جنرالات الحرب ينطقون

«أين كنت في الحرب» لغسان شربل

TT

يحفر غسان شربل في كتابه الجديد في منجم الحرب، محاولا استدراج لاعبي الحرب اللبنانية، أو جنرالاتها الكبار، إلى رواية حكايات الدم.. كيف بدأت، وكيف انتهت (هل انتهت؟). إنهم أربعة، في الكتاب على الأقل: إيلي حبيقة، سمير جعجع، وليد جنبلاط، وأخيرا ميشال عون. يروي غسان، أو يجعلون يروون على ألسنتهم حكاياتهم المرعبة للمرة الأولى، «فقد تكون مفيدة لمن عايشوها أو لمن ولدوا بعدها، أو لصحافيين شبان يسارعون إلى إصدار الأحكام القاطعة من دون قراءة تاريخ أوجاع المريض اللبناني». يفعل ذلك أيضا لأنه يخاف، بالدرجة نفسها، «من الأقوياء أو المجروحين الذين يقتحمون المختبر اللبناني الحساس ويتلاعبون بالمقادير والمصائر».

ما الذي يجمع بين هؤلاء؟ شيء واحد فقط: إنها لعبة الحرب. لنقرأ هذا المقطع المرعب في مقدمة شربل عن جنرالات الحرب هذه، الذين يبدون وكأنهم لاعبون فعلا في مسرحية عبثية، لعل فصولها ما تزال مستمرة، لكن بديكور آخر، وربما بمخرج آخر، أو عدة مخرجين يتناوبون إدارة فصولها:

بين الرجال الأربعة قصص دامية مكلفة. تقاتل جنبلاط وجعجع على صخور الجبل في 1983 وتقاتل جنبلاط وعون قرب سوق الغرب. وأطلق عون من قصر بعبدا حربين منهكتين للجمهورية: سمى الأولى «حرب التحرير» ضد ما كان ما يسميه «الاحتلال السوري»، وسميت الثانية «حرب الإلغاء» لأنها استهدفت إخضاع ميليشيا «القوات اللبنانية» والسيطرة على «المنطقة الشرقية» لضمان الموقع الأول في الجمهورية. وتقاتل حبيقة وجعجع في شوارع الشرقية. وقبل عقدين سلك حبيقة طريق بيروت - دمشق. وحاول حبيقة اغتيال جنبلاط أكثر من مرة، وحاول اغتيال جعجع الذي حاول اغتياله أيضا.

من لا يتعلم الخوف في وطن كهذا؟ من لا يسكنه الخوف منه، والخوف عليه في الوقت نفسه؟ يقول مؤلف «أين كنت في الحرب؟»: «لم يعلمني وطني إلا الخوف. الخوف منه والخوف عليه. أخاف كلما جنحت طائفة كبرى إلى خيار لا تستطيع المعادلة الحشة احتماله. ومن القدرة على تكرار الرهانات الباهظة، وعدم الاتعاظ من حمامات الدم. وقدرة اللبنانيين على المغامرة بوطنهم كأنهم يمتلكون وطنا آخر».

على مدى عقدين بحث شربل في التسعينات، كما يذكر في المقدمة، عن جنرالات الحرب، والتقاهم في مكاتبهم ومنازلهم، وأحيانا خلال أسفارهم. والتقى أيضا مساعديهم ومواطنين عاديين شاركوا في حروبهم أو كانوا في صفوف ضحاياهم. ولا يدعي شربل، من هذا الكتاب، تسجيل تاريخ، أو تقديم رواية أخيرة للحرب اللبنانية، فالرواية لا تنتهي، كما أن جنرالات الحرب لا يروون كل ما يعرفون، لكنه استطاع انتزاع اعترافات منهم تكفي العقلاء من البشر أن يرفعوا أصواتهم بقوة: لن نسمح بذلك أن يحدث مرة أخرى، ولن ندع جنرالات حرب آخرين يولدون من رحم هذا الأرض المعذبة. إنه درس هذا الكتاب البليغ.