ولادة الجيل السينمائي الرابع في سورية

«دمشق مع حبي» فيلم عن يهود الشام مليء بالمشاعر

TT

نجاح الفيلم السوري «دمشق مع حبي» اعتبر بحسب الكثيرين فاتحة خير لجيل رابع من السينمائيين السوريين. صحيح أن الأجيال السينمائية السورية السابقة، نالت من الظلم والتهميش ما جعلها خارج المعادلة الفنية، إلا أن الجيل الجديد يبدو أنه يتحضر للثأر لمن سبقه، وقد تكون المعركة قد بدأت بالفعل.

سنوات طويلة مرت قبل أن يكحل عشاق السينما في سورية أعينهم بفيلم روائي طويل من إنتاج خاص، يحتفل بعرضه الجماهيري الأول في صالة لائقة يعقبه حفل استقبال يحضره نخبة من المثقفين والإعلاميين ونجوم الفن في طقس ثقافي كاد يسقط من أجندة الأنشطة الثقافية بما تتضمنه من أمسيات شعرية، قصصية، نقدية، توقيع كتاب، ندوات فكرية، معارض تشكيلية.. إلخ.

رغم نحو 10 عقود على ولادة السينما السورية وثلاثة أجيال من روادها، لم تفلح الحركة في تكريسها صناعة ذات تقاليد وهوية واضحة، لأن الرياح دائما جاءت على الضد من المواهب وتراكم التجارب والخبرات. اليوم إذ يفاجئنا الإقبال على فيلم «دمشق مع حبي» وتحقيقه إيرادات جيدة شجعت على تمديد فترة عرضه أسبوعا آخر يتفاءل البعض بجيل جديد من الشباب ليس فقط في سورية، وإنما في البلاد العربية يخرج من تحت الرماد بمبادرات تسعى إلى إعادة الروح لحياتنا عموما لا سيما منها الثقافية والسياسية.

فحفل افتتاح الفيلم الذي استضافته صالة «سينما ستي» لم يكن احتفاء بفيلم جديد وحسب، وإنما احتفاء بأول فيلم سوري روائي طويل من إنتاج خاص 100 في المائة، يعرض في صالة لائقة. حسان طلب، طالب جامعي حضر مجاملة لصديق دعاه إلى الفيلم يقول: «دخلت إلى الصالة وقد قررت سلفا الانسحاب بعد ربع ساعة، كان لدي قناعة مسبقة أنه سيكون غير مفهوم ومملا، لكني فوجئت بوضوحه وخفة روحه»، وفي اليوم التالي يقول حسان إنه دعا صديقته لمشاهدته.

وفي ظاهرة لم يشهدها سوى عدد ضئيل من الأفلام عبر تاريخ السينما السورية ظلت الصالة ممتلئة بالحضور طيلة أيام العرض، رغم تباين الآراء ما بين معجب بدفق الحب الفائض من روح العمل وبين منتقد لبعض الخطوط والتفاصيل الفنية، ورأي توقف عند المقولة السياسية التي نجحت في التواري خلف المعالجة الاجتماعية.

قصة الفيلم التي اعتبرها البعض مكتوبة بشغف، تكشف عبر أحداث وشخصيات غاية في البساطة، عن التركيب الاجتماعي الديني والعرقي المتشابك في مدينة دمشق كنموذج للمجتمع السوري ككل. ويكاد يكون العمل الدرامي الأول الذي يتناول يهود دمشق كأحد مكونات المجتمع الدمشقي، في قصة اجتماعية معاصرة تتجنب السياسة وتركز على «الحب» بمستويات عدة أبرزها عشق يهودية دمشقية لشاب مسيحي لبناني سوري، تغيبه الحرب في لبنان وتنقطع أخباره، لتكتشف لاحقا ولدى استعدادها للهجرة من دمشق أن والدها كان يخفي رسائل حبيبها عنها وهناك احتمال أن يكون حيا، تترك والدها في المطار ليهاجر وحده إلى إيطاليا وتعود أدراجها للبحث عن حبيبها في رحلة تتكشف خلالها التلاوين الاجتماعية الغنية، وقوة الانتماء إلى المكان. فالأب اليهودي الدمشقي المقعد يضنيه فراق الشام، ويحمل معه إلى المهجر حفنة تراب في وعاء زجاجي، يفتحه بين فينة وأخرى يشتم منه رائحة دمشق وهو يردد «الذاكرة هي المكان ومن يغادر مكانه يفقد ذاكرته» ليموت بمجرد مغادرته سورية، وقبل أن يلتقي عائلته المهاجرة في إيطاليا، التي تقرر أن تعيد جثمانه إلى دمشق ليدفن فيها. كل هذا يؤكد تفوق الانتماء للمكان على الانتماءات الأخرى لا سيما الدين. فالمكان هو الخيوط التي تمسك النسيج الاجتماعي، تمثله شخصيات بسيطة تتقاسم العيش في دمشق (عجوز مسيحية تتعيش من تأجير منزلها للطلاب، سوري كردي فقد ساقه في الحرب، ضابط من الساحل متقاعد يتابع ما فاته من مباريات الدوري السوري أثناء خدمته، حارس مدمن على شرب المتة، وقس في دير ناء.. إلخ). باقة متعددة - مسيحيون ومسلمون من مختلف المذاهب، وعرب وأكراد - يربطهم المكان الذي هو البطل، لتبرز هنا الإضافة التي قدمها الفيلم، في رؤية الجيل الشاب لجغرافيته الاجتماعية والسياسية، ودفاعه عن هذا التنوع بكل ما يملك من عاطفة.

