الثورة تزحف صوب وزارة الثقافة المصرية

بعد وعود من الوزير الجديد بقيت شعارات في الهواء الطلق

TT

هل حان وقت ثورة المثقفين المصريين على وزارتهم ووزيرهم؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه، وسط اعتراضات قوية، ومطالبات متزايدة بالإطاحة بمزيد من الرؤوس في الوزارة، لا سيما تلك التي اغتسلت بالفساد والنفعية. ما الذي يريده المثقفون؟ ولماذا يعتقدون أن الوزير الجديد أعجز من أن يحقق مطالبهم؟

«لا شيء تغير.. أمراض الثقافة كما هي»، هكذا يردد أغلب المبدعين المصريين، تعقيبا على المشهد الثقافي، في ظل حزمة من المتغيرات الثورية، يشهدها المجتمع، بعد ثورة 25 يناير التي غيرت نظام الحكم في البلاد، وفجرت حوارا غير مسبوق في الوجدان العام.

في حوار موسع عقده معهم بآتيليه القاهرة عقب توليه المنصب، حاول وزير الثقافة الجديد، الدكتور عماد أبو غازي، أن يستطلع رأي الجماعة الثقافية في كيفية تطوير العمل الثقافي. أسفر جو المصارحة والمكاشفة الذي ساد الحوار عن عدد من المحاور الأساسية تشكل سلم الأولويات، ولبنة أولى لدفع العمل الثقافي. كان من أبرز هذه المحاور، إعادة هيكلة وزارة الثقافة وتطهيرها من جماعات المصالح والفساد، بحيث تصبح وزارة المثقفين، وليس مجرد كيان تابع للنظام. أيضا العمل على دعم وتنشيط المبدعين، وإعطاء الفرصة للموهوبين ومنع احتكار البعض للمشهد الثقافي، وإعلاء قيم حرية التعبير، وخلق قنوات حقيقية للتحاور بين الكتاب والمبدعين.

كما طرح البعض فكرة إعادة هيكلة المجلس الأعلى للثقافة، بحيث يكون هيئة مستقلة بعيدا عن وصاية وزارة الثقافة، وأن يتم اختيار أعضائه بالانتخاب، بواسطة المثقفين أنفسهم، وليس بالتعيين من قبل وزير الثقافة، بينما رأي البعض أن فصل المجلس الأعلى عن الوزارة من شانه أن يفتح الباب لاستقلال هيئات أخرى عن الوزارة، مثل الهيئة العامة للكتاب ودار الكتب وغيرهما، وهو ما يعد نوعا من التفتيت لوزارة الثقافة، ورأوا أن المطلوب هو إصلاح هذه الهيئات من الداخل، وتطوير عملها، في سياق خطة ورؤية جديدتين. كما انتقد المثقفون عدم وجود مجلة ثقافة رفيعة المستوى تشد هموم المثقفين المصريين، وتسهم في استعادة الدور الثقافي لمصر، خاصة على مستوى الخطاب الثقافي العربي.

اقتراحات المثقفين وتصوراتهم رد عليها الوزير بروح تطمينية أشاعت جوا من التفاؤل، علاوة على أنه واحد منهم، ويدرك عن قرب أبعاد ما عانوه خلال فترة الوزير الأسبق، فاروق حسني، التي امتدت إلى نحو 23 عاما متواصلة.

أعلن أبو غازي عن رغبته في «عودة المجلس الأعلى للثقافة للصيغة التي أنشئ من أجلها عام 1980؛ ليكون جهازا لرسم سياسات ثقافية ملزمة للوزارة مع متابعة تنفيذها، بشرط أن لا يكون وزير الثقافة رئيسا للمجلس، لضمان استقلاله التام». كما أوضح أيضا أنه «ليس مع فكرة وزارة ثقافة تتولى تعبئة عقول الناس، ولكن مع وزارة تحترم حرية الإبداع وقيم المواطنة وتحمي التعددية الثقافية».

