كيف تشكلت الحداثة الديمقراطية في أوروبا؟

مثقفون وصحافيون دفعوا ثمن الحرية دماً

TT

هذا الكتاب من تأليف مؤرخين فرنسيين هما: سيرج برستان، الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس، وبيير ميلزا ذو الشهرة الكبيرة والأستاذ في نفس المعهد. وهما يقدمان هنا صورة بانورامية عن أهم القرون الفرنسية وإنجازاته الضخمة. من المعلوم أن القرن التاسع عشر هو الذي أدى إلى تشكيل الحداثة العلمية والفلسفية والصناعية والسياسية لأوروبا. وهو الذي جعلها تتفوق على كل النطاقات الحضارية الأخرى، كالصين والهند وروسيا، وبالطبع العالم العربي الإسلامي. إنه القرن العظيم، قرن القوميات أو تشكل الدولة القومية الحديثة في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا.. إلخ. ويبتدئ هذا القرن بهزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو الشهيرة عام 1815، وينتهي باندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. في أثناء هذا القرن تشكلت الحداثة السياسية عن طريق تبني النظام الديمقراطي وإعطاء حق التصويت العام للشعب. ولكن هذا التصويت على أهميته ظل محصورا بالرجال البالغين دون النساء. يضاف إلى ذلك أن الطبقات الفلاحية والعمالية والشعبية كانت محرومة من التصويت إلى حد كبير. ولم تسهم في الحياة العامة إلا بشكل تدريجي. ولم تحصل على حقها في التصويت إلا على مراحل.

ولكن الشيء المهم هو أن الحكم أصبح دستوريا وقانونيا، على الأقل في إنجلترا، أعرق ديمقراطية في العالم. ويمكن القول إن فرنسا لحقت بها بعد الثورة الكبرى عام 1789، وبخاصة بعد ثورة عام 1948 حيث أعطت حق التصويت للشعب، ولكن دون النساء. أما في البلدان الأخرى كالنمسا وإسبانيا وإيطاليا فقد ظل الحكم مطلقا استبداديا لفترة طويلة إضافية. وفيما يخص إسبانيا لم يصبح ديمقراطيا إلا بشكل متأخر جدا: أي بعد موت فرانكو عام 1975. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن حرية الصحافة. فقد ناضلت القوى العقلانية المستنيرة طويلا قبل أن تصبح هذه الحرية حقيقة واقعة، وأحيانا كانت ترجع خطوة إلى الوراء كلما تقدمت خطوتين إلى الأمام. ماذا نستنتج من هذا الكلام؟ نستنتج أن الحداثة لا تتشكل بين عشية وضحاها، وأن طريق الديمقراطية والحرية طويل، وعر، مليء بالعراقيل والمطبات. ولكن في النتيجة فإن الشعب سيتوصل إلى مبتغاه وسيطيح بحكم الاستبداد والفساد والأصولية الظلامية مهما طال الزمن. صحيح أن الثمن المدفوع غال، وأحيانا غال جدا، ولكن لا يوجد طريق آخر. فالشعب الفرنسي خاض ثلاث أو أربع ثورات متواصلة قبل أن يتوصل إلى الحكم الديمقراطي الجديد. وقد خضبت شوارع باريس بالدم مرارا وتكرارا قبل أن تتحقق الحرية الدينية والتعددية السياسية والحرية الصحافية ودولة القانون والمؤسسات التي تساوي بين جميع المواطنين بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية أو المذهبية.. إلخ

