«مكتبة الكونغرس» تحتفل بالأديب اللبناني أمين الريحاني

بمناسبة مرور 100 سنة على صدور «خالد» أول رواية أميركية بقلم عربي

قاعة الكونغرس(«نيويورك تايمز»)
TT

مرت مائة سنة على صدور كتاب «خالد» أول رواية أميركية كتبها عربي. وهي عن معاناة المهاجرين العرب بين ثقافتي الشرق والغرب. وبهذه المناسبة أعلنت مكتبة الكونغرس عن سنة أمين الريحاني العالمية التي يُحتفى خلالها بكاتب الرواية ونتاجه الأدبي الرفيع على مدار العام. وخصصت المكتبة الأسبوع الماضي يوما للريحاني ليس كغيره.. فمن هو الريحاني؟ وما أهمية كتابه «خالد»؟

احتفلت «مكتبة الكونغرس» الأسبوع الماضي، بذكرى مرور مائة سنة على أول رواية عربية - أميركية، وهي كتاب «خالد» التي كتبها أمين الريحاني سنة 1911 في نيويورك، ونشرتها دار «دود أند ميد».

وتصور الرواية مشكلات هجرة العرب إلى أميركا مع بداية القرن العشرين. ففي ذلك العام كان عمر الريحاني 35 سنة (ولد سنة 1876 وتوفي سنة 1940)، قضى معظمها يحاول تعريف الأميركيين بالثقافة العربية، وفي الجانب الآخر يفعل العكس لتعريف العرب بأميركا.

شمل احتفال «مكتبة الكونغرس» محاضرات وندوات استمرت يوما كاملا، وأشرف عليها قسم الشرق الأوسط ومعهد أمين الريحاني. علما بأن «مكتبة الكونغرس»، أطلقت ما سمته سنة أمين الريحاني العالمية، حيث سيحتفى بالأديب طوال سنة كاملة من خلال أنشطة متنوعة للتذكير بأعماله والدور الجليل الذي لعبه. ومن الذين تحدثوا في المؤتمر الأسبوع الماضي، سهيل بشروني، أستاذ في جامعة ماريلاند، وكتب كتبا عن الريحاني، وروجر ألين، أستاذ الفكر الاجتماعي في جامعة بنسلفانيا، وأنطوان شديد، سفير لبنان لدى الولايات المتحدة. واختتم المؤتمر الباحث والناقد سعد البازعي، عضو مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية، الذي توقف عند مكانة الريحاني في حركة النهضة العربية، وعلى تمكن فيلسوف الفريكة من اختراق الأدب العربي الحديث إلى الآداب العالمية. وأشار موقع «مكتبة الكونغرس» على شبكة الإنترنت إلى أن «أمين الريحاني هو الكاتب العربي - الأميركي الأكثر تأثيرا ومن بين الأكثر شهرة في العالم».

وكان التركيز خلال المؤتمر على كتاب «خالد». وهي قصة صبيين هاجرا من سورية الكبرى (سورية ولبنان الآن) إلى (سورية الصغرى)، حي في نيويورك.

اشتهر الريحاني بسبب كتاب «خالد» وكتب أخرى في أميركا، كما اشتهر أيضا بسبب رحلاته في الجزيرة العربية، ومنها صداقته مع الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية.

ولد الريحاني سنة 1876 في الفريكة، قرب بيروت في جبل لبنان، عندما كان جزءا من الإمبراطورية التركية العثمانية. وحين أصبح عمره 12 سنة، هاجر إلى أميركا مع عمه، ثم انضم إليهما والده بعد سنة. ومثل كثير من العرب المهاجرين في ذلك الوقت، عمل في بيع الخردوات في (سورية الصغرى). وكان، وهو غير المتعلم، يدفع طاولة بعجلات وعليها خردوات، ويتجول في الأحياء، وهو يصيح بالدعاية لمعروضاته.

