من «المجتمع والدولة» خليجيا إلى فقه التخلف في عصر العولمة

رحيل المفكر الكويتي خلدون النقيب

TT

يرى خلدون النقيب أنه، إذا كان لأي منطقة حضارية على وجه الأرض روح ناطقة فهي منطقة الجزيرة العربية وامتدادها الطبيعي من وادي حضرموت إلى وادي الفرات، هي أكبر مناطق الأرض ألفة، ولكنها في المقابل أكثر مناطق الأرض غموضا.

يُعتبر المفكر الكويتي، الدكتور خلدون النقيب، الذي توفي مساء الثلاثاء الماضي، أحد أبرز علماء الاجتماع السياسي في الخليج، وعرف بأبحاثه الرصينة التي أثرت المكتبة العربية، مثلما أثرت الفكر السياسي والاجتماعي العربي، ووفرت دراسات علمية عن دور المجتمع والدولة في الخليج العربي، توّجها بأهم أبحاثه وهو كتاب «المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية»، الذي صدر سنة 1987.

كان الراحل النقيب قد توفي في منزله بالكويت إثر نوبة قلبية، عن عمر يناهز السبعين عاما، فقد ولد عام 1941 ودرس الليسانس في جامعة القاهرة والماجستير من جامعة لويفيل بالولايات المتحدة الأميركية، وحصل على الدكتوراه من جامعة تكساس عام 1975، وعمل أستاذا للاجتماع السياسي بجامعة الكويت، وعميدا لكلية الآداب فيها.

عرف النقيب بشجاعة الرأي والتواضع معا، وبحث مبكرا في جدلية العلاقة بين الدولة والقبيلة في المجتمعات الخليجية، كما بحث في (محنة الدستور في الوطن العربي) وأزمة الحرية، وفي الدولة التسلطية في المشرق العربي، وحقوق الإنسان المسلم بين العدل والاستبداد، والمجتمع الجماهيري ومستقبل التنمية في المشرق العربي، وعلى مدى أربعين عاما من العمل الأكاديمي الدؤوب كوّن النقيب تيارا استمد قوته من الأفكار التي كان ينتجها خلدون النقيب في الكويت، وخاصة في فترة السبعينات التي شهدت عصرا ذهبيا للقوى الوطنية، وفي فترة الثمانينات التي ارتفع فيها منسوب الجدل المحلي بين التيارات فيما يتعلق بالدولة والقبيلة والطائفة، وعناصر التأثير المحلي والإقليمي.

يُعد النقيب أحد المفكرين العرب في علم الاجتماع السياسي، كتب العديد من الدراسات من بينها، «تأملات في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة»، 2003، «مفهوم الحكم والمثالية الجديدة» 2001، «مستقبل الفكر الاجتماعي العربي»، 2001، «مستقبل منطقة الخليج»، منشور في كتاب «العرب وجيرانهم»، 2000، «كانت البداية صراع: جدلية الدولة والأمة، العرقيات والدين»، 1997، «القبلية والديمقراطية: الكويت نموذجا»، 1996، «محنة الدستور في الوطن العربي: العلمانية والأصولية وأزمة الحرية»، 1994، «الدولة الشمولية في المشرق العربي»، 1991.

* الروح الناطقة

* كتابه ذائع الصيت «المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية»، واجه فيه المفكر التغيرات التي شهدها الخليج تحديدا، بسبب قيام الدولة، وظهور النفط، وتكون الطبقة الوسطى، وتوسع التعليم، وتشكل العلاقة بين الطبقة السياسية الحاكمة والشعب. الكتاب صدر عام 1987، عن مركز دراسات الوحدة العربية. في هذا الكتاب، يرى خلدون النقيب أنه، إذا كان لأي منطقة حضارية على وجه الأرض روح ناطقة فهي منطقة الجزيرة العربية وامتدادها الطبيعي من وادي حضر موت إلى وادي الفرات.

وقال إنه قصد بالروح الناطقة «الكل الحضاري، أو النظرة الكلية الإجمالية للأشياء التي تتراكم عبر العصور، مهيمنة بشكل خفي وظاهر على مسلكيات ونزوعات السكان».

يضيف: «هذه المنطقة الحضارية هي أكبر مناطق الأرض ألفة، ولكنها في المقابل أكثر مناطق الأرض غموضا وشرودا وغنى، تناقضات من هذا النوع ليست بالضرورة ناتجة عن مبالغات وتعميمات غير موضوعية».

في دراسته النظرية عن المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية، قسم النقيب البحث إلى فصلين: جاء الفصل الأول على شكل مقدمة لهذه الدراسة، وفيها طرح الباحث «عينات من هذا الكم الهائل من الكتابات عن المنطقة الذي لا يقدم إلا القليل من المعرفة، والكثير من سوء الفهم عنها»، وقال إنه جعل أحد أهداف هذه الدراسة الأساسية «البحث عن منهج جديد مناسب للتعامل مع المنطقة، منهج يمكن أن يولد فهما أفضل لها، في الإطار التاريخي للأحداث والظواهر، بحيث يبدو الحاضر في النهاية كأنه وليد طبيعي لبيئته الحضارية، وليس مسخا أفرزته الصناعة النفطية».