رغم كل الملاحظات حقق الفيلم معادلة الجماهيرية دون التخلي عن النخبوية في صيغتها البصرية، مع أن إنتاجه «واجه صعوبات كثيرة في بلد لا يوجد فيه صناعة سينمائية متطورة»، بحسب ما قال المخرج الذي بذل جهدا كبيرا في كتابة السيناريو والإخراج. إذ إنه وقع في هنات كثيرة، منها إقحام مشاهد كوميدية خلخلت سياق الفيلم وهبطت بمستواه إلى حد ما، لكن ما يغفر له قدرته على خوض موضوع شائك والنجاة من فخ الحساسيات السياسية، ربما لأنه آثر التحدث عن الانتماء بوصفه شعورا بالحب، وأيضا لأنه تجربة شبابية أثبتت جدارة في جذب القطاع الخاص للاستثمار في السينما، مبشرا بجيل رواد رابع وبدء مرحلة رابعة في مسيرة السينما السورية. هذا إذا صح الحديث عن عدة أجيال من السينمائيين في سورية فالجيل الأول؛ جيل الرواد الأوائل الذين أسسوا لدخول صناعة السينما إلى سورية وهم أيوب بدري، ورشيد جلال، ونزيه الشهبندر، وإسماعيل أنزور، ويوسف فهدة، وزهير الشوا. وجيل الرواد الثاني الذي مثله مخرجون انطلقوا من المؤسسة العامة للسينما، ووضعوا أسس القطاع العام السينمائي، ومنهم صلاح دهني، ومحمد شاهين، وخالد حمادة، ونبيل المالح، ومروان حداد، وغيرهم. أنتج هؤلاء أفلاما غطت فترة السبعينات. الجيل الثالث، مخرجو الثمانينات الذين رفدوا إنتاج القطاع العام بمجموعة جديدة من الأفلام السورية المتميزة والناجحة على الصعيد العربي، وفي طليعتهم، محمد ملص، وعمر أميرالاي، وسمير ذكرى، وأسامة محمد، وعبد اللطيف عبد الحميد، وريمون بطرس وآخرون. ويرى النقاد فيما حققته السينما السورية من تميز فكري ونجاحات أسلوبية، ليس أكثر من سينما وليدة لم تتكون ملامح هويتها، بينما ينفي آخرون وجود سينما سورية أساسا، بسبب إشكاليات بنيوية تعاني منها مثل ضعف التمويل، وفقدان التواصل بين القطاعات المنتجة للسينما، وغياب منهجية اقتصادية وإعلامية متكاملة لصناعة السينما، وتخلفها عن الركب التقني والفني العالمي، وضآلة التراكم الحرفي لدى غالبية العاملين فيها. حتى إن معظم النتاج السينمائي السوري يندرج ضمن المحاولات الفنية الأولى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

