جذور السلوك الأميركي عمرها 200 سنة

وضعها الآباء المؤسسون على قاعدة الأخلاق والفكر الحر

TT

كيف سيُقيّم الرئيس باراك أوباما من قبل ناخبيه البيض بعد قتل أميركا لأسامة بن لادن؟ هذا سؤال ستجيب عنه الأيام المقبلة، أما اليوم، فالنظرة إلى الرئيس الأميركي تتحكم بها تلك الرؤية المسبقة لثقافة البيض وثقافة السود، كي يتم تصنيفه في إحدى الجهتين أو في الوسط. ما ملامح وعلامات ثقافة البيض في أميركا؟ هذا ما يحاول أن يعرف به التحقيق التالي.

* من نحو أسبوعين، ثارت ضجة بسبب تصريحات أدلى بها دونالد ترامب، ملياردير العقارات الأميركي، وصاحب عمارات سكنية ومكتبية كثيرة في نيويورك، وملاهٍ في لاس فيغاس، وأتلانتيك سيتي، الذي قال إنه ربما سيترشح لرئاسة الجمهورية ضد الرئيس باراك أوباما. قال ترامب إن أوباما «سلوكه مثلنا»، لكنه يفكر بطريقة مختلفة، وشن هجوما عنيفا، وشخصيا، عليه، وانتقد سياسته نحو ليبيا وغيرها. وقال ترامب إن أوباما ليس فاشلا في ليبيا فقط، ولكن في دول أخرى، وأيضا داخل الولايات المتحدة، وفي كل شيء، وإن أوباما ما كان ليفوز برئاسة الجمهورية لولا أصوات السود.

قبل ثلاث سنوات، عندما كان أوباما سيناتورا في الكونغرس، وأعلن ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، قال عنه زميله السيناتور جوزيف بايدن: «إنه أسود، لكن سلوكه مثلنا. إنه نظيف، وفصيح، وأنيق»، في ذلك الوقت، كان بايدن ينافس أوباما في الترشيح لرئاسة الجمهورية باسم الحزب الديمقراطي، ومن المفارقات أن بايدن هو الآن نائب أوباما.

ماذا يقصد ترامب وبايدن من عبارة «سلوكه مثلنا»؟

يبدو واضحا أن مثل هذه التعليقات لها خلفية عرقية لأن أوباما أسود، ونظرة البيض للسود ظلت استعلائية، و«السلوك الأميركي» هو سلوك الأغلبية البيضاء.

لكن، ما هو هذا «السلوك الأميركي»؟

في كتابها، «ستار سبانغلد مانرز» (أخلاق الأميركيين)، قالت جوديث مارتن، صحافية في صحيفة «واشنطن بوست»: «تعود جذور السلوك الأميركي إلى أكثر من مائتي سنة، بعد أن أسس الآباء المؤسسون الولايات المتحدة، ووضعوا أسس الأخلاق والتصرفات الاجتماعية الأميركية على نفس الفكر الحر الذي أسسوا به الوطن».

وقالت إن للشخصية الأميركية أساسين؛ أولا: الحرية، ثانيا: الفردية. وإن كل أميركي يؤمن بأنه «ملك»، ومنزله «قلعة». هذه إشارة إلى التاريخ الأوروبي المليء بالملوك والنبلاء والقلاع، الذي تمرد عليه الأميركيون.

وقالت إن أساس السلوك الأميركي هو الصمت. وسبب هذا هو أن الحرية تقود إلى الفردية، والفردية تقود إلى الاستقلالية، والاستقلالية تقود إلى السيطرة على النفس، والسيطرة على النفس تبدأ بالسيطرة على اللسان. لهذا، تركز الثقافة الأميركية على الهدوء، إن لم يكن على الصمت. وتدعو الأميركي، قبل أن يتكلم، لأن يفكر، وعندما يتكلم يوجز، وعندما يوجز يركز على معلومة مفيدة.