في حين خصص الفصل الثاني لتحليل نمط الإنتاج «المركنتالي» (المقابل لمصطلح اقتصاد الحالة الطبيعية) العربي الإسلامي منطلقا للدراسة.

وفي حواره الهام، مع الإعلامي الدكتور سليمان الهتلان، (يوليو/ تموز 2010)، راح النقيب يجادل بأن هذا الكتاب ظلم كثيرا بسبب تصنيف أجهزة الرقابة العربية له بأنه كتاب ينتقد أنظمة الحكم، قال الدكتور النقيب: «إن هذا الكتاب مُنع لعدة اعتبارات، منها أني تحدثت عن قضايا لم يكن محبذا الخوض فيها تتعلق بالثروة وعائدات النفط وبعض القضايا السياسية». ويضيف: «من وجهة نظري أن هذه الأمور جرى تضخيمها، وقام الأشخاص الذين طلب منهم كتابة تقارير عن هذا الكتاب بتضخيم هذا الجانب المثير، فالكتاب تناول قضايا أخرى مهمة». وقال: «بذلتُ جهدا أتحدث فيه عن جوانب من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، في الخليج والجزيرة العربية، فالخليج العربي ازدهر بعد انهيار الدولة العباسية والدولة الفاطمية بسبب بعده عن الإمبراطوريات أو الدول الاستبدادية القديمة».

وقال إن الكتاب تحدث عن التحولات التي شهدتها دول الخليج، حيث تحولت إلى دول ريعية تعتمد على مداخيل النفط، كما تحدث عن الحراك الاجتماعي الجماعي، حيث هناك صعود وهبوط في سلم المكانة الاجتماعية، وقد استعملتْ دول الخليج سياسة ذكية لخلق فرص عمل كبيرة في القطاع الحكومي للقضاء على البطالة التي هي مصدر للتوترات والاحتكاك السياسي.

* القبيلة والدولة

* في دراسات النقيب، كان الحديث عن القبيلة، مرادفا لحديثه عن الدولة باعتبارها الإطار الأكثر تنظيما للاجتماع البشري، وهو يقول في حواره التلفزيوني إنه أراد التركيز في كل ما كتب على أن «القبيلة عقلية عامة وهذه العقلية العامة ستجدها في الحضر كما ستجدها في البادية، بمستويات مختلفة».

يقول النقيب: «كثيرون ممن يعترضون على حديثنا عن القبيلة، يتصورون أننا نتحدث عن (بدو) و(ترحل)، والبحث عن (كلأ)، فهذا الكلام انتهى منذ ما يقارب القرن من الزمان، أما الآن فأبناء القبائل استقروا في المدن واستقروا في الحضر، وأصبحت القبيلة في جزء كبير منها منضوية في صلب التنظيمات الحضرية».

* فقه التخلف في عصر العولمة

* كما اشتغل الدكتور النقيب بتحليل الظاهرة الاجتماعية، والسياسية في الدول العربية، والخليج تحديدا، فقد اشتغل كذلك بقضايا النهضة والتخلف، والعلاقة مع الغرب، هذا الموضوع يمكن ملاحظته في العديد من الكتب التي أصدرها، بينها كتابه «تأملات في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة»، الصادر عن دار «الساقي» في لندن عام 2003.

في هذا الكتاب، رغم صرامة أسلوبه الأكاديمي، يحاول النقيب التعامل مع الفكر الغربي من موقع متحرر من هيمنة هذا الفكر، وكذلك متحرر من الخصومة معه ومع منتجاته الحضارية.

بجرأة يقدم النقيب في هذا الكتاب نقدا للتاريخ العربي قديمه ومعاصره، مقارنا ما قدمه العرب بنظرائهم في العالم، معتمدا على قدرته في تحليل الإخفاقات العربية بحلم قومي في النهضة والحداثة. ومرة أخرى يجد النقيب أن الوصول لمجتمع حداثي يصطدم بطبيعة ما ورثه النظام العربي من معوقات تتصل ببنية النظام الاجتماعي وثنائية «القبيلة والدولة) وانعدام المؤسسات، وإشاعة القانون، وسلامة النظام التعليمي.

النقيب يهتم بتشخيص دور المجتمع في صناعة التخلف، لكنه لا يغفل أن جزءًا حساسا من هذا التخلف يعود في مسبباته إلى الغرب نفسه، دون أن يتحول إلى كاتب تبريري، يفتش عن شماعة خارجية. هو يعتقد أن الغرب من خلال الاستعمار كان مسؤولا عن تخلف العالم الثالث، وهو يرى أن الغرب مسؤول عن مساعدة الدول المتخلفة، وهو يفرق بين منتجات الحضارة الغربية وقيمها.