في وقت لاحق، تدرج في تعليم نفسه، وكان عصاميا كبيرا، وتخصص في القانون، وترجم أشعار أبي العلاء المعري إلى اللغة الإنجليزية، ونشر قصائده في سنة 1910، عندما كان عمره 32 سنة، نشر كتاب «ريحانيات» باللغة العربية عن عودته إلى مسقط رأسه، حيث قضى سنوات يدون ذكريات وانطباعات.

وبعد ذلك بسنة نشر كتاب «خالد» باللغة الإنجليزية. ورسم له لوحة الغلاف صديقه جبران خليل جبران، الذي كتب في وقت لاحق قصائد وروايات، ومن بين كتبه «النبي» سنة 1923، كما تحدث عن تأثير الريحاني عليه.

لم يكن الريحاني بعيدا عن السياسة، فقد كتب وتحدث وتظاهر ضد سيطرة الأتراك على الدول العربية، وضد زيادة هجرة اليهود إلى فلسطين، وتنبأ بأن عواقبها ستكون وخيمة (توفى قبل سبع سنوات من تأسيس إسرائيل سنة 1947).

صور الريحاني نفسه حلقة وصل بين الشرق والغرب، وخاصة بين العرب والأميركيين، وقد كان بالفعل كذلك. فقد كان من أوائل الذين جادلوا في إمكانية التعايش والتعاون بين العرب والغرب، رغم اختلاف الأديان واللغات والثقافات. ومما كتب سؤال رئيسي: «من الذي يقدر على أن يقدم، من بين الشرقيين والغربيين، أدلة على أن ليبرالية الغرب وعلومه لا تناسب قيم الشرق الدينية؟».

تقول الرواية في طياتها أن خالد وشكيب هاجرا من بعلبك إلى نيويورك. (قال كثير من الذين كتبوا عن الريحاني، إن الرواية ترمز إلى قصة حياته، إن لم تكن تصورها)، وقضيا أسابيع في السفينة، كما قضيا ساعات في الصفوف الطويلة في جزيرة «أليس» حيث كانت ترسو السفن، ويسجل موظفو الهجرة أسماء المهاجرين الجدد، وحيث الأسئلة الحرجة، وخاصة «الأسماء الغريبة»، مما اضطر الكثير من المهاجرين العرب لأن يغيروا أسماءهم التي بدت معقدة لموظفي الهجرة «لي أسماء إنجليزية سهلة النطق والكتابة».

وفي «الدنيا الجديدة» عاش خالد وشكيب الحياة الجديدة بجانبيها:

الأول: كسب العيش (بطاولة تجرها عجلات تحمل خردوات وتدفع من شارع إلى شارع).

الثاني: صراع الهوية (هل أنا عربي؟ هل أنا أميركي؟).

وكانا يتناقشان عن جانبي الحياة: عن كسب العيش، وعن معنى العيش، عن المظهر والملبس والمأكل والمشرب، وعن التفكير والتأمل والتفلسف.

ورغم أن الصبيين عملا معا، في البداية، في بيع الخردوات، فإنهما في وقت لاحق، تفرقا:

الأول، شكيب، ركز على التجارة، ليوفر ويستثمر.

والثاني، خالد، ركز على القراءة والكتابة ليتفلسف. (ثم أحرق عربة الخردوات، وقال إن التجارة والعمل المالي فيه كثير من خداع الناس وعدم الأمانة).

لكن، ربما مثل كل مهاجر عربي إلى أميركا، لم يكن التحول سهلا بالنسبة لخالد (لأنه واجه مشكلتين في وقت واحد: التحول من عربي إلى أميركي، ونقد الرأسمالية الأميركية).

في الجانب الآخر، واجه شكيب مشكلة واحدة (التحول إلى أميركي)، وساعدته رأسماليته في هذا التحول.

وبينما صار شكيب رجل أعمال ناجحا، صار خالد بوهيميا، يبحث عن الحقيقة في زهد ولا مبالاة.

