تحذير للمتاحف الفرنسية: إما استقلال ذاتي أو غرق في الظلمة

تقرير جديد يقرع ناقوس الخطر

TT

لا يبدو أن المتاحف الفرنسية، وهي من بين الأشهر والأهم في العالم، ستجد قريبا حلا لمعضلاتها المالية، في ظل الأزمة الاقتصادية. فكل المحاولات السابقة باءت بالفشل، وتقرير جديد صدر منذ أيام يقرع ناقوس الخطر، ويضع هذه المتاحف أمام خيارين، لا ثالث لهما. هنا تحقيق حول وضع المتاحف الفرنسية والأبواب الصغيرة المقترحة لها لحل مشكلاتها.

مستقبل مقلق وأيام صعبة تنتظر المتاحف الفرنسية، هذا ما تنبأ به ديوان المحاسبة الفرنسي «لاكور دي كونت» للمتاحف الوطنية الكبيرة التي يضّمها بلد موليير في تقريره الأخير الذي صدر منذ أيام قليلة.

التقرير الذي ضّم أكثر من مائتين وسبعين صفحة جاء بعد دراسة تحليلية دقيقة لعشر سنوات (2000 - 2010) من تسيير وإدارة مؤسسات عريقة كاللّوفر، وأورسي، وفرساي وجورج بومبيدو. الهيئة القضائية المستقلة التي تتولى مهمة التدقيق في الحسابات المالية للمؤسسات العامة بما فيها المتاحف الوطنية بدأت في تقريرها بالإشادة بالإنجازات التي حُققت في العشرية الأخيرة، فاعترفت بأن المتاحف الوطنية السبعة والثلاثين الأكثر أهمية في البلاد قد بذلت في السنوات الأخيرة جهدا لا يستهان به في سبيل تنمية وتطوير عرضها في اتجاه الزوار: فعدد العروض والتظاهرات وعدد المقتنيات من التحف والّلوحات في تحسن مستمر وكذا نوعية العروض وقيمتها الفنية. ولا عجب إذا علمنا أنه من بين المتاحف العشرة الأولى الأكثر زيارة في العالم أربعة فرنسية الجنسية، على رأسها الّلوفر الذي يبقى رقم واحد عالميا.

نجاح بعض العروض كان لافتا للانتباه: فالتظاهرة الفنية التي نُظمت في باريس تكريما لأعمال الفنان المعروف كلود مونيه المّلقب بـ«أبو الانطباعية» نجحت في استقطاب أكثر من 900 ألف زائر في مدة قياسية لا تتعدى الثلاثة أشهر وقبله لوحات العبقري بيكاسو التي جذبت نحو 700 ألف شخص تقريبا على امتداد نفس الفترة. التقرير أشاد أيضا بالتطور الذي أحرّزته هذه المتاحف في مجال إدارة وحفظ التّحف التي تملكها، لكنه في نفس الوقت نبّه إلى مشكلة نقص المكان المخصّص للمخازن وضرورة إيجاد حلول سريعة لها خاصة أن مشروع إنجاز مخزن ضخم في ضاحية «سرجي بونتواز» لن يكون جاهزا قبل عام 2020. في حين شهدت العاصمة باريس هذه السنة عدة حوادث بسبب ارتفاع منسوب المياه أحيانا لغاية أربعة أمتار وبات يُخشى على محتويات المتاحف من التلف في حالة فيضان نهر السين.

لكن ديوان المحاسبة خصصّ القسم الأكبر من تقريره للجوانب السلبية التي قد تتفاقم مع مرور الوقت لتصبح مشكلات حقيقية يصعب معالجتها. أهمها ما يّخص ارتفاع نفقات هذه المتاحف التي وصلت لنسبة 58 في المائة. فبين سنة 2000 و2010 قفزت نسبة المبالغ التي خصّصتها الدولة لهذه المؤسسات من 334 مليون يورو إلى 526 مليون يورو، وهو ارتفاع سريع يعادل ضعف ما تنفقه الدولة على وزارة الثقافة كاملة. مفارقة عجيبة لا سيما أن قانون 2002 الخاص بالمتاحف قد أقّر باستقلال هذه المؤسسات عن الوصاية الحكومية ومنحها حرية أكبر في تسيير وإدارة شؤونها الخاصة، وبالتالي إمكانية الّلجوء لتمويل خاص. وهو ما وصلت إليه نسبيا مؤسسات عريقة مثل «اللوفر» أو «شومبور». وكان ينتظر أن تعتمد هذه المتاحف أكثر على هذه الصيغة الجديدة لكن ما حدث هو العكس، حيث إن نسبة تمويلها الذاتي تراجعت من 43 في المائة عام 2006 إلى 39 في المائة عام 2009. والوضعية قد تسوء، لتجبر الحكومة على إخراج محفظتها من جديد، خاصة إذا علمنا أن تكاليف المشاريع التي هي قيد الإنجاز والمنتظرة بين عام 2011 - 2017 كترميم «متحف قصر طوكيو» ومتحف «بيكاسو» ومتحف الحضارات بمرسيليا وصلت لنحو مليار يورو.