لقد دفع المثقفون والصحافيون ثمن حرية الصحافة دما ودموعا. فالكثيرون تعرضوا للضغوط، والمراقبة، والقمع، والسجن، وأحيانا القتل بسبب جرأتهم الفكرية ورغبتهم في التعبير عن آرائهم بحرية. والآن ما الذي يحصل في العالم العربي؟ فقط تفصل بين تحررهم وتحررنا مدة قرن ونصف القرن. وهي مسافة التفاوت التاريخي التي تفصل بيننا وبينهم. ينبغي العلم بأن فيكتور هيغو نفي إلى خارج فرنسا مدة عشرين سنة في ظل عهد نابليون الثالث. وقبل أن ينفى كاد أن يتعرض للاغتيال، ولكنه نجا في آخر لحظة. وقد سجن ولداه لأنهما فتحا جريدة في باريس وحاولا التعبير بحرية عن أفكارهما. وبالتالي فحرية الفكر والصحافة لم تسقط على الأوروبيين كهدية من السماء. لقد انتزعوها بنضالهم العنيد وعرق جبينهم، وقل الأمر ذاته عن كبار الكتاب والشعراء. فهؤلاء أيضا تعرضوا للضغوط بسبب أشعارهم أو مقالاتهم أو رواياتهم. يكفي أن نذكر هنا شارل بودلير وغوستاف فلوبير.

فالأول صودر ديوانه الشهير «أزهار الشر» بعد طباعته مباشرة. وقدم صاحبه إلى المحكمة التي عاقبته بدفع غرامة مالية كبيرة. كما طالبوه بحذف بعض القصائد المسيئة للدين والأخلاق الحميدة في نظرهم، وأما فلوبير فقد عوقب على روايته الشهيرة: «مدام بوفاري». فقد اعتبروها جريئة أكثر من اللزوم، بل وتخدش الحياء وتسيء إلى الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن تتمتع بها المرأة الفرنسية. ولولا تدخل ماتيلد أخت الإمبراطور الثالث لعوقب صاحبها بدفع غرامة مالية مثل بودلير أو لربما سجنوه. والآن أصبح ديوان بودلير ورواية فلوبير من أعظم الروائع التي تشكل المجد الأدبي لفرنسا، ولكن في ذلك الوقت ما كانا يعتبران كذلك، وإنما كانا يقعان تحت طائلة القانون.. وما قلناه عن أدباء فرنسا يمكن أن نقوله عن أدباء ألمانيا والنمسا وإيطاليا وسواها من الدول الأوروبية. كلهم دفعوا ثمن حرية التعبير أو حرية الصحافة والإبداع بشكل أو بآخر. وهذا ما يحصل الآن للمبدعين العرب أيضا، انظر مصادرة «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ من قبل الأصوليين، بل وتعرضه للاغتيال بسببها. وانظر ما حصل لـ«ألف ليلة وليلة» وبقية الروايات والمؤلفات على يد محاكم التفتيش العربية والرقابة الدينية المتزمتة.

وأما على المستوى السياسي المحض فيمكن القول إن ألمانيا أصبحت دولة قومية موحدة على يد بسمارك أثناء القرن التاسع عشر. وكذلك الأمر فيما يخص إيطاليا وبعض الدول الأخرى، وأما فرنسا فكانت موحدة حتى قبل الثورة، ولكن وحدتها زادت تراصا بعدها. ويرى المؤلف أن ظهور القطار وسكك الحديد أدى إلى تقوية أواصر الوحدة الوطنية داخل كل بلد على حدة، عن طريق ربط أجزائه بعضها بالبعض الآخر، ففي السابق ما كان الناس يعرفون بعضهم البعض جيدا بسبب بعد الأقاليم عن بعضها وعدم وجود وسائل نقل سريعة، كان المرء يعيش ويموت دون أن يتعرف على معظم مناطق بلده.

ينبغي العلم بأن بريطانيا كانت أول دولة تبني شبكة لسكك الحديد وتستخدم القطار في المواصلات. ولم يحصل ذلك دفعة واحدة على عكس ما نتوهم، وإنما على مراحل، وبالتالي فإنجلترا كانت رائدة وسباقة.

