حين يتحول الجلادون والضحايا إلى وحوش

العطار في كتاب جديد صادر بنيويورك

TT

هل الصداقة بين المستعمِر والمستعمَر ممكنة؟

بهذا السؤال تستهل الدكتورة سمر العطار الفصل العاشر من كتابها الجديد، الذي حمل عنوان «الكشف عن أساطير الاستعمار: العرب وأوروبا» (Debunking the Myths of Colonization: The Arabs and Europe)، والذي صدر عن دار نشر جامعة أميركا في واشنطن في 300 صفحة من القطع الكبير. لكن الدكتورة سمر لم تتوقف في كتابها عند هذا السؤال، بل طرحت أسئلة أخرى حاولت الإجابة عنها بتجرد وموضوعية، ومن منطلقات تاريخية وواقعية ملموسة.

استوقفتنا في الكتاب أولا لوحة غلافه المعبرة. وفي اتصال خاص مع الدكتورة سمر أخبرتنا بأنها انتقت اللوحة لتتوافق بشكل موح ومعبر مع الموضوع العام للكتاب، وهي لوحة للفنان الإسباني المرموق غويا الذي عاش في القرن الثامن عشر. وعنوانها «نوم العقل يولد المتوحشين/ أو الشياطين المتوحشة». وهناك في اللوحة رجل ينام وخلفه وفوق رأسه قوى الشر متيقظة لتوقع الدمار في العالم. ولقد سمى غويا اللوحة بالإسبانية. وتوضح اختيارها قائلة «كنت أقصد من اختياري لهذه اللوحة أن تشرح ما أريد في الكتاب. فالمستعمِر الذي يحاول السيطرة على شعب ما لا يستخدم عقله السليم، وتكون النتيجة مرعبة للطرفين: هو يقتل ويدمر جاعلا من نفسه وحشا، ومن الآخرين الذين يتصدون له بكل الوسائل وحوشا أيضا».

هذا الكتاب الذي لم يترجم إلى اللغة العربية بعد، صدر في وقت واحد عن فروع دار النشر الرئيسية في كل من لانهام، وبولدر، ونيويورك، وتورنتو، وبليموث – إنجلترا، وترك أصداء طيبة في أوساط أكاديمية ونقدية غربية، ومنها مقالة مطولة نشرتها البروفسورة جانيس تيري في فصلية الدراسات العربية الصادرة في لندن (Arab Studies Quarterly - Winter, 2011)، وحضت في خاتمتها الجامعات على تبني الكتاب في مختلف الكليات وقالت فيها «إن هذا الكتاب الممتاز يذهب أبعد عن أن يبرهن على العواقب الجسيمة للاستعمار، وعلى شرح العلاقة الصعبة ما بين المستعمِر والمستعمَر. فهو يقدم مادة غنية جدا لاستمرار النقاش في المستقبل حول طبيعة الأدب العربي الحديث في دراسات جديدة. وقد استخدمت المؤلفة النظريات الأدبية، والسياسية، وما بعد الاستعمار، وهذا ما يدعو لتبني الكتاب في مختلف الكليات الجامعية، واقتنائه من المكتبات».

ونجد أن البروفسورة تيري، وهي أستاذة تاريخ في إحدى جامعات ميشيغان، تؤكد أن الدكتورة سمر العطار أبدت تفوقا ملحوظا، بل نادرا في الفصل العاشر. ومن الجدير بالذكر أن الدكتورة العطار كانت قد تناولت في هذا الفصل الصداقة بين فدوى طوقان وشاعرة إسرائيلية، وأحدثت ضجة كبيرة في الماضي عندما تحدثت عن هذا الموضوع في مؤتمرات عدة، حيث تساءلت عن إمكانية الصداقة بين امرأتين: إحداهما فلسطينية، وأجدادها فلسطينيون، والأخرى مستوطنة شهدت بأم عينيها سقوط المدن الفلسطينية عام 1948. وبعد احتلال إسرائيل لنابلس عام 1967 وإدانة السلطات الصهيونية لإحدى قصائد فدوى قامت الشاعرة الإسرائيلية بزيارة لفدوى في بيتها، وكانت تدعو للسلام مع العرب.

الدكتورة سمر العطار التي حلت في أستراليا منذ أواخر السبعينات، أهدت كتابها الجديد إلى والديها اللذين شجعانها على أن تكون مفكرة مستقلة منذ الطفولة.. إلى أمها: مسرة العظم.. وأبيها الدكتور فائق العطار.. وكلاهما ميت ومدفون منذ زمن بعيد في مدينة دمشق. والكتاب بمجمله يتصدى إلى الكشف عن أساطير الاستعمار، وفضح مساوئ هيمنة شعب على آخر، والنتائج السلبية المترتبة على ذلك. وهو يعالج موضوع الاستعمار العقلي، وهو من أخطر الأنواع التي تداهم المستعمَر المثقف خاصة، وتمنعه من معرفة هويته وانتمائه، وتخلق في نفسه مركب نقص مريعا تجاه المستعمر. وما بدأت المشكلات النفسية في حياة الإنسان إلا لعدم معرفته بتاريخه ولغته وحضارته. فالمستعمَر يحاول جاهدا أن يدرس تاريخ مستعمِره، وأن يتعرف على حضارته ولغته، مهملا كل ما يخصه هو وشعبه، محاولا جهده أن يكون مرآة لسيده.