وأكد وزير الثقافة أن هيئات وزارة الثقافة المختلفة، بما فيها المتاحف والمراكز الإبداعية ستتم إداراتها من خلال رؤساء الهيئات المعينين، ولكن بإشراف مجالس الأمناء من شخصيات عامة تضع آليات لمراقبة الأداء الإداري والتنفيذي لهذه الهيئات. كما أشار إلى أنه يدرس اقتراحات لتطوير جريدة «القاهرة» التي تصدرها الوزارة برئاسة تحرير الكاتب صلاح عيسى، وقال: «إن الجريدة قد تدار عبر مجلس أمناء يرسم سياسات تحريرها».

لكن هذا الجو التطميني الذي غلف لقاء الأتيلييه، سرعان ما بددته مؤشرات وقرارات، صدرت من داخل منظومة الوزارة، أشعرت الكثير من المثقفين بأن وزيرهم الجديد عاجز عن اتخاذ إجراءات حاسمة، تتماشى مع روح الثورة التي غيرت شكل المجتمع، وأصبح من الصعب أن يظل الخطاب الثقافي بمعزل عنه، أو يتراجع دوره بعد أن وُجِد بقوة وفعالية في خضم أحداث الثورة.

ومن ثم، لم يستجب الوزير حتى الآن لبيان وقعه أكثر من مائة فنان وناقد تشكيلي يطالبون فيه بإقصاء د. أشرف رضا، رئيس قطاع الفنون التشكيلية بالوزارة، الذي عينه فاروق حسني قبل إقالته بأيام، خلفا لمحسن شعلان الذي أطيح به وصدر في حقه حكم قضائي بالحبس في واقعة سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» للفنان العالمي، فان جوخ، من متحف محمود خليل التابع للقطاع.

اعتبر بيان الفنانين أن رضا ليس أهلا لتولي مسؤولية القطاع الذي تولاه فنانون كبار من قبل، كما أنه أحد أعمدة النظام الذي خلعته الثورة، وكان عضوا في لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم السابق.

وطالب البيان بأن يتولى المنصب أحد فناني مصر التشكيليين المرموقين، «لإعادة الهيبة مرة أخرى لحركة الفن المصري المعاصر، التي تواجه في المرحلة المقبلة تحديات فكرية كبيرة، أملا في منجز إبداعي يليق بعظمة ثورة 25 يناير. تلك الملحمة الشعبية المصرية التي أذهلت العالم، وأجبرته على احترام أبناء هذه الأمة».

كما لم يلتفت وزير الثقافة لوقائع فساد خاصة برئيس قطاع الفنون، فضحها عدد من المثقفين، في مقالات نشرت بالصحف، وعلى موقع «فيس بوك». من بينها مقال للناقد التشكيلي الشاعر أسامة عفيفي، بعنوان «أقنعة الثورة»، فضح فيه كذب تصريحات لرئيس قطاع الفنون أكد فيها استرداد القطاع مقتنيات متحف الزعيم مصطفى كامل، التي سرقت إبان الانفلات الأمني الذي وقع خلال الأيام الأولى للثورة، موضحا أنه تم استرداد المقتنيات على جزأين.

وفي المقابل أورد عفيفي خبرا نشرته صحيفة «الأهرام» المصرية، يؤكد أن مواطنا مصريا أحضر مجموعة من مقتنيات المتحف بنفسه، وسلمها للصحيفة، وأكد المواطن أنه ضبطها هو وأصدقاؤه من أعضاء اللجان الشعبية مع بلطجي. وهي مقتنيات تضم كتبا مكتوبة بخط اليد وصورا وأدوات طعام، وأعلنت «الأهرام» أنها تتحفظ على هذه المقتنيات الأثرية، لحين تسليمها لوزارة الثقافة.

وتساءل عفيفي: «لماذا أعلن السيد مسؤول القطاع عن عودة المسروقات كاملة، والأمر غير ذلك، هل هي نظرية (كله تمام) التي أدمنها الحزب الوطني، وقياداته، أم أن مقتنيات المتحف غير مسجلة، فلم يعرف القائمون عليه أن هناك مقتنيات أخرى غائبة؟!»، وطالب عفيفي بإجراء تحقيق سريع وشفاف يطمئن الناس على تراثنا الوطني.