وقالت جوديث مارتن: «ليس سرا أن الإتيكيت (السلوك الحسن) ليس مطلوبا من الطبقات الأقل حظا في الحياة. لكن المحظوظين يتوقع منهم أن يراعوا قواعد الحياة اليومية. ليس الهدف التعالي على غيرهم. الهدف هو اتباع سلوك اجتماعي يخفف عليهم مشاغل ومشكلات الحياة الحديثة». وأضافت مارتن: «من المفارقات أن الحضارة التي أسسناها صارت معقدة، وتشجع البعض على عدم الالتزام بالسلوك الحضاري. يقول البعض إن حضارتنا هي التي خربت سلوكنا الطيب. لكن الصحيح هو أن سلوكنا الطيب دليل على حضارتنا»، وقالت: «يوجد سلوك طيب في مجتمعات بسيطة وغير متحضرة. وطبعا، عقدت الحضارة حياتنا. لهذا فإن السلوك الطيب في المجتمعات المتحضرة المعقدة هو التحدي الحقيقي».

سنة 1955، أصدر الروائي البريطاني، غراهام غرين، رواية «كوايت أميركان» (الأميركي الهادئ)، عن أميركي جاسوس يخفى تجسسه وراء قلة كلامه، أو ربما بسبب تجسسه قل كلامه. في وقت لاحق صارت الرواية فيلما سينمائيا. وفي أحد المشاهد، يقول صحافي بريطاني كان يتابع الجاسوس الأميركي في سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا): «يغيظني هدوء الأميركيين، ربما إذا تكلموا لن يقولوا شيئا مفيدا، لكن قلة كلامهم تجعلني أحس وكأن عندهم أشياء مفيدة».

وتركز الرواية على هدوء الأميركي وعلى مثاليته، وعلى الميل نحو قلة الكلام (وطبعا ليس الصمت الكامل) في السلوك. لكن، توضح الرواية أن لهذه مساوئ، منها أولا: الجهل، وثانيا: الاستعلاء. وأن تصرفات «الأميركي الهادئ» في فيتنام كانت من علامات فشل التدخل العسكري الأميركي هناك لهذين السببين.

مثل مواضيع أساسية كثيرة في الثقافة الأميركية، موضوع الصمت له جذور دينية. جاء في الكتاب المسيحي المقدس: «حتى الغبي، عندما يصمت، يعتبر حكيما، لأن إغلاق الشفتين من علامات الحكمة»، وطبعا، الصمت من أسس الروحانية، ويستخدم كرمز للسكون الداخلي لمواجهة هجمات الأفكار ومشاغل الدنيا، وللتقرب نحو الذات الإلهية. والصمت في البوذية للسماح للعقل بالانطلاق نحو التنوير الروحي، وفي الهندوسية ينعكس على أشياء مثل اليوغا. والصمت في اليهودية يرتبط بالحكمة، وفي القرآن آيات مثل: «واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير»، وفي الكنائس الأميركية (وبقية بيوت العبادة) يفضل الصمت. غير أن الكنائس الأميركية السوداء تميل إلى العكس، حيث يشيد الناس بالواعظ بأصوات عالية، ويرددون كلمات بعدها، ويتحركون كثيرا، ويرقصون كثيرا. ويشير هذا إلى اختلاف ثقافي بين السود والبيض.

لهذا، عندما انتقد السيناتور بايدن والملياردير ترامب الرئيس أوباما، غمزوا من سواد لونه، وكأنهم يقولون إنه أسود، لكن سلوكه مثل سلوك البيض (ربما لأن أمه بيضاء، ورباه جده وجدته الأبيضان).

ما علامات سلوك أوباما؟

أولا: قلة الكلام التي اشتهر بها منذ أن كان طالبا في جامعتي كولومبيا وهارفارد (عكس ميل السود نحو الهرج والمرج).

