المثقفون والشارع.. من يحرك من؟

هل أصبح المثقفون منتجين لـ«ما يطلبه المستمعون»؟

جانب من الفعاليات التي حفل بها المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية 26)، الذي يقام حاليا في العاصمة السعودية (تصوير: مسفر الدوسري)
TT

يحلو لبعض المثقفين أن يسبغوا على أنفسهم صفات الريادة والقيادة والصدارة، لكن قسما من المراقبين لا يرونهم سوى «منساقين» لحركة الشارع، ومتأثرين عاطفيا أو مصلحيا بالسواد الأعظم من الناس، الذي بات مؤثرا في خيارات النخب، وراسما أفكارها على هواه.

الشارع الذي يوصف عادة بأنه عاطفي، أصبح يشكل وعي النخب الثقافية، ليس برص الصفوف وتكثير السواد أمامها، ولكن بتحويل المنتجات الثقافية إلى مادة استهلاكية وتجارية، فيصبح الجمهور مستهلكا والمثقف منتجا لسلعة يجري تكوينها على هوى المستهلك، وهذا أبعد ما يكون عن رسالة الثقافة، والفكر.

في التحقيق التالي، يتحدث مثقفون سعوديون عن تأثر المثقف بسطوة الشارع، كما يتحدثون عن تشكل مصطلح المثقف والدور الذي يؤديه.

د. عبد الرحمن الحبيب: سطوة الشارع

* الدكتور عبد الرحمن الحبيب، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن المثقف يقاوم سطوة الشارع بالتحدي من أجل إنقاذ نفسه الداخلية، هناك يغوص بعيدا في الباطن ما تحت الوعي، باحثا عن نفسه الأصلية، كي يقاوم الاستلاب، ولو بين فينة وأخرى، ويقاوم إغراءات النجومية التي تتطلب التنازل عن الذات من أجل إرضاء الآخرين، وما يتبعها من تنازل عن الجدارة مقابل الربحية، وتنازل عن التميز إزاء النمطية، وتنازل عن الحقوق من أجل الأغلبية، سحق الفرد من أجل الجمهور.

وأضاف الحبيب: «المشكلة أن هناك سياقا عولميا جارفا نحو مبدأ الربحية بالمعنى الاقتصادي الضيق، فكل نشاط إنساني وكل منتج ثقافي يتحول إلى بضاعة وإعلان تجاري، هذا المبدأ يتطلب أن تكون شعبيا أو بمعنى أدق شعبويا لكي تربح، حتى تكون ذاتك بضاعة. وهذا مبدأ طبيعي، لكن ينبغي مقاومة تفرده بنا دون سائر المبادئ».

ولكن أين يكمن الملاذ؟ يجيب الكاتب السعودي على سجاله بالقول: «الملاذ هو في توجيه الطاقة نحو التعبئة الداخلية أولا من أجل الامتلاء الداخلي، بعد الوعي بأن في النجومية استلابا للذات»، ويضيف: «قيادة الشارع تزداد يوما بعد يوما، ليس في الثقافة الفكرية فقط، بل حتى في صنع الأخبار السياسية التي نشاهدها كل مساء أمام الشاشات، فعبر الإنترنت، والهاتف الجوال والفضائيات أصبح رجل الشارع المتلقي هو صانع الخطاب، فهو من يجلب الإعلان.

عبد الله ثابت: زمن الأفكار الكبرى ولى

* لكن أي تلك الأفكار التي تمثل عنوانا لقضية كبرى؟! يجيب على هذا السؤال الشاعر والروائي عبد الله ثابت، حيث يقول لـ«الشرق الأوسط» إن زمن الأفكار الكبرى والآيديولوجيات التي تمثلها قوى اليمين واليسار قد ولى، أو أنه في طريقه ليتلاشى، مضيفا أن حسابات التاريخ القديمة تهشمت على صخرة واحدة، اسمها الشاشة، شاشة الجوال، واللابتوب، والـ«آي باد»، والفضائيات، زمن «يوتيوب»، و«فيس بوك»، و«تويتر».

وزاد ثابت في مداخلته: «أجل.. هذا زمن الشاشات الصغيرة والشباب، لم يعد للمثقف ولا للنخب دور يذكر في قيادة المجتمع، التقنية والمال والمعلومة وحدها من تدير كل شيء الآن، ومن يقبض عليها فهو بالضرورة واحد من الذين يديرون مصير العالم، أفراد أو مؤسسات أو حكومات، وحالة المثقف بصورته القديمة ليس لها من مكان يذكر في كل هذا!».

