جدل فكري على هامش زيارة برنار هنري ليفي لليبيا

هل هي عودة إلى التزام المثقف على حساب العرب؟

TT

وأخيرا استعاد برنار هنري ليفي صوته، ولكن على حساب العرب، فأصبح لابسا بدلة عسكرية، وهو يتجول في ربوع بنغازي، مع ثوار، جُلِبوا على عجل، لمرافقته، يقودهم قادة كانوا إلى حد البارحة يؤمنون بالنظرية العالمية الثالثة التي ستطيح بكل الآيديولوجيات الكونية. ربما تصور المفكر أو الفيلسوف الفرنسي، كما يروق لكثيرين وصفه، أنه بهذه الصور، يمكنه أن يمسح فضيحة زيارته لربوع باكستان، التي لازمته طويلا، والتي تبين أنها كانت من وحي خيال جامح فجرت له الكثير من العار والشنار، وأثبتت أن كتابه عنها هو محض أوهام.

ولكن هذا الموقف الذي يرى فيه برنار هنري ليفي وفاء للالتزام السارتري الشهير، لا يلبث أن يثير مواقف رافضة ومشككة في أوساط المثقفين الفرنسيين، البعض منهم كانوا قريبين إليه فكريا وحتى عقائديا.

يكتشف برنار هنري ليفي أن في ليبيا شعبا مضطهدا، يجب تخليصه من «طاغية». ولكن هل لا يوجد الطغاة إلا في هذا البلد الضعيف، الذي أفقره نظام متغطرس وزعيم، به مس، ويعيش خارج التاريخ؟ لماذا لم يتحرك ليفي حين تفجرت الثورة التونسية ثم تبعتها الثورة المصرية؟ والغريب أن كلا النظامين كان شديد التعلق بفكرة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن الاتحاد الأورو - متوسطي، الذي كان الأساس فيه هو إدماج دويلة إسرائيل وتطبيع وجودها، وكان الرئيسان المطاح بهما يحلمان بتولي رئاستها.

ثم لماذا لم يتحرك ليفي حين سطر الفلسطينيون ثورة نقية سلمية، الانتفاضة، تتماهى مع فلسفة غاندي وحكمة نيلسون مانديلا؟ الغريب أن «فتوحات» ليفي لم تحدث إلا في عالمنا العربي الإسلامي، من بؤس بنغلاديش إلى صداقة غامضة مع عزت بيكوفيتش في البوسنة، إلى صداقات مشبوهة مع بعض رجالات القذافي.

وقد جاءت الصفعة الأولى من كلود لانزمان (مدير مجلة الأزمنة الحديثة)، في مقال في «لوموند» الفرنسية، اعترف فيه أن هنري ليفي مارس عليه ضغوطا للتوقيع على «نداء الفرصة الأخيرة من أجل تدخل عاجل في ليبيا»، وأكد أن فكرة التدخل تطرح له مشكلات.

وقد كانت هذه الرسالة بداية لتدفق مواقف رافضة ومنددة بدور المثقف كمشعل حرائق وكداعية حرب. وانضم الروائي الفرنسي مارك ويتزمان إلى الحملة، فكتب في صحيفة «ليبراسيون» أن «المثقف الملتزم، مرض فرنسي»، وأكد فيه أن سارتر، يسارا، ومالرو، يمينا، أي «الأبوَان» لنظرية الكاتب الملتزم في نظر برنار هنري ليفي، يظلان في الحياة الأدبية، الصورتين الكبيرتين. وإذا كان صحيحا أن الثورات العربية تندرج في استمرارية سقوط حائط برلين، إذن فهي، ربما، حرب برنار هنري ليفي الحقيقية والوحيدة: إنقاذ نفسه باعتباره آخر ممثل لهذه الصورة المتجاوزة».