ثانيا: أناقته (عكس الصورة النمطية للأميركي الأسود الذي لا يهتم بأناقته).

ثالثا: قلة العاطفة، على الرغم من أن هذا لا يصل لمرحلة الجفاء (عكس ميل السود، وشعوب أخرى في العالم الثالث، نحو العاطفة على حساب العقلانية والمنطق).

بعض معارضي أوباما (وأعدائه) ينتقدونه اعتمادا على هذه الصفات. ويقولون إنه «بارد» أو «متكبر» أو «مثقف» أو «أستاذ جامعي» حتى بعض السود يقولون ذلك. وقالها مرة القس الأسود جيسي جاكسون (رغم أنه أنيق وفصيح، لم يقدر على أن يقدم للأميركيين صورة الأسود الإيجابية).

في سنة 2009، نشرت صحف أميركا صورة لأوباما على صدر صفحاتها الأولى، وهو واقف صامتا، وقد وضع يديه على صدره. كان لحظتها ينتظر تقديمه لإلقاء خطاب في الغرفة التجارية اللاتينية في واشنطن. كان واضحا أن هدف الصورة إظهار أوباما مؤدبا ومهذبا (على الطريقة الأميركية).

أو كما قالت جوديث مارتن: «لتصبح عضوا مقبولا في أي مجتمع، من الأفضل أن تتعلم إتيكيت (سلوك) هذا المجتمع»، ووضع اليدين على الصدر من أهم علامات «الكلام الصامت» وسط الأميركيين، خاصة خلال الاستماع إلى شخص آخر، وأحيانا ربما أثناء الحديث. لكن لا باس من تحريك يد واحدة أثناء الحديث، للتأكيد على نقطة معينة، ولا بأس من ضرب المنضدة ضربا خفيفا في حالات التأكيد القصوى.

تفرق الثقافة الأميركية كثيرا بين الخاص والعام؛ يتصرف الشخص (الملك) داخل منزله (قلعته) كما يشاء، وظهر هذا خلال المناقشات الأخيرة حول المثليين الجنسيين، وذلك أن من حقهم أن يفعلوا ما يريدون ما داموا داخل منازلهم، وأيضا، ظهر في قضايا قانونية في المحاكم عن تعدي الشرطة على استقلالية الشخص بدخول منزله، من دون إذن قانوني، بل هناك قضايا قانونية عن حق الشرطة في تفتيش سيارة شخص، من دون إذن قانوني، على اعتبار أنها «قلعة متحركة».

وتسمح الثقافة الأميركية للأميركي بأن يقول ويفعل كل ما يريد داخل مكان خاص، لكن في المكان العام، يميل الأميركي نحو الصمت والهدوء، ولذلك لسببين رئيسيين:

أولا: تقود الاستقلالية إلى مسؤولية الشخص عن نفسه وسيطرته عليها. وطبعا، الصمت هو الخطوة الأولى.

ثانيا: تقع حدود حرية الشخص عند بداية حرية الشخص الثاني، وإذا تعدت هذه الحدود تصير «عدوانا». والعدوان، كما توضح قضايا أميركية كثيرة وصل بعضها إلى المحكمة العليا (التي تفسر الدستور) يمكن أن يكون جسديا ونفسيا.

عن النقطة الثانية، تحدث بالتفصيل كتاب «ضروريات للرجال: ماذا تفعل ومتى وكيف ولماذا؟» الذي كتبه بيتر بوست، مدير مركز «إيملي بوست» في بيرمنغتون (ولاية فيرمونت) قال: «تطورت الفردية الأميركية، وصار شعارها: كل ما يضايقني نفسيا، وليس فقط كل ما يؤذيني جسديا، اعتداء على حريتي»، وأشار إلى مواضيع مثل: موسيقى عالية (تسبب التوتر)، ولافتة عملاقة (تعرقل منظرا طبيعيا)، ورائحة كريهة (تسبب التقزز). وأشار الكتاب إلى أن الثقافة الأميركية تعتبر أن العطس، والسعال، والتجشؤ، والبصق، أنواع من هذا «العدوان» (وأيضا خطر طبي). وهناك الشرب بصوت عال (مثل رشف الشاي بصوت عال)، والأكل بفم مفتوح (ومضغ الطعام بصوت عال).