إيمان تونسي: الشراكة الفكرية

* وفي إطار الحديث عن ريادة المثقف، تقول إيمان تونسي (ناقدة مسرحية) لـ«الشرق الأوسط»، عندما نبحث في أحقية الريادة فهذا حتما سيقود إلى خلاف بين المثقفين أنفسهم، وليس فقط بين المثقف والمجتمع، إن ما يتمناه المثقف هو الشراكة الفكرية، بمعنى أن يسهم في صناعة المسيرة الثقافية محليا ومن ثم دوليا.

وتحدثت تونسي عن المشهد الثقافي، حيث ينأى بعض المثقفين بأنفسهم بعد مواجهة الكثير من الخيبات فيختارون العزلة الاجتماعية حلا أمثل، وهنا يأتي دور أصحاب القرار في رأب الصدع بين المثقف والمجتمع وبناء أرضية مشتركة يجد فيها المثقف، وهو ابن المجتمع، مساحات لتفعيل ما يملكه من أدوات فكرية، لمعالجة ما يستجد من قضايا وظواهر تؤثر سلبا على بنية المجتمع، وهو بدوره هذا يسهم في دفع عجلة الفكر ليس في المجتمع المحلي فحسب، بل في القرية الكونية مهما تشعبت أطرافها. وتقول: «المسألة هنا ليست تصادما وإنما عقلانية وتكامل أدوار قد تتباين في أهميتها، ولكنها تتساوى في خدمتها للصالح العام، فالمجتمع يعول كثيرا على المثقف ومهمته التنويرية في استشراف مستقبل ورسم ملامح الذهنية والتوجهات التي ستصبح واقعا عما قريب».

عبد الله التعزي: المثقف المستقل

* عبد الله التعزي (روائي وقاص سعودي)، يتناول القضية من زاوية مختلفة، حيث يقول إن الريادة الفكرية ليست هي الهاجس الذي يهتم به المثقف بقدر اهتمامه بما هو الدور الحقيقي للمثقف تجاه المجتمع، والذي لا بد أن يكون فاعلا وسابقا للمجتمع بحيث يكون موجها له، ولكن الاعتقاد بأن المثقف نجم صنعة المجتمع لا بد أن يجعل هذا النوع من المثقفين المصنوعين من قبل المجتمع أو المنتظرين لصناعتهم من المجتمع لا بد وأن يقدموا بعض، إن لم يكن الكثير، من التنازلات أمام سطوة هذا المجتمع، وهي ربما تكون كنوع من رد الجميل أو في أحسن الأحوال كمجاراة للمجتمع، وفي محاولة لعكس نبض شارع لا يعنيهم كثيرا.

وزاد بالقول: «الدور الذي أتحدث عنه، الذي لا بد للمثقف الحقيقي، أن يقوم به هو دور استشرافي قيادي للمجتمع، دور يتطلع فيه المثقف إلى أفق أرحب وأوسع في مسيرة الحضارة الإنسانية، بحيث يقدم المثقف للمجتمع مجموعة متكاملة من التوجهات والرؤى والأفكار.. وذلك من الأمور التي لو تعامل معها المجتمع بالجدية المطلوبة وأعطاها الفرصة الكاملة للتعامل والاستخدام، فإنها ستقوده إلى التقدم بخطوات واثقة ومميزة وسريعة وبها الكثير من الرقي».

وأوضح التعزي: «السلطة المجتمعية السائدة ربما تفرض على بعض المثقفين سلطتها المتهالكة، وتجبرهم على ردود أفعال ليست على قدر من الأهمية للاثنين المجتمع والمثقف معا، مما يهمش دور المثقف أمام المجتمع ويفقده مصداقيته تماما». وقال: «لا أشير هنا إلى أنه لا بد أن يرفض المثقف المجتمع، ولكنني أتوقع من المثقف، الذي هو نتاج لهذا المجتمع، أن يكون مستقلا فكريا ولديه القدرة على قراءة الواقع واستنتاج الاتجاهات. ويضيف: «هنا تظهر قدرات المثقف التي تميزه عن غيره من أفراد المجتمع وتكون قدراته الاستشرافية».

والاستقلال لا يعني التصادم، يقول التعزي: «مجابهة المثقف للمجتمع لا بد أن تكون في اتجاه مخالف للاصطدام المباشر، ولكن من خلال الأطروحات الجادة التي تناقش بهدوء مواطن الخلل في المجتمع أو مواقع النسيان فيه، مما يعطي المجتمع فرصة لأن يرى نفسه أمام مرآة النقد ليدرك عمق المشكلة ويتفهمها ثم يشرع في البحث عن حلول لها، ليتقدم عندها المثقف بتصوراته ورؤاه وأفكاره ويطرحها للنقاش الحقيقي والجاد، الذي سيستغرق وقتا، ولكنه في النهاية سيصل بالاثنين إلى اتجاه رائع في الحياة ومتقدم وربما سابق للكثير من المجتمعات الأخرى».