ولم تفوت مجلة «ماريان» الفرصة، فكرست ملفها وغلافها للأمر: «برنار هنري ليفي: زعيم حرب»، وتذهب المجلة إلى أن ليفي ورط نيكولا ساركوزي وباراك أوباما في المستنقع الليبي، ولعل الأزمة التي كادت تدفع وزير الخارجية الفرنسي ألان جيبي إلى الاستقالة، حين أحضر ليفي معه من ليبيا مسؤولين ليبيين كبادرة اعتراف فرنسية بالمعارضة المسلحة الليبية، تكشف عدم علم الخارجية الفرنسية بتحركات ليفي ومخططاته.

بالطبع يرفض ليفي مصطلح «زعيم حرب»، ويفضل أن يصف نفسه: بـ«فيلسوف يحاول جعل حياته منسجمة مع مبادئه»، وهي لمن يعرفه مبادئ لا تعرف معاناة الفلسطينيين ولا حقوقهم المشروعة ولا تطبيق القرارات الدولية - وعلى رأسها قرار عودة اللاجئين.

وإذا ضربنا صفحا عن مثقفين فرنسيين متصهينين، ساندوا حرب بوش وبلير على العراق، ومن بينهم ألكسندر أدلير وباسكال بروكنير، وبالضروري سيساندونه في هذا المسعى، وهو الذي رفض حرب العراق، لأسباب لا يعرفها إلا هو، فإن مفكرين وازنين اعتبروا تصرفه يعبر عن أنانية وانتهازية ظاهرتين.

فريجيس دوبريه يكتب: «لا أريد أن أجيب بخصوص ليبيا، لأني لا أحِسُّني ولا أريد أن أريدني مفكرا فرنسا، نوعا من ممثل هزلي حين يتدخل في السياسة الخارجية»، في حين أن الفيلسوف مارسيل كوشي يرى في الأمر: «رغبة من هنري ليفي في الأهمية والمجد»، لكنه يحذر من الأمر قد ينقلب على ليفي: «إذا فشلت العملية الدائرة في ليبيا».

ولعل أكثر الردود المنتقدة للظهور الميديوي لبرنار هنري ليفي جاءت من الفيلسوف ميشيل أونفراي، الذي رأي في ليفي: «فيلسوفا متواطئا مع السلطة». فأونفراي يستعرض علاقات الفيلسوف الحميمية مع الرئيس ساركوزي؛ «كلاهما يوجد في استراتيجية شخصية: رئيس دولة لم يتوقع ما حدث في تونس وقدم مساعدات ونصائح قمع حكومية (لتونس)، ولم يتوقع ما حدث في مصر، هذا الرجل (ساركوزي) الذي يرى شعبيته تنهار بشكل مدوخ في استطلاعات الرأي اعتقد أنه يمتلك وسيلة استعادة قسم من التعاطف الضائع من خلال اللعب على الورقة الميديوية من قبيل «فرنسا، بلد حقوق الإنسان، تدافع عن الحريات أينما كانت مهددة على الكرة الأرضية». أما برنار هنري ليفي فلا حاجة لإظهار أنه يلعب ورقة شخصية من نوع «الفيلسوف، رجل حقوق الإنسان الكبير يدافع عن الحريات أينما كانت مهددة على الكرة الأرضية».. «إن برنار هنري ليفي يكتب أسطورته هو أكثر من كتابة التاريخ».

وإذا كان ليفي يصر على أنه يوجد في كامل دوره، أي المثقف الملتزم، فإن جاك جوليارد، في افتتاحيته في مجلة ماريان، يرى في الظاهرة نوعا من «الانحراف من المثقف إلى الناشط»: «إن ليفي لم يتصرف كمثقف وإنما كناشط إنساني». وإذا كان الفرنسيون غيورين على ما يسمونه بالاستثناء الثقافي، فإن جوليارد يشكك في «إمكانية ظهور برنار هنري ليفي ألماني أو بلجيكي».

ولعل الاستثناء الفرنسي هو الذي يجعل نفس الرئيس الذي يستقبل القذافي، البارحة، بالأحضان، في باريس، ويفسح له مكانا لخيمته الغريبة، يرسل طائرات حربية للإجهاز عليه.