من أين حصل الكتاب على هذا السلوك الاجتماعي المطلوب؟

استفاد كاتبه من آراء مجموعة من النساء، وقال إن النساء أكثر من الرجال في التالي؛ أولا: المشاهدة. ثانيا: تعريف الجمال والأناقة. ثالثا: تعريف السلوك الطيب. واعتمادا على ملاحظات نسائية كتب كتابه، وقال إن الرجل قادر على الاستفادة من الكتاب، ليس فقط ليبرهن على أنه حضاري، ولكن ليلفت انتباه النساء أيضا.

ولأن ميل الأميركي نحو الصمت يجبره على تحاشي كثرة الكلام، يقسم الكلام إلى مفيد وغير مفيد. وعلى الرغم من أهمية مواضيع مثل الدين، والوطن، والوظيفة والراتب والحياة الجنسية، فقد صارت من النوع غير المفيد في اللقاءات الشخصية السريعة. وسألت جوديث مارتن: «ماذا أستفيد إذا قلت لي إن راتبك كذا، أو إنك تفضل الجنس كذا، أو إنك نبيل أو أمير أو حتى ملك. إذا كنت أحتاج إلى معلومة معينة عن هذه المواضيع، سأسألك. وبنفس المقياس، أفضل أن لا أتحدث معك عن راتبي وعن حياتي الجنسية»، ويؤكد هذا المنطق الاستقلالية الأميركية بأن أي شخص يفضل ألا يعتمد على شخص آخر.

وربما يبدو هذا غريبا بسبب أهمية المواضيع السابقة في حياة الأميركيين (والشعوب الأخرى). لكن، كما ذكرنا، فصل العام عن الخاص يجعل لكل مقال مقاما. ولهذا، يفضل الأميركي الحديث، إذا تحدث، عن المواضيع العامة، مثل الطقس، والمواصلات، والزحام، وحتى هنا، يفضل الأميركي ألا يحدد موقفا معينا. يقول مثلا: «الطقس جميل اليوم، أليس كذلك؟» بدلا من إصدار حكم نهائي، وهو أن «الطقس جميل». بطريقة أو أخرى، يعتبر الأميركي إصدار إحكام جازمة اعتداء على فكر الشخص الآخر، وربما حتى نوع من أنواع «العدوان».

في الأسبوع الماضي، كتب توم هايدن، في صحيفة «هافنغتون بوست» منتقدا صمت أوباما، ليس الصمت السلوكي، ولكن الصمت السياسي. وأشار إلى أمثلة، منها صمته نحو ما يحدث في سوريا والبحرين ودول عربية أخرى. وصمته نحو عدم محاكمة المتهمين بالإرهاب في قاعدة غوانتانامو أمام محاكم مدنية داخل الولايات المتحدة، وصمته أمام هجوم شخصي عليه من حزب الشاي (الجناح اليميني للحزب الجمهوري) وربما أيضا هجوم ملياردير العقارات دونالد ترامب عليه.

وفسر هايدن صمت أوباما تفسيرين:

أولا: إنه نوع من أنواع التأدب، سيرا على قاعدة السلوك (الإتيكيت) الأميركي. وهو هنا فضيلة.

ثانيا: إنه نوع من أنواع الجهل والتذبذب السياسي (نفس التهمة التي وجهت إلى الأميركي الهادئ في كتاب وفيلم «كوايت أميركان»).

وهكذا، يبدو أن سلوك أوباما هو سلوك أميركي حقيقي، لكنه، مثل سلوك بقية الأميركيين، له أكثر من تفسير.