وعندما دخل خالد مجال السياسة، واجه مشكلة ثالثة، وهي فساد السياسيين ونفاقهم. وتآمر ضده سياسيون، واتهموه هو نفسه بالفساد و«أكل المال العام». واعتقل وسجن. ونشرت صحف نيويورك تقارير يومية عن «العربي اللص»، بإيعاز من أعدائه سياسيي نيويورك. وأسرع شكيب ودفع مالا يكفي لإطلاق سراحه.

ورغم أن خالد قضى فترة قصيرة في السجن، بحسب ما جاء في الرواية، فإنها كانت كافية ليتأمل فيما وصلت إليه حياته في «الدنيا الجديدة». وكتب: «مع الحرية يوجد الفساد، ومع العدل يوجد الظلم، ومع التفاؤل يوجد التشاؤم».

واعتبر خالد أن هذا هو درس أميركا الأول. وكان يمكنه أن يقول إن العاقل هو الذي يؤمن بأن «أميركا ليست نعيما وليست جحيما». ويتمتع بمحاسنها ويتجنب مساوئها. لكن يبدو أن التشاؤم تغلب عليه، وقرر أن يعود إلى لبنان.

ويا ليته لم يعد. كان يعتقد أنه لا يزال لبنانيا، رغم أنه تأمرك كثيرا. لكن اللبنانيين الذين كان تركهم نظروا إليه على أنه أميركي. وفشل فشلا ذريعا في أن يثبت لهم أنه لا يزال لبنانيا.

ومثل صراع الهوية الذي عانى منه في نيويورك، عانى من صراع هوية جديد في لبنان.

ثم عانى من صراع ثان، ليس مع نفسه، ولكن مع كنيسته المارونية، رغم أنه لم يغير دينه في أميركا، لكنه كان قد تشبع بروح التسامح الديني. ولهذا، عندما عاد إلى بيروت، تمرد على التشدد، ليس فقط داخل الكنيسة المارونية، ولكن أيضا، في علاقتها مع طوائف مسيحية أخرى، ناهيك عن المسلمين.

ثم عانى أمين الريحاني من صراع ثالث مع الإمبراطورية التركية، عندما بدأ يلقي محاضرات ويقود مظاهرات ضد الأتراك. ومثلما فصله القساوسة المارونيون، اعتقله الحكام الأتراك، كما عانى الريحاني صراعا آخر واجهه كان مع الحياة كلها، لأنه في نهاية الرواية، اختفى.

وهكذا يبدو واضحا أن الموضوع الرئيسي للرواية هو محاولة التوفيق بين الثقافة والقيم الغربية والثقافة والقيم العربية. وهو قلق انعكس في كثير من كتابات الريحاني، وكتابات وأشعار وروايات غيره من المهاجرين العرب الأوائل، مثل جبران خليل جبران.

وفي الرواية، يتأمل خالد كثيرا في محاسن ومساوئ الحياة الأميركية، ويغضب بسبب المساوئ، وربما ما كان يجب أن يغضب. ربما كان عليه أن يعتبر أن المحاسن والمساوئ «توازن» بعضها البعض.

وهو نفسه، ربما من غير أن يدري، أثبت كثرة محاسن أميركا، وخاصة:

أولا: الحرية التي كانت دافعه الأول بعد أن عاد إلى لبنان، واشترك مع العالم العربي في صراعه ضد الإمبراطورية العثمانية.

ثانيا: التسامح الديني الذي ظهر في مشكلاته مع الكنيسة المارونية، وفي دعوته للتسامح وسط المسيحيين ومع المسلمين. ولم يتردد، خلال سنوات النضال ضد الأتراك، في زيارة مساجد ومخاطبة المسلمين هناك.

لكنه، طبعا، مثل غيره من المهاجرين العرب إلى أميركا، دفع الثمن. ثم زاد عليهم ودفع ثمنا آخر لأنه عاد إلى الوطن الأم.