يقول في حواره التلفزيوني مع الدكتور سليمان الهتلان، بشأن القطيعة مع الغرب: «من حيث المبدأ علينا أن نكون منفتحين على مساهمات الحضارات الأخرى، في الابتكارات التنظيمية والأفكار والتكنولوجيا، فالمشكلة في منهج تأصيل ما نستمده من الآخرين منطلقين من تحديد موقعنا في الحضارة العالمية: أين نقع في الحضارة العالمية».

ويضيف: «هناك من يكتب أننا خرجنا من التاريخ، وهناك كتاب طرحوا: إذا اختفى العرب فماذا ستخسر البشرية. وتفكير من هذا النوع يوضح أن أي مدنية متقدمة تسيطر على المدنيات الأخرى حين تكسر كبرياءها وثقتها بنفسها.

ويقول: «أنا أعتقد أن لدينا من مقومات وثقة بالنفس ما يجعلنا نفكر بطريقة تنطلق من مصالحنا وليس من قوالب مستمدة من الغرب، ومن هذا المنطلق أنا تحدثت عن القطيعة مع الغرب».

في تحليله للعلاقة بين الثقافة والعولمة، يرى المفكر خلدون النقيب أن «الثقافة بالضرورة هي ثقافة العولمة، فهي عولمة بحكم الصلات التي تربط حضارات الشعوب بعضها ببعض، وكل حضارة يمكن أن تكون عالما ثقافيا». وهو يرى أن فكرة اعتبار العولمة نتاج وسائل التواصل الجمعي - التقني الحديث هي فكرة سطحية مبتذلة يتناولها البعض بطريقة احتفالية، احتفالا بالانتصار الأبدي لحضارة الرأسمالية الليبرالية، وأن هذه الفكرة لا تستحق عناء رفضها أو تفنيدها.

في منتصف فبراير (شباط) الماضي، تحدث خلدون النقيب في ندوة أقيمت له في أبوظبي بعنوان «عولمة الثقافة وثقافة العولمة»، تساءل فيها: «لماذا يعتبر البعض العولمة ظاهرة تاريخية؟». وأجاب: «إن هناك الكثير من الباحثين انتبهوا إلى تهافت هذا المنطق اللاتاريخي، وأكدوا على التلاقح الثقافي الاعتيادي بين الشعوب والحضارات. منهم من اعتبره صراعا تاريخيا على الهيمنة والقوة على صعيد عالمي، ومنهم من اعتبره تواصلا يغني الحضارات مما يجعل منها حضارة يتولد عنها سلوك معياري يحدد قيما أخلاقية مشتركة كما في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والحكم الدستوري الرشيد، ومنهم من اعتبره حلقة جديدة غيّرت مسيرته. الإمبريالية تريد أن تستولي على عقول البشر».

وعن العلاقة بين العولمة والحداثة، قال النقيب: «أما كون العولمة ظاهرة تاريخية مرتبطة عضويا بالحداثة، فأقول إن الحداثة ليست مقصورة على هذه المرحلة الحالية من تطور الرأسمالية الليبرالية الغربية»، مستشهدا بعدد من العلماء العرب كالجاحظ، وأبو حيّان التوحيدي، وأبو الطيب المتنبي، وغيرهم الذين اعتبر أنهم كانوا يمثلون الحداثة في الفكر العربي».

* جيل الـ«فيس بوك»

* خلدون النقيب، يرى أن نشأة المجتمع المدني تعود إلى فكرة إنشاء الدولة، بل هي سابقة لها؛ حيث ظهرت هذه المؤسسات التضامنية في فترات مختلفة، وهو يعرّف مؤسسات المجتمع المدني بأنها المؤسسات غير الحكومية كالجمعيات التطوعية وجمعيات النفع العام التي تجتمع من أجل تحقيق أهداف مشتركة، كالدفاع عن المال العام، وحقوق الإنسان، وحماية البيئة، وهو يولي أهمية لمؤسسات المجتمع المدني في قيام دولة القانون، حيث يبرز دور هذه المؤسسات في العملية السياسية، باعتبارها أصبحت جهة رقابية على المؤسسات التشريعية.

المفكر النقيب، يرى أن ثورة المعلومات خلقت فرصة لتكوين جيل عابر للحدود الاجتماعية التقليدية، القبلية والطائفية، ويقول: «أعتقد أن هذا التيار الشبابي هو الأمل للمستقبل، حيث نجح جيل الـ(فيس بوك) في خلق مجتمعات تطوعية عفوية وليست أحزابا سياسية منظمة، وأعتقد أن الأمل على تنمية هذه التنظيمات الشبابية التطوعية العفوية التي لا تحكمها بيروقراطية وتراتبية المناصب الحزبية، فهذه الحركات الاجتماعية الجديدة التي تعتمد على وسائل الإعلام الحديثة وعلى الميديا بالدرجة الأولى تمكنت من أن تحول الإنترنت والـ(فيس بوك) إلى أدوات رابحة لاختيار شخصيات عابرة للانتماءات».