«إتيكيت ثقافي»: قراءة وقهوة

المقاهي الثقافية في السعودية.. ملتقى المثقفين خارج المؤسسات أم «حواضن» للشلل الثقافية؟

بالإضافة إلى القهوة.. توفر المقاهي مناسبة لالتقاء المثقفين («الشرق الأوسط»)
TT

قبل نحو سنة ونصف أطلقت إدارة المكتبات العامة التابعة لوزارة الثقافة والإعلام مشروعا تم تطبيقه في المنطقة الشرقية، بعنوان «قهوة.. بنكهة المعرفة»، تقوم فكرته على توفير مكتبة صغيرة داخل كل مقهى، كوجبة ثقافية خفيفة تقدم إلى جانب المشروبات والحلويات، وقد بدأ هذا المشروع بأحد مقاهي مدينة الدمام، كخطوة أولى، عبر زاوية أرفف تضم كتبا منوعة، تشمل الروايات القصيرة وكتب المعلومات الخفيفة وكتب تحفيز الذات ومجموعة من قصص الأطفال.

سريعا تطورت الفكرة، وتلقفتها جهات ثقافية وتجارية، فقد دشنت مكتبة الملك عبد العزيز العامة برنامجا يفضي إلى توفير مجموعة من الكتب التاريخية والثقافية في أماكن الانتظار في المطارات السعودية، وتمت تسمية هذا المشروع بـ«القراءة في المطارات»، كخدمة ثقافية جديدة، تحت شعار: «سافر مع القراءة». وأتاح المشروع لآلاف المسافرين إشغال أوقات انتظارهم بالقراءة وتصفح الكتب.

من ناحية أخرى خطت مجموعة من المقاهي الراقية في الكثير من المدن السعودية خطوات مماثلة، فأصبحت توفر جناحا للكتب والصحف اليومية، بل إن مجموعة من المقاهي بينها «أوتاكوشي» في مدينة الخبر شرق السعودية تم تشييدها على أساس المزاوجة بين الثقافة وتناول القهوة، ومثلها الكثير من التجارب في الرياض وجدة.

هذه التجربة بدأت تشق طريقها بسبب ارتفاع عدد الشباب السعوديين المثقفين أو الذين يشتغلون بالهم الإبداعي ويبحثون عن ملتقيات غير رسمية، ولذلك برزت بعض المقاهي كأماكن للشلل الثقافية حيث تتيح مجالا للقراءة والمسامرة.

* تجريب

* يقول سعد العريفي الحارثي، مشرف المكتبات العامة بالمنطقة الشرقية، وهي الجهة التي رعت مشروع «قهوة.. بنكهة المعرفة»: «إن التجربة ما زالت في طور التقييم بالنظر إلى حداثتها. مبدئيا، إنها ليست بحجم تطلعاتنا، لكنها تبقى محاولة ستتبعها محاولات أخرى»، مشيرا إلى التوجه لتعميم هذه الفكرة لتشمل عدة مقاهٍ في المنطقة، بهدف الوصول إلى أكبر شريحة من مرتادي المقاهي وربطهم بعالم القراءة، خصوصا فئة الشباب».

ويقول الحارثي خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «الفكرة انطلقت من بوابة الرغبة في زيادة عدد رواد المكتبة وهواة الكتب، ورفع الوعي بأهمية القراءة، إلى جانب كسر روتين المقاهي، كي لا تكون مجرد أماكن لتناول القهوة والشاي، بل مواقع توفر الجو الثقافي لمرتاديها»، في حين يصف تكرار هذه النموذج مؤخرا في بعض المقاهي بأنه «مؤشر إيجابي، من المتوقع أن يزداد».

لكن على الرغم من هذه المبادرات المحفزة فإن فكرة المقاهي الثقافية ما زالت دون المأمول لها في السعودية، ففي حين تبدو مثل هذه المقاهي مراكز للحراك الفكري والثقافي وتجمع النخب في دول أخرى، فإنها ما زالت مواقع لتناول أشهى الحلويات والثرثرة ومشاهدة مباريات كرة القدم في البلاد، وهو ما يعلق عليه الحارثي بالقول: «هذا يعتمد بالدرجة الأولى على مرتادي المقاهي وتوجهاتهم، وهو ما نحاول تغييره حاليا، كي يكون للثقافة موطئ قدم داخل كل مقهى».

وهنا يتبادر إلى الذهن التساؤل عن مدى حرص المقاهي الثقافية على تحديث كتبها بقدر اهتمامها بتقديم الشطائر الطازجة يوميا، حيث يؤكد الحارثي أن مشروع نشر المقاهي الثقافية يسعى بدوره إلى تحديث أرفف مكتبات المقاهي، قائلا: «هذا أمر ضروري جدا، ولدينا خطة لتحديث الكتب كلها أو تجديدها، بحيث إن رواد المقهى يشاهدون كتبا جديدة في كل حضور لهم للمقهى، أو أن تكون هناك عملية لتبديل الكتب بين هذه المقاهي مستقبلا».

* فنجان قهوة ممزوج بالثقافة

* من جانبه قال الشاعر سعد الرفاعي لـ«الشرق الأوسط»: «إن من ينظر إلى المقهى بكونه ملتقى اجتماعيا في الماضي وميدانا لأطروحات ونقاشات ثقافية متنوعة، سيدرك انه جزء من نسيج الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، ولذا فوجود أبناء المجتمع بمختلف أطيافه فيه يعد أمر طبيعيا».

