفي معظم الأحيان نلاحظ أن هذا الكتاب مؤلف من عروض عامة لكتب كان جان دورميسون قد قرأها وأعجب بها لهؤلاء الكتاب بالذات أو لسواهم. وكان ينشر هذه العروض في الملحق الأدبي الأسبوعي لجريدة «الفيغارو» الذي يظهر كل خميس. وهو من أهم الملاحق الثقافية بالإضافة إلى ملحق جريدة «اللوموند» وملحق جريدة «ليبيراسيون». يقول مثلا عن كتاب فيليب سولير، «حرب الذوق»، إن سولير هو الأول في صفه. ويمكن أن نغفر له كل زلاته وأخطائه لسبب بسيط هو أنه يحب الأدب حبا جما. يمكنك أن تتهم سولير بكل التهم ما عدا كرهه للأدب بشعره ونثره. إنه أحد كبار ذواقة الأدب في عصرنا. وعلى الرغم من أنه ينتمي إلى جيل تلامذتي فإني معجب به جدا. فهو يتحدث في كتابه عن كبار الأدباء الفرنسيين والعالميين بكل تمكن واقتدار. إنه يعرف نقاط قوة وضعف كل أديب. ومن الممتع أن نقرأ رأيه في فولتير، أو شاتوبريان، أو أرنست همنغواي، أو رامبو، أو آرتو، أو سيلين، إلخ. لقد عابوا على سولير اتباعه للصرعات الدارجة وتقلباته، فعندما طغت موجة اليسار المتطرف على طريقة ماوتسي تونغ كان ماويا، وعندما طغت الموجة اليمينية أصبح يمينيا بل وحتى من محبي البابا والفاتيكان، فكيف يمكن ليساري متطرف أن يصبح كاثوليكيا بابويا؟ ولكن ألم ينقلب الكثير من المثقفين العرب على مواقفهم اليسارية السابقة ويصبحوا أصوليين بعد ثورة الخميني؟ وبالتالي فهو يتغير بتغير الرياح الآيديولوجية التي تهب على باريس. ولكن كما قلت لكم فإن حبه للأدب يغفر له كل شيء. فهو يعرف كيف يقرأ فولتير ويعجب به. إنه يعرف كيف يتذوقه كما لا يفعل أحد قط. ويعرف قيمة شعر رامبو، أو روايات همنغواي، وحسبه ذلك فخرا. وأما عن ريمون آرون فيقول جان دورميسون ما معناه: لقد كان من كبار المفكرين في عصرنا. وقد عاشرته لعدة سنوات عندما كنت مساعده في جريدة «الفيغارو». ونلت من علمه وتوجيهاته الشيء الكثير. وهو صاحب الكتب الضخمة عن علم الاجتماع الألماني وفلسفة التاريخ. وعلى الرغم من عدائه للشيوعية والاتحاد السوفياتي فإنه كان من أشد المعجبين بكارل ماركس. وقد ظل يحاوره طيلة حياته كلها عن طريق قراءة كتبه وشرحها والتعليق عليها. ولكن على الرغم من إعجابه بعبقريته فإنه كتب عنه: لقد قال أو سمح للآخرين بأن يقولوا عنه وباسمه كل شيء تماما مثلما حصل لنيتشه وفرويد. فالماركسيون يمكن أن يقولوا الشيء وعكسه وينسبونه إلى ماركس. ثم يضيف جان دورميسون قائلا في أواخر أيامه عبر لي ريمون آرون عن رغبته في دخول الأكاديمية الفرنسية. ومعلوم أن كبار شخصيات فرنسا يحبون أن يختتموا حياتهم بها. وقال لي: قم بعملية استطلاع أو جس نبض لمعرفة الأجواء ومدى حظي في الحصول على مقعد للخالدين هناك. ومعلوم أن كل عضو جديد ينبغي أن ينتخب من قبل الأعضاء الموجودين. وأحيانا تحصل عدة دورات انتخابية من أجل الفصل بين المرشحين. وبعد أن ذهب دورميسون إلى هناك واستجوب الأكاديميين واستطلع الأجواء عاد إلى ريمون آرون وقال له: ليس لك أي حظ في النجاح لأن هناك خمس مجموعات ضدك: أي الأكاديمية كلها! فأعداء السامية ضدك لأنك يهودي، واليهود ضدك لأنك لست يهوديا بما فيه الكفاية! والديغوليون ضدك لأنك على الرغم من اتباعك لديغول كنت تنتقده أحيانا. وأعداء الديغولية ضدك لأنك كنت ديغوليا والتحقت بالجنرال في لندن أثناء الحرب العالمية الثانية. قال له: وما هي المجموعة الخامسة التي تقف ضدي أيضا؟ فأجابه دورميسون: كل ما تبقى من أعضاء الأكاديمية لأنهم يعرفون أنك أذكى منهم بكثير. وبالتالي فأنصحك بعدم ترشيح نفسك. وهذا ما حصل. وعلى هذا النحو مات ريمون آرون دون أن يصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية. وأما عن سارتر فيقول جان دورميسون ما معناه: لقد سيطر على الساحة الثقافية الفرنسية كإمبراطور متوج طيلة أربعين سنة تقريبا. ومارس هيمنة مطلقة على جميع المثقفين الآخرين ومن لم يخضع له سحقه سحقا. وهذا ما حصل للمسكين ألبير كامو الذي أذله بعد أن اختلف معه. فكما أن ديغول كان رئيسا للسياسة الفرنسية فإن سارتر كان رئيسا للثقافة الفرنسية. وكما حصل الشيء نفسه لريمون آرون فقد كان سارتر يحتقره احتقارا شديدا ويعتبره عميلا للرأسمالية والمعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. ومعلوم أن سارتر قال عبارته الشهيرة: كل من ليس مع الحزب الشيوعي أو المعسكر الاشتراكي فهو كلب! وبالتالي فريمون آرون في نظره لم يكن إلا كلبا ينبح عند الرأسماليين ويدافع عنهم. ولم يكن مخطئا تماما. فهذا هو رأي ديغول فيه. ومعلوم أنه لم يكن يطيقه ولا يثق به. ولكن الشيء الذي ينساه جان دورميسون هو أن ريمون آرون كان صهيونيا أيضا. والدليل على ذلك هجومه العنيف على ديغول بعد مؤتمره الصحافي الشهير الذي انتقد فيه اليهود وتعصبهم الأعمى لإسرائيل وسياساتها التوسعية الإجرامية. بالطبع ليس كل اليهود. فهناك فرق بين اليهودية والصهيونية ولا ينبغي الخلط بينهما. وبعدئذ ينتقل جان دورميسون للتحدث عن منافس سارتر على عرش الفلسفة الفرنسية: أي ميشال فوكو. ويقول ما معناه: ظل سارتر مهيمنا على عرش الفكر الفرنسي حتى ظهر فوكو وكتابه الشهير: «الكلمات والأشياء». عندئذ أحس سارتر بأن الأرض تميد من تحت قدميه وأن عرشه ابتدأ يهتز ويتزعزع. ولذلك سارع إلى مهاجمة الكتاب وصاحبه متهما إياه بأنه آخر متراس تقيمه البورجوازية ضد ماركس. ولكن هذا الهجوم لم يجده نفعا. فقد استطاع فوكو أن يحل محله بكل جدارة واقتدار. وهكذا حلت البنيوية محل الوجودية كفلسفة مهيمنة. وحصل ذلك في أواخر الستينات من القرن الماضي. ولكن العداء بين الرجلين لم يستحكم مثلما حصل بين آرون وسارتر لسبب بسيط: هو أن فوكو كان ينتمي إلى معسكر اليسار أيضا. ولذلك تصالحا بل قاما بعدة أعمال سياسية مشتركة عندما تظاهرا لصالح العمال الأجانب في فرنسا مثلا بالإضافة إلى جان جينيه. ومعظم هؤلاء العمال من العرب أو المغاربة أو المسلمين أو السود الأفارقة. ومعلوم أن سارتر كان يحب جينيه كثيرا إلى درجة أنه لقبه باسم: القديس جينيه، وألف عنه كتابا ضخما. ولكن بعض الأوساط الثقافية الفرنسية المتصهينة جدا حاربت جان جينيه بسبب مواقفه المؤيدة للقضية الفلسطينية. ثم يضيف دورميسون قائلا بما معناه: على الرغم من كل الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى سارتر فإنه يبقى عملاق الأدب والفكر في القرن العشرين. وسبب هيمنته على كل المثقفين الآخرين هو أنه كان قادرا على أن يبدع في عدة مجالات دفعة واحدة: في الفلسفة، والرواية، والنقد الأدبي، والمسرح، بل وحتى في مجال الصحافة والسينما. كان سارتر أمة وحده. ولم تشهد فرنسا شخصية بمثل هذه العظمة منذ أيام فولتير وفيكتور هيغو. ولذلك رفض ديغول أن يسجنه على الرغم من أنه تظاهر ضده بعنف وشتمه بل وشبهه بهتلر. قال ديغول لوزرائه: لا، لا أحد يسجن فولتير! فذهبت مثلا. ولكن هذا العمل دليل على عظمة ديغول بقدر ما هو دليل على عظمة سارتر إن لم يكن أكثر. فلم يكن من السهل على قائد فرنسا الحرة أن يشبهه أحد بهتلر، هو الذي أمضى حياته في محاربته وتخليص فرنسا من براثنه. والواقع أن سارتر ارتكب هنا أكبر حماقة سياسية في حياته. فلا يوجد أي وجه شبه بين هتلر وشارل ديغول. ولكن سارتر يبقى سارتر: أي مجد الآداب الفرنسية.