الآن نحن أمام بشائر جيل رابع، منهم جود سعيد، ونضال حسن، وطلال ديركي، وسوار زركلي، ومحمد عبد العزيز وآخرون. وما عدا محمد عبد العزيز وجود سعيد الذي يعد أصغر المخرجين السوريين سنا ما زال الآخرون ينتظرون فرصة لتحقيق مشاريع أفلام طويلة بعدما أثبتوا حضورا على صعيد الأفلام القصيرة. وكان لافتا خلال السنتين الماضيتين فيلم جود سعيد «مرة أخرى» في تناوله موضوعا سياسيا حساسا حول تأثير الحرب في لبنان وأزمات العلاقات السورية - اللبنانية على العلاقات الاجتماعية بين البلدين. لتستوقفنا محاولات جيل شاب في استنهاض الواقع والحفر في الصخر بحثا عن فرص، حيث تمكنت مجموعة من محبي الفيلم التسجيلي من إقامة مهرجان لسينما الواقع «دوكس بوكس» للعام الرابع على التوالي، والحصول على رعاية الحكومة ودعم القطاع الخاص، ليتكرس طقس ثقافي سنوي ينظره عشاق هذا الفن. فهذا الجيل يتميز بإصراره على خوض تجربته حتى لو بدا وكأنه يعيد اختراع العجلة بحسب تعبير المخرج محمد عبد العزيز الذي سبق وأخرج فيلما طويلا بعنوان «نصف ملليغرام نيكوتين» ولم يتح له العرض في سورية. ويقول في حديث لـ«الشرق الأوسط» إنه يتفق مع وصف جيل المخرجين السينمائيين الشباب بالجيل الرابع، لافتا إلى أن كل جيل من الأجيال الثلاثة السابقة ونتيجة للظروف المعروفة التي واجهت السينما في بلادنا «لم يتركوا إرثا يمكن الاتكاء عليه إذا أردنا تقديم رؤية جديدة. فالتجارب التي قدمت لم تكتمل بما يشكل تراكما يبنى عليه ويتوارث» لذلك «يوجد أفلام سورية ولا يوجد سينما سورية». وحول تجربته في فيلم «دمشق مع حبي» يقول «اشتغلت فيه وكأني أبدأ من الصفر، في كل العالم هناك آليات وتقاليد معينة بدءا من كتابة النص وانتهاء بالترويج، كل هذا غير موجود لدينا. وكل من يريد العمل في السينما عليه البدء وكأننا لأول مرة نصنع فيلما. على سبيل المثال عانيت كثيرا في البحث عن كاتب سيناريو ولم أجد لأن معظم كتاب السيناريو يفضلون العمل في التلفزيون لأن الكتابة للسينما غير مغرية ماديا، وقمت أنا بكتابة السيناريو».

وهنا كان لا بد من السؤال عن مغامرة القطاع الخاص في إنتاج فيلم «دمشق مع حبي» طالما أن السينما غير مجزية تجاريا؟ يجيب محمد عبد العزيز بأن هذا الفيلم هو التجربة الثانية له مع المنتج نبيل طعمة صاحب شركة «الشرق للإنتاج الفني»، وتحدث مطولا عن حماس المنتج للإنتاج السينمائي لا سيما بعد حصول فيلم «نصف ملليغرام نيكوتين» على 3 جوائز في مهرجان بالي بإيطاليا. وجاء الاهتمام الذي ناله «دمشق مع حبي» لدى عرضه في دبي، ليزيد في حماسه. وهو الآن بصدد التحضير لفيلم ثالث من إنتاج الشركة ذاتها. ويلفت عبد العزيز إلى أنه راعى في فيلمه معادلة «النخبوية والعناصر الجماهيرية». وقال «الجمهور السوري يدخل إلى الفيلم بروح عدائية نتيجة خيبة أمله مما سبق وأنتج من أفلام، قيل إنها للنخبة أو مخصصة للعرض في المهرجانات. لذلك راعيت العناصر التي يحبها الجمهور وطرحنا بطاقة تصويت طيلة فترة العرض للتعرف على تقييم الجمهور. وكانت النتائج مفاجئة فنسبة التقييم الممتاز تراوحت بين 75 و95 في المائة وهذا دليل على أن صناعة السينما في سورية ليست خاسرة بالضرورة».

قائمة هموم السينما في سورية تطول ونجاح فيلم واحد من إنتاج القطاع الخاص يبعث على التفاؤل لكنه غير كاف. ومن شاهد السينمائيين السوريين الذي جمعهم تشييع المخرج السوري عمر أميرالاي الشهر الماضي يدرك حجم الإجحاف الذي تعرض له هؤلاء، حين سدت السبل أمامهم ولم يفسح لهم في المجال لخوض تجارب حقيقية لاختبار مواهبهم. فمنذ تأميم السينما في السبعينات كتب للسينما أن تسير في طريق التماوت تدريجيا، مع تدهور أوضاع صالات العرض التي أمسى بعضها خرابا. غبار كثيف غطى الحياة السينمائية في سورية ريثما تمكن المنتج نادر الأتاسي من إعادة تأهيل سينما دمشق عام 2009 التي يعود تاريخها إلى عام 1940، ليصبح اسمها «سينما سيتي» ولتكون الأولى من نوعها في سورية من حيث التجهيزات والديكور وعرض أحدث الأفلام العالمية، وليلحق به ركب الحكومة وتفكر بافتتاح صالات جديدة العام الحالي في ضواحي مدينة دمشق. لعل وعسى أن تكون فاتحة تشجع القطاع الخاص على الاستثمار في السينما، بعدما تمكن القطاع العام من خنقها عن طريق التسلسل، مكتفيا بمهرجان للسينما يدعي أنه دولي في بلد لا يوجد فيه سينما.