ويشير الرفاعي إلى أن زخم المقهى الاجتماعي أخذ يعود مجددا، رغم انتشار مقاهي الإنترنت ومراكز القهوة في الوقت الحاضر، مبينا أن هذا الزخم زاد بعد أن تم إضافة أركان وأجنحة للكتاب، بل وصل الأمر ببعض المقاهي كمقهى «هافانا» في مكة المكرمة إلى تبني إقامة بعض الفعاليات الثقافية داخله، والحال كذلك في مقهى الكتاب الثقافي بجدة.

وأكد الرفاعي أن خطوة كهذه من شأنها الإسهام في تجسير العلاقة بين المثقف ومجتمعه وردم الهوة الفاصلة بينهما، والتي أظهرت المثقف وكأنه يعيش في برج عاجي دون إدراك لمتطلبات وقضايا المجتمع.

ومع ذلك يتخوّف الرفاعي من أن تتحول هذه المقاهي من مقاهٍ شعبية يمكن للجميع ارتيادها إلى مقاهٍ نخبوية خاصة بفئة السبعة نجوم. وقال: «لا ننسى أن مادة المبدع سواء كان شاعرا أو روائيا أو قاصا أو كاتبا مستقاة من الهم الإنساني الذي تتنوع منابعه كلما اتسعت مساحة التواصل مع فئات المجتمع».

* ساحة حرة

* الروائية والقاصة الدكتورة عائشة الحكمي، أستاذة الأدب الحديث بجامعة تبوك، ترى أن المقهى الثقافي يأتي كامتداد لهذا الفضاء العمومي الذي يرتاده الناس بالدرجة الأولى للجلوس ثم لاحتساء المشروبات مع اختلاف اهتماماتهم، موضحة أن المقهى في هذه يمثل تواصلا بين الكتاب والمبدعين وجمهور النخبة الثقافية، من خلال نافذة حديثة تجذب المهتم بالشأن الثقافي نحو ارتيادها أو المشاركة فيها.

وقالت إنه في السعودية تلعب المقاهي الثقافية دورا مهمّا للحياة الأدبية والثقافية، إذ تعتبر قنوات جديدة للقاءات ولعقد الصفقات الثقافية وتبادل الخبرات والاستئناس بآراء الآخرين في الشعر والنثر والأبحاث وتبادل الكتب والمجلات وطرح الأفكار التي تعمل على تحسين مجالات العمل الثقافي، والتحاور في مواضيع مفتوحة أو متخصصة. وقالت: «لا نختلف في أهمية المقهى الثقافي العكاظي الذي برز في الوجود منذ أربعة أعوام، إذ يجد ترحيبا كبيرا من المثقفين ويدعون إلى تعميم التجربة في أكثر من مدينة كما حدث في المقهى الثقافي في الباحة».

ولاحظت أن المقهى الثقافي يكمل مسيرة الأندية الأدبية والصالونات، ذلك أن معظم الأندية تخصص بين جنباتها مقهى ثقافيا يلتقي فيه المثقفون في أمسية واحدة كل أسبوع، مؤكدة أن المقاهي الثقافية تذيب الجفاء بين بعض المثقفين وتسمح بالحوار بين الأطراف المختلفة.

* الصغير: فرصة استثمارية في الثقافة

* القاص فالح الصغير يرى أن تجربة هذه المقاهي ثرية ومهمة، ذلك لأن تسويق الثقافة والأدب تحت مظلة المقاهي التي أخذت تنتشر في السعودية بشكل جيّد، تعتبر خطوة عصرية ونموذجا متطورا أيضا، من شأن المقاهي أن تشجيع زبائنها وروادها على القراءة الورقية، خصوصا أن هناك خشية كبيرة من أن تندثر هذه الهواية في خضم المتغيرات التقنية المتلاحقة.

ويعتقد الصغير أن هناك مواكبة تحدث في الكثير من المقاهي الثقافية، أمكن بموجبها التعاطي مع الثقافة والأدب بشكل يحفظ لمرتاديها من قدامى المثقفين والكتاب والأدباء حافزا للحضور في مثل هذه المقاهي.

ولفت الصغير إلى أن المقهى الثقافي لا يبيع الكتب ولكن يقوم بتوفيرها لزبائنه ورواده لكي يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو من جانب يحافظ على القدامى من زبائنه المثقفين والقراء، ومن جانب آخر يريد أن يجذب مزيدا من الرواد والقراء كزبائن في الوقت الذي يشجع فيه الرواد الجدد من أبناء جيل اليوم ليلفت نظرهم إلى أن بوسع كل شخص التعامل مع أي كتاب بلا ثمن وبلا حدود حتى ولو كان بحوزته جهاز لاب توب يبحث فيه عن مبتغاه.

كما يرى الصغير أن المقهى الثقافي إحدى أهم الفرص الاستثمارية للأندية الأدبية التي تمكنها من استثمار أموالها في مقاهٍ تتيح لها فرصة نشر أدب وكتب مبدعيها وإشاعة الثقافة بجانب الدخل المادي.