تداعيات هذه الواقعة وتشابكاتها المختلفة في خضم المشهد الثقافي العام أصابت الكثير من المثقفين بالإحباط، خاصة بعد قرارات للوزير الجديد بتغيير مواقع بعض المناصب لقيادات أصبحت محل علامات استفهام، فنقل الدكتور أحمد مجاهد من منصب رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة إلى منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب. ومعروف عن مجاهد أنه كان عضوا في لجنة السياسات بالحزب الوطني السابق، التي كان يرأسها جمال مبارك، كما أنه لم يقدم إنجازا يذكر في هيئة قصور الثقافة على مدى أكثر من 3 سنوات تولى خلالها قيادتها.

ولم يشفع للوزير الجديد تعيينه الشاعر سعد عبد الرحمن، أحد أبناء هيئة قصور الثقافة، ليتولى قيادتها بدلا من مجاهد، بل إن البعض، يراه ذرا للرماد في العيون، على الرغم مما يحظى به عبد الرحمن من رضا وتقدير في أوساط المثقفين.

الكاتب الروائي عبد النبي فرج يرصد مفارقات هذا المشهد قائلا: «في البداية مطلوب وزير شجاع مستقل غير مدين للنظام السابق، أو حظيرة فاروق حسني، حتى يستطيع أن يأخذ قرارات قوية في مواجهة نفوذ جيل الستينات الذي تحالف مع النظام السابق ليصبح أداة لتزييف الوعي في مقابل منح ومكافآت ثقافية مغرية. ثم الوقوف في مواجهة (قبضايا) المبدعين الصحافيين الذين سمموا الواقع الثقافي، واحتكروا الصفحات الثقافية لتكوين لوبي الفساد في مصر مع جهاز الدولة الثقافي، للحصول على مزايا ومنح ومكافآت. ويكفي أن أنبه على أنهم في قصور الثقافة وحدها يستحوذون على مناصب المستشارين، بل ما يزيد الطين بلة أن رئيس تحرير مجلة (الثقافة الجديدة)، التي تصدرها الهيئة هو صحافي من جريدة (الجمهورية)، ومن قبل كان يتولاها الناقد الرحل سامي خشبة، الحال نفسه مع جريدتي: (مسرحنا) و(المحروسة)، اللتين يرأسهما صحافيان آخران في صحيفة (الجمهورية)، والمبالغ التي يتقاضاها كل هؤلاء تمثل نموذجا صارخا لإهدار المال العام، وقد بح صوتنا ولا مجيب».

يتابع فرج: «لكي يكون هناك تغيير جذري وإقامة بناء ثقافي جديد يليق بمصر الثورة، يجب في البداية إزاحة الصف الأول من القيادات الثقافية التي كانت ذراع وزير الثقافة الأسبق الفاسد فاروق حسني. ولا يمكن أن يقوم بإزاحة القيادات الوزير عماد أبو غازي، لأن هذه القيادات أصبحت كالخلايا السرطانية التي تنهش في عظام مصر. ثم إن عماد أبو غازي جزء أساسي من النظام السابق، فقد تدرج في المناصب الحكومية بقوة دفع فاروق حسني وجابر عصفور. كما أنه تمت تجربته قبل ذلك في إدارة المجلس الأعلى للثقافة، ولم يحرك فرد أمن واحدا من مكانه. فهو بحكم السن والطبيعة البشرية ضد التغيير، وعندما تولى الوزارة غلبت عليه طبيعته المستكينة، فظلت الأمور كما هي، بل إنه صعّد أحمد مجاهد، عضو لجنة السياسات بالحزب الوطني، بعدما فشل في إدارة هيئة قصور الثقافة، ليتولى منصب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب، التي تمثل عصبا حساسا في مسارات العمل الثقافي في مصر. وذلك بدلا من تقييم أداء مجاهد ومراجعة قراراته ومخصصاته ومكافآته وحجم ما تقاضاه خلال هذه المدة. وهو مطلب لمحت إليه تحقيقات صحافية منشورة بالصحف، حول تورط أحمد مجاهد في مخالفات مالية.