وهذا أمر طبيعي؛ فالثورة الصناعية ظهرت أولا في إنجلترا، ثم انتقلت بعدئذ إلى فرنسا وبقية الدول الأوروبية بالتدريج. فإنجلترا هي التي صنعت الآلة البخارية والسفن الضخمة التي تسير عليها. وكانت تسيطر طيلة القرن التاسع عشر على البحار بفضل أساطيلها الضخمة التي لا يمكن لأي دولة أخرى أن تنافسها عليها، وكانت تسيطر على نصف التجارة العالمية بفضل سفنها التجارية الكثيرة جدا.

وبالتالي، فالقرن التاسع عشر هو قرن الهيمنة الإنجليزية على العالم مثلما أن القرن العشرين هو قرن الهيمنة الأميركية. وأما فرنسا فكانت تجيء في المرتبة الثانية دائما. وكان هذا الوضع يغيظها جدا دون أن تستطيع أن تفعل شيئا، فموازين القوى كانت لصالح الإنجليز، وخاصة بعد أن انتصروا على نابليون.

وأكبر دليل على ذلك حجم المستعمرات لدى كلتا الإمبراطوريتين. ولكن لماذا استعمرت أوروبا العالم في القرن التاسع عشر؟ لأنها كانت قد أصبحت أكبر قوة في ذلك الزمان بفضل سيطرتها على العلم والتكنولوجيا. ينبغي العلم بأن جميع المخترعات التكنولوجية من سكك حديد، وقطارات، وتلغراف، وكهرباء، وآلات بخارية، وأسلحة حديثة، كلها ظهرت في أوروبا الغربية. وبالتالي فكان من السهل عليها أن تستعمر البلاد الأخرى التي ظلت فقيرة ومتخلفة.

فالهند، والصين، واليابان، والعالم العربي والإسلامي، وكذلك العالم الأفريقي، كل هذه البلدان كانت متأخرة علميا وتكنولوجيا واقتصاديا وحضاريا. كانت بدائية أو شبه بدائية بالقياس إلى أوروبا الغربية؛ فالثورة العلمية التي ظهرت في القرن السابع عشر على يد غاليليو وديكارت وكيبلر ظهرت في أوروبا. وكذلك الثورة الفلسفية، والثورة الصناعية، والثورات السياسية الكبرى: وبالأخص الثورة الإنجليزية، فالثورة الأميركية، فالثورة الفرنسية.

كل هذه الانقلابات الكبرى حصلت في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر وأدت إلى تشكيل الحداثة. ثم انتقلت الحداثة بعدئذ إلى بقية أنحاء العالم في القرن العشرين عن طريق الاستعمار المباشر وغير المباشر. هذا ما حصل للعالم العربي مثلا على يد محمد علي الذي كان معجبا بنابليون والحضارة الفرنسية، وهذا ما حصل لليابان والصين وسواهما.

ولا ينبغي أن ننسى الحداثة الفلسفية في ذلك العصر، فالواقع أن القرن التاسع عشر شهد ظهور شخصيات فكرية كبرى ليس أقلها هيغل، أو ماركس، أو نيتشه، أو فرويد. هذا بالإضافة إلى كل منظّري الحركات الاشتراكية والعمالية الذين سبقوا ماركس مباشرة أو لحقوه، فالبورجوازية التي قلبت الطبقة الإقطاعية الأرستقراطية وحلت محلها بعد الثورة الفرنسية سرعان ما وجدت طبقة أخرى تنافسها وتحاربها هي الطبقة البروليتارية العمالية الناتجة عن التصنيع الكثيف في إنجلترا أولا ثم في بقية أنحاء أوروبا الغربية على وجه الخصوص. وعلى هذا النحو ظهرت النقابات العمالية والأحزاب الاشتراكية والشيوعية التي سوف تشغل القرن المقبل: أي القرن العشرين. وفي ذات الوقت ما انفكت الاختراعات التكنولوجية تتوالى. حقا إن القرن التاسع عشر هو قرن الحداثة بامتياز.