وفي هذا الإطار تؤكد أن الكشف عن أساطير الاستعمار يهم المختصين في التاريخ، والعلوم السياسية، وعلمي الاجتماع والإنسان، والأدب العربي والعالمي، ودراسات الشرق الأوسط. وتقول إن الاستعمار البريطاني حرم إدوارد سعيد كطفل من اسمه العربي، ومن لغته، ومن معرفة واسعة في الأدب العربي، لا لشيء إلا لأنه أرسل إلى مدارس إنجليزية تبشيرية منذ نعومة أظفاره. لكن إدوارد استخدم اللغة الإنجليزية، لغة المستعمر، بعد سنين ليهاجم الهيمنة الاستعمارية على شعوب الأرض.

وترى أن المؤرخين الغربيين، وعلماء الاجتماع، والإنسان، والعلوم السياسية، يركزون في دراساتهم عادة على بعض المستعمرين، لكنهم ينسون أو يتناسون مستعمرين آخرين. أما إذا ما ذكروا هؤلاء فإنهم يجدون الأعذار للمستعمر ويرفعون من قيمة الاستعمار. وتحت راية «الضرورة الأخلاقية الملحة»، أو «البعثة الحضارية»، أو «التقدم العلمي والتكنولوجي»، يبررون سيطرة شعب ما على آخر، وحتى إبادته من الوجود. ونتيجة لذلك فإنهم يقللون من أهمية النتائج السلبية للهيمنة الاستعمارية، أو يمحون كليا جماعات مستعمرة من كتب التاريخ. وتصبح الفتوحات، كظاهرة عالمية، ملتصقة بفئات وشعوب معينة دون غيرها. وحتى عندما يتناول العلماء الغربيون حوادث معينة من العدوان في التاريخ فإنهم يسلطون الضوء على أهداف المعتدي وسياساته مهملين في الوقت نفسه رؤية الاعتداء من وجهة نظر المعتدى عليه، أو النتائج المريعة للفتوحات العسكرية بشكل عام.

وتذهب إلى أن المدينة التي فتحت أبوابها للتقدم كما يمثله ميناؤها، وشبكات مواصلاتها، ومعاملها، ومستوطناتها الأجنبية، ومدارسها التبشيرية، لم تعرف إلا الاضطهاد والظلم. فالمشروع التنويري الذي يركز على العقل قد أصبح مشروعا غير عقلاني تسيطر عليه أساطير جديدة. ومحيت القرى الفلسطينية من الوجود، وطمرت الآثار الموجودة لتفسح مكانا لآثار جديدة. وكتب تاريخ جديد للمدينة، ولسكانها الأوروبيين المستوردين من أوروبا. أما السكان القدامى فقد قتلوا أو أخرجوا من قراهم بالعنف. وأولئك الذين بقوا صاروا سكانا من الدرجة الثانية.

وهي على صعيد آخر تؤكد أن المستعمرين على اختلاف أنواعهم نظروا في النماذج المتباينة للاستعمار عبر التاريخ، وانتقوا ما يناسبهم منها. لكن العنف كان دائما هو العامل المشترك بينهم جميعا. فوجوه التشابه بين الحكم الاستعماري الإسباني، والبرتغالي، والهولندي، والبريطاني، والفرنسي، والبلجيكي، والألماني، والصهيوني كثيرة جدا. وسواء أراد الدخيل أن يحتل بلدا لأسباب استراتيجية، أو اقتصادية لفترة زمنية معينة، أو أن يجلب مستوطنين ليعيشوا على الأراضي المحتلة إلى الأبد، فإن النتيجة متشابهة. والهدف الرئيسي من كل ذلك هو احتلال أراض أجنبية، وإخضاع أهلها بالقوة. وحالما يخترق محيط المرء الخاص فليس هناك كثير من الأمل في عودة الأحوال إلى طبيعتها بعد قدوم، أو خروج، الدخيل. وعلى أكثر الظن فإن تدمير أبناء الوطن الأصليين وحضارتهم يصبح شبه تام. وتبدأ مشكلات جديدة في الظهور في الأمم المقهورة، كالشرذمة والتفرقة، والحركات الانفصالية، والنعرات الطائفية والإثنية، والفقر، والجوع، والأمراض. ويصبح حكم العسكر هو الحكم السائد في البلاد.

ومن الخلاصات التي تعكسها في الكتاب إقرارها بأن العالم الذي أغمض عينيه عندما انتهكت حقوق الإنسان الأساسية في أمة ما يجب أن يعترض على هذا الانتهاك، وأن يستجوب على الدوام لمواقفه المخزية.

* «الكشف عن أساطير الاستعمار: العرب وأوروبا»

* المؤلفة: سمر العطار

* الناشر: دار نشر جامعة أميركا - واشنطن