يضيف فرج: «أيضا ما يدلل على موقفي من وزير الثقافة مسألة تعيينه للكاتب جمال الغيطاني، رئيس مجلس إدارة مكتبة (القاهرة). فعلى الرغم من احترامي لشخص الغيطاني، فإن هذا التعيين مرفوض لعدة أسباب، منها أن الرجل مسن قارب على السبعين ومريض بالقلب ويحتاج للراحة، وغير متخصص بالمطلق في إدارة المكتبات، ناهيك عن أن الغيطاني جزء أساسي من النظام السابق، فقد ظل 17 سنة رئيس لتحرير (أخبار الأدب)، وتم التمديد له أكثر من مرة».

أما الباحث والمحقق في التراث الشعبي، هشام عبد العزيز، فيقول: «في ظني، لا يمكن أن يحدث أي تغيير إذا استمر العمل على نفس الهيكل التنظيمي القديم مع تغيير العناوين والشعارات. فهناك تكوينات تنظيمية كثيرة جدا لم يكن الهدف منها أكثر من السيطرة على المثقفين المصريين، أو إدخالهم الحظيرة، كما أشيع عن وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني.

من تلك التكوينات التنظيمية، التي لا يمكن أن يُرجى منها فائدة، نذكر ما يسمى بالشعب واللجان التابعة للمجلس الأعلى للثقافة، فهي ليست أكثر من (سبوبة) كان النظام القديم يبقي عليها لسهولة السيطرة على المثقفين المصريين، ولا يحظى بالانضمام إليها إلا أصحاب الحظوة في النظام القديم، ولم تقدم هذه اللجان للثقافة المصرية أكثر من مراكز قوى ثقافية، بمعنى أنهم كانوا من يوصي بمنح التفرغ وجوائز الدولة، وهو ما سمح في أحيان كثيرة بأن تبدو هذه الأداة وكأنها وجه آخر للشللية الثقافية، والكل يذكر حين اعتصم أحد المثقفين الراحلين أمام مبنى المجلس لإجبارهم على منحه جائزة الدولة في الرواية».

يتابع هشام: «من التكوينات التنظيمية التي يمكن التعاطي معها بشيء من التعديل، ما يسمى بمشروع النشر الإقليمي، الذي كان الهدف منه في البداية أن تتيح الدولة نافذة للنشر أمام أدباء وكتاب الأقاليم، وهو ما سمح بوجود بعض الأعمال الجادة لبعض أدباء الأقاليم، لكن المشروع ككل تعرض لحالة من حالات التجريف والتزييف؛ بحيث نشرت أعمال لا يمكن أن تساوي حتى ثمن الأحبار التي تكتب بها، وذلك أن المشروع تحول من نافذة للنشر إلى رشوة لأدباء الأقاليم».

ويوضح باحث التراث الشعبي أنه «على ذكر النشر في وزارة الثقافة، يلاحظ المتابع المدقق الفارق الواسع بين مستوى ما يُنشر في المؤسسات الثقافية المختلفة، ففي حين نجد منشورات المجلس الأعلى للثقافة ذات مستوى رفيع، فإن هناك مؤسسات أخرى لا تحظى منشوراتها بالقدر نفسه من الرقي. وهو ما يدفعنا لاقتراح أن تكون الهيئة العامة للكتاب هي الجهة الوحيدة المخولة بالنشر في الوزارة ككل، على أن يكون هناك تنسيق كاف بينها وبين بقية المؤسسات الثقافية.

أما فيما يخص هيئة قصور الثقافة وهي أكبر هيئة في وزارة الثقافة، حيث ينضوي تحتها أكثر من مائة مؤسسة ثقافية في محافظات مصر كلها، فمن الواضح أن ميزانيتها ليست كافية لتغطية نشاطها كله، كما يجب أن يسمح لكل قصر ثقافة بأن يعمل بشكل مستقل خططيا طبقا لطبيعة الأنشطة السكانية التي يخدمها، فليس من المعقول أن توضع خطة ثقافية واحدة بأهداف واحدة يعمل الجميع على تطبيقها بنفس الوسائل في سيناء كما في الوادي الجديد كما في مدن القناة كما في القاهرة الكبرى».