التقرير تعّرض أيضا لعمليات التمويل الخاصة التي بدأت المتاحف تلجأ إليها بعد قانون 2002 من بينها «الإعارات مدفوعة الأجر» وأشهرها مشروع «لوفر أبوظبي» الذي عاد على المتحف الفرنسي بأكثر من 520 مليون يورو، ورغم انتشار مثل هذه الصفقات فإن كثيرا من النفاق ما زال يلازم تطبيقها. فكل المتاحف الفرنسية أصبحت تعير بمقابل مادي لكنها ترفض التصريح بذلك علنيا، أضف إليها عمليات «النصرة» التي سمحت للكثير من هذه المؤسسات بتمويل مشاريع ترميم واقتناء تحف جديدة. التقرير تعرض بالنقد لموضوع شديد الحساسية وهو الشق الخاص بـ«المقابل»: فنقرأ مثلا أن متحف اللوفر كاد أن يُسمي القاعة المعروفة حاليا «قاعة الموناليزا» بقاعة «نيبون تي في» وهو اسم الشركة التي مولت عمليات الترميم، وهي القناة اليابانية المعروفة «نيبون تلفجن»، وكذلك الحال بالنسبة لجناح «أبولون» الذي كاد أن يطلق عليه اسم «توتال» تكريما للشركة النفطية الفرنسية، لولا «فيتو» وزارة الثقافة التي شّددت لهجتها اتجاه شركة «توتال» قائلة بأن اللّوفر «لن يباع كشّقق مفروشة». الدراسة نفسها خلصت إلى أنه على الرغم من التخفيضات الضريبية التي تمنح للشركات المانحة والتي تفوق ما تعرضه بعض الدول كالولايات المتحدة الأميركية إلا أن الغموض لا يزال يكتنف نتائج عمليات النصرة أو تكاليفها الحقيقية.

تقرير «لاكور دي كونت» تعرّض أيضا لظاهرة استحواذ العاصمة باريس على حصّة الأسد من المشاريع ومن الأموال على حساب المدن الصغيرة التي تفتقر لكل شيء، علما بأن المتاحف الباريسية الخمسة الكبرى تستأثر لوحدها على 75 في المائة من زيارات الفرنسيين والأجانب بينما ينتشر في باقي البلد أكثر من 1200 متحف، بعضها لا يستقبل إلا عددا ضئيلا من الزوار. ورغم ظهور مشروعي «لوفر لونس» و«متز بومبيدو» اللذين يهدفان إلى النهوض باقتصاد المدن الصغيرة عبر «السياحة الثقافية» فإن الفوارق لا تزال صارخة. وهو ما يؤكده هذا التقرير الأخير الذي ندد بـ«سياسة وطنية أكثر انحيازا للعاصمة» التي باتت تستحوذ على كل الاستثمارات الوطنية. ففي الوقت الذي يتواصل فيه الدعم الحكومي للمتاحف الباريسية، تنخفض فيه الإعانات المحلية إلى النصف بالنسبة للمتاحف الموجودة في المدن الصغيرة.

لكن تبقى أكبر إخفاقات المتاحف الوطنية - حسب ديوان المراجعة الفرنسي - فشلها في استقطاب جمهور الشباب والطبقات الكادحة وسكان الضواحي والأرياف الذين نادرا ما يفكرون في زيارة هذه الأماكن. عزوف الشباب عن زيارة المتاحف كان لافتا للانتباه، فإقبال هذه الشريحة سّجل انخفاضا محسوسا من 17 في المائة سنة 2003 إلى 15 في المائة عام 2010، بعيدا عن نسبة 20 في المائة المرتقبة منذ تطبيق مبدأ مجانية الدخول التي منحت لهم سنة 2008. ولهذا فقد أوصى ديوان المراجعة بإنهاء مبدأ المجانية طالما أنه لا يغير في الأوضاع شيئا.

التقرير لاحظ أيضا أنه على الرغم من الأرقام الجيّدة التي ميّزت معدلات زيارة المتاحف الفرنسية في العشرية الأخيرة (زيادة عشر ملايين زيارة) فإنها تبقى مقتصرة على السيّاح الأجانب وسكان باريس من الطبقات الراقية والمثقفين.

ورغم الدعم المادي الهائل الذي حظيت به المتاحف الفرنسية خلال العشرية الأخيرة فإنها فشلت في تنويع جمهورها وتوسيع رقعته ولم تتوصل بعد إلى التحكم في نفقاتها وتحقيق استقلالها المادي، وهي الوضعية التي إن لم تصحح أفقدتها مكانتها الريادية.

تقرير ديوان المراجعة الفرنسي وجهّ أصابع الاتهام للدولة التي أهملت دورها كـ«رقيب» ولم تشجع روح الاستقلالية، ونشرت أكثر من 23 توصّية لتصحيح هذه الوضعية.

علما أن كل المناسبات أصبحت مواتية للتذكير بأن أعباء الدولة قد أصبحت ثقيلة وبأن الاعتماد على الأموال العامة قد أصبح أكثر صعوبة في المستقبل، ولهذا فإن التحذير الذي وجه للمتاحف الفرنسية كان بمثابة رسالة واضحة: فإما أن تحقق استقلالها الذاتي وإما أن تغرق